تواجه الناجيات من العنف الجنسي العديد من العراقيل إذا ما قررنا الخروج عن صمتهن، أبرزها هو الوصمة الاجتماعية التي تدعمها ثقافة الاغتصاب المتجذرة في المؤسسات والسياسات والمعتقدات. هذه الوصمة التي تلقي بظلالها على كل ركن في حيواتهن، فتصبح دراستهن أو عملهن في مهب الريح، وعلاقاتهن بالمحيطين على المحك، وأمنهن الشخصي في خطر، فضلًا عن زيادة احتمالية ملاحقتهن قضائيًا بدعاوى التشهير إذا كان الإثبات الجنائي للجريمة صعبًا.

ورغم هذه الأثمان الباهظة، تصر بعض الناجيات على كسر الحاجز، فتغدو شهاداتهن الشخصية جزءًا من سلسلة شهادات دفعت بها صاحباتها إلى الفضاء العام لتتخلق ساحة للتضامن والتفاعل فيما بينهن، لا يسقط بسببها المعتدون فحسب، وإنما تتكوّن من جرائها ثقوب وخروق في سقف البنية الأبوية، يصعب بتصاعد الحراك ترميمها.

ما أثبتته التجربة الواقعية هو أن البوح والحكي المتواصلان يساهمان في خلق جدال حول ما كان مُسلّمًا به، ويساعدان في فتح نقاشات جوهرية حول تبريرات العنف الجنسي الأكثر رسوخًا في المجتمع، ومنها ما يتعلق بتحميل الناجية مسؤولية تواجدها بمكان وقوع الاعتداء، والذي يترجمه السؤال شبه الثابت «إيه اللي وداها هناك؟».

وبفضل التدفق المكثف لموجات الاحتجاج ضد العنف الجنسي، خلال السنوات الأخيرة، فقد زادت المحاولات الفردية والتنظيمية لتفكيك التبريرات والرد عليها، وتطوّرت بشكل ملحوظ، إذ خرجت عن الأطر التقليدية لتعتمد على الأدوات الرقمية الحديثة سريعة الانتشار.

إلى جانب ذلك، تواجه الناجيات دفعة من الاتهامات التي اعتاد المعتدون لوكها، خاصة عندما تصيبهم الخيبة إزاء الفضيحة التي لم يعد بإمكانهم تغطيتها، فقد يوّجه المعتدي أو مناصروه للناجية اتهامًا بالبحث عن الشهرة، أو اتهامًا بالرجعية ورفض التغيير بما دفعها إلى تفسيـر ما جرى كاعتداء، وإذا كان المعتدي من ذوي النفوذ أو أصحاب الشهرة والصيت، تُتهم الناجية بـ«الاشتراك في نسج خيوط مؤامرة» ضده للنيل منه ومن سمعته.

تحظى هذه الاتهامات بحيـز من الاهتمام الإعلامي بدعوى حق الرد، وينصت إليها كثيرون في المجتمع كما لو كانوا يبحثون عن ما يشفي غليلهم من النساء اللاتي جسرن على تجاوز الحدود، فيستتبع ذلك تصديق بعض المتابعين في وجود مؤامرة تحاك ضد المتهم بالاعتداء (أي أن كانت درجته)، وربما ضد الجهة أو التيار الذي يمثله. وقد لا يقتصر الأمر على التصديق، فهناك من يروج لهذه المؤامرة ويدافع عنها بكل الأدوات المتاحة أمامه.

السرديات التآمرية وجرائم العنف الجنسي

هناك من المعتدين الجنسيين من يستغل وضعه السياسي أو يتكئ على نجاحه المهني، ليجعل منه درعًا يحتمي به عندما تخرج إلى العلن شهادات تفضح جرائمه، وكلما ظهر اتهام ضده زعم بأنه محاولة لتدميره يقف وراءها حاقدون، وهذا هو ما فعله بالضبط القاضي الأمريكي بريت كافانو الذي رشحه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب لعضوية المحكمة العليا في الولايات المتحدة في العام 2018.

قبل أيام من التصويت على ترشيح كافانو للمحكمة العليا، اتهمته ثلاث نساء بالاعتداء عليهن جنسيًا، مما أدى إلى تعطيل التصويت والتحقيق معه بشأن واحدة من الشهادات الثلاث داخل مجلس الشيوخ.

بعد نفيه التام للاتهامات وتأكيده على احترامه الكامل للمرأة، وصف كافانو جميع الشهادات بالمزاعم التي تهدف إلى تدمير عائلته وسمعته لأغراض سياسية، وهو الإدعاء الذي دعمّه الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، موجهًا إلى الحزب الديمقراطي اتهامًا صريحًا بالوقوف خلف هذه الشهادات. وبالطبع وجدت سردية المؤامرة في هذه الحادثة أرضية خصبة في أوساط المحافظين التابعين للحزب الجمهوري، بالأخص مؤيدي دونالد ترامب.

ركن أيضًا المطرب المغربي سعد لمجرد إلى نظرية المؤامرة في العام 2016، عندما مثل أمام القضاء الفرنسي مُتهمًا بارتكاب جريمة اغتصاب بحق فتاة تبلغ من العمر 20 عامًا، وقد سعى لمجرد ومناصروه إلى تصوير الاتهامات كمحاولات للنيل من سمعة «الفنان الذي بات يحظى بشهرة واسعة في المنطقة العربية»، خاصة بعد النجاح الكبير الذي حققته أغنيته «لمعلم»، وقد لاقى هذا الخطاب قبولًا لدى جانب من جمهور لمجرد، رغم أن الاتهام ليس الأول فقد واجه أيضاً اتهامًا مماثلًا في العام 2010 في الولايات المتحدة الأمريكية، أي قبل أن يحقق شهرته الواسعة بخمس سنوات. وقد استمر تصديق بعضهم لفكرة المؤامرة حتى بعد أن أضيف إلى سجل لمجرد قضيتا اغتصاب أخريان في العامين 2017 و2018.

وعلى النهج ذاته سار الصحافي ومقدم البرامج يسري فوده، عندما تسرّبت إلى الصحف في شهر سبتمبر من العام 2018، أنباء عن فصله من قناة «دويتش فيله» الألمانية وإيقاف برنامجه «السلطة الخامسة»، على خلفية شكاوى مقدمة ضده من عاملات بالقناة، يتهمنه فيها بالتحرش الجنسي.

بالتوازي مع ذيوع الأخبار داخل مصر، نشرت فتاة عبر حسابها على موقع فيسبوك شهادة شخصية تروي فيها تفاصيل محاولة فوده أن يجبرها على ممارسة الجنس معه، فما كان منه إلا أن كتب تدوينة يزعم فيها تعرضه لمؤامرة كبرى، قال في جزء منها «هذه حرب فُرضت علي، أعرف مصدرها وأعرف كيف بدأت وكيف تطورت وأعرف أهدافها.»

صدّق قطاع من جمهور يسري فوده أنه يتعرض لمؤامرة تهدف إلى تشويهه نظرًا لمواقفه السياسية المعارضة، وقد ظلت سردية المؤامرة مقبولة ومُصدّقة بين رقعة لا يستهان بها من متابعي القضية حتى بعد أن أصدرت قناة «دويتش فيله» بيانًا تكشف فيه صحة ما تداولته الصحف حول شكاوى التحرش المقدمة ضد الرجل، