كتبت: شهد مصطفى

في شهر يوليو الماضي، أعلن حزب الحركة الشعبية لتحرير السودان، الحزب الحاكم في جنوب السودان، تعيين الأمينة العامة للحزب جيما نونو كومبا رئيسة للبرلمان، لتكون أول امرأة تتولى هذا المنصب في البلد الذي استقل عن السودان (الشمال) قبل عشـر سنوات.

وصول جيما نونو كومبا إلى رئاسة البرلمان في جنوب السودان، يعيد إلى الأذهان أسماء العديد من النساء اللاتي واتتهن الفرصة قبلها ليعتلين رئاسة المجالس التشريعية في بلدانهن التي لا تبعد كثيرًا عن جنوب السودان، ومنهن باتريشيا إيتيه أول رئيسة لمجلس النواب في نيجيريا (في العام 2007)، وجويس بامفورد أدو أول رئيسة للبرلمان في غانا (في العام 2009)، وأنّ ماكيندا أول رئيسة للجمعية الوطنية (الهيئة التشريعية) في تنزانيا (في العام 2010)، وكاثرين جوتاني هارا أول امرأة تتولى رئاسة الجمعية الوطنية (الهيئة التشريعية) في مالاوي (في العام 2019)، وقبل كل هؤلاء فريني جينوالا أول رئيسة للجمعية الوطنية لجنوب أفريقيا (الهيئة التشريعية في جنوب أفريقيا)، التي تعد أول رئيسة لمجلس تشريعي في القارة الأفريقية برمتها.

وصلت فريني جينوالا إلى رئاسة الجمعية الوطنية لجنوب أفريقيا في العام 1994، بعد سنوات طويلة من النضال العلني والسري ضد سياسات الفصل العنصري التي أدمت جنوب أفريقيا لعقود، وقد بلغت هذا المنصب عبر أول انتخابات عامة تُجرَى بعد إلغاء نظام الفصل العنصري، والتي كانت أول انتخابات يشارك فيها جميع المواطنين من شتى الأعراق.

بعد الفوز بعضوية الجمعية الوطنية لجنوب أفريقيا (المجلس التشريعي للبلاد)، صوت الأعضاء المنتخبون لصالحها في الاقتراع الخاص برئيسـ/ة الجمعية، وهو المنصب الذي استمرت على رأسه حتى قررت اعتزال العمل السياسي في العام 2004.

في حوار مصوّر أجرته في العام 2015، تقول فريني إنها كانت تتمنى أن تتقلد امرأة رئاسة البرلمان المنتخب بعد إلغاء الفصل العنصري، لما لذلك من مغزى كبير فيما يتعلق بالتغيير، وفكرت بالفعل في شخصية بعينها، لكنها فوجئت بأن نيلسون مانديلا الذي كان يشغل وقتها منصب رئيس حزب المؤتمر الوطني الأفريقي (ANC) الفائز بالأغلبية في الانتخابات، قد قرر ترشيحها لرئاسة البرلمان.

تلمّس الطريق 

فريني جينوالا مواطنة جنوب أفريقية من أصول هندية، هاجر جداها في العام 1870 من الهند قاصدين الاستقرار في جنوب أفريقيا، ومن غير المعلوم تأكيدًا ما إذا كانوا قد هاجروا بمحض إرادتهم أم تم تهجيرهم في إطار برنامج أطلقته الإمبراطورية البريطانية في ستينيات القرن التاسع عشر، لنقل بعض العمّال من مستعمراتها في جنوب شرق آسيا إلى جنوب أفريقيا.

عايشت فريني التمييز العنصري بحكم سيطرة الأقلية البيضاء القادمة من أوروبا على كل شيء في جنوب أفريقيا، وقد أدركت مبكرًا إشكالية التفوق الأبيض المزعوم، ليس فقط بسبب ما شهدت عليه في بلادها، بل لأنها عانت أيضًا من التمييز العنصري في الهند التي ذهبت إليها بصحبة أسرتها في الأربعينيات، قبل أن يرحل عنها المستعمر البريطاني. وخلال فترة تواجدها هناك التي امتدت إلى أربع سنوات، تشكّلت لديها قناعة بأن كل مكان وطأته أقدام المستعمر صار مترعًا بالتمييز والعنصرية القائمين على التفوق العرقي.

عندما عادت فريني إلى جنوب أفريقيا، كانت البلاد على موعد بائس مع تقنين ممارسات الفصل العنصري بتشريعات رسمية، إذ قرر الحزب القومي الفائز بالانتخابات في العام 1948، أن تكون أولى تحركات حكومته الجديدة هي مجموعة من التشريعات التي من شأنها الحفاظ على «التفوق الأبيض» في جنوب أفريقيا، عبر الفصل السياسي، والاجتماعي، والاقتصادي بين الأعراق بما يوسع سيطرة الأقلية البيضاء على مختلف القطاعات.

كان الإعلان عن نظام الفصل العنصري (Apartheid) بمثابة القوة الدافعة لفريني حتى تنخرط في الحراك المناهض لشرعنة الاضطهاد ضد المواطنين ذوي البشرة السوداء، وتشير بعض مصادر المعلومات إلى أنها انضمت بشكل سري إلى حزب المؤتمر الوطني الأفريقي (ANC)، أكبر جماعة منظمة مناهضة للفصل العنصري منذ العام 1912، قبل أن ترسلها أسرتها إلى بريطانيا لاستكمال دراستها الجامعية.

كان بإمكان فريني أن تبتعد عن النشاط السياسي الموسوم بالخطورة بعد سفرها لدراسة القانون بجامعة لندن، حيث حصلت على درجة البكالوريوس بتفوق، وصار بوسعها البقاء ومواصلة الدراسة والعمل الأكاديمي في بريطانيا، إلا أنها اختارت العودة إلى جنوب أفريقيا، وفضلت متابعة السيـر في طريـق المقاومة.

نضـال في الوطن والمنفى

بعد عودتها من بريطانيا، أضحت فريني نشطة بشكل علني ورسمي في الحراك الذي يقوده حزب المؤتمر الوطني الأفريقي (ANC)، إلا أنها اضطرت بعد سنوات قليلة إلى الرحيل مجددًا عن بلادها ليس لأغراض دراسية أو لزيارات عائلية، وإنما فرارًا من حملة اعتقالات واسعة استهدفت قيادات الحزب عقب مذبحة شاربفيل التي وقعت في العام 1960.

في الـ21 من مارس من العام 1960، تجمع آلاف المتظاهرات والمتظاهرين في بلدة شاربفيل، جنوب مدينة جوهانسبرغ، للاحتجاج على قرار أصدرته السلطات يلزم المواطنين ذوي البشرة السوداء بحمل جوازات مرور حتى يسمح لهم بالتنقل داخل البلاد، فجاء رد القوات الشرطية عليهم بإطلاق الرصاص الحي عشوائيًا، ليسقط 69 قتيلًا ويصاب العشرات.

قررت الحكومة في هذا اليوم إعلان حزب المؤتمر الوطني الأفريقي (ANC) منظمة غير شرعية محظور نشاطها، وهو ما ترتب عليه إلقاء القبض على مجموعة من قيادات الحزب، واضطرار مجموعة أخرى إلى الخروج من البلاد إلى المنفى.

بعد سويعات من وقوع المذبحة، تلقت فريني اتصالًا هاتفيًا من والتر سيسولو، الأمين العام لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي (ANC)، يطلب منها ترك البلاد على الفور، بعد أن وردت إليه معلومات تفيد بأن السلطات ستحظر الحزب وتلقي القبض على عدد من قياداته.

انتقلت فريني إلى موزمبيق ومنها إلى تنزانيا حيث دشنت طرق هروب سرية لأعضاء الحزب المستهدفين في جنوب أفريقيا، ومن بينهم نيلسون مانديلا الذي استقبلته وأخفته مؤقتًا في مدينة دار السلام (العاصمة السابقة لتنزانيا).

في تنزانيا أيضًا، أسست فريني مكتبًا لحزب المؤتمر الوطني الأفريقي حتى يستمر نشاطه من خارج البلاد، ومارست العمل الصحافي ساعيةً من خلاله إلى رفع الوعي بانتهاكات حقوق الإنسان في جنوب أفريقيا، إذ شغلت منصب مديرة التحرير لصحيفتي «The Standard» و «The Sunday News» وأطلقت مجلة شهرية بعنوان «رأس الحربة – Spearhead». كما كتبت مقالات في صحف بريطانية مثل «الجارديان – The Guardian» و«الإيكونوميست- The Economist» تطالب فيها المجتمع الدولي باتخاذ مواقف حاسمة من حكومة جنوب أفريقيا العنصرية.

العودة إلى جنوب أفريقيا

قررت حكومة جنوب أفريقيا في العام 1990 – تحت الضغط المحلي والدولي –  رفع الحظر عن حزب المؤتمر الوطني الأفريقي (ANC)، مما مكّن فريني والعديد من قيادات الحزب من العودة إلى وطنهم بعد 30 عامًا في المنفى.

مثّل رجوع فريني إلى جنوب أفريقيا بداية مرحلة أخرى في نضالها المستمر من أجل وطن أكثر عدالة لجميع مواطنيه، إذ شاركت في تأسيس الائتلاف النسائي الوطني الذي حاولت من خلاله أن تجمع نساء من تيارات سياسية مختلفة لتحديد مطالبهن والتعرف إلى تطلعاتهن، بما يضمن النص على حقوق النساء ومنع التمييز ضدهن، في الدستور الذي كان يجري إعداده في إطار عملية تغيير شاملة عرفتها البلاد بعد إلغاء نظام الفصل العنصري.

بعد إقرار الدستور المؤقت في العام 1993 (استمر العمل به حتى العام 1996)، قررت فريني خوض الانتخابات العامة، مرشحة عن حزب المؤتمر الوطني الأفريقي (ANC) الذي نجح في الاستحواذ على 63 في المئة من مقاعد الجمعية العامة لجنوب أفريقيا، بما يوازي 252 مقعدًا من أصل 400 مقعد، أحدها كان لفريني جينوالا التي فازت بعد ذلك برئاسة الجمعية العامة (البرلمان) بترشيح من أغلبية الأعضاء، لتصبح بذلك أول امرأة تتولى رئاسة البرلمان في جنوب أفريقيا والقارة الأفريقية.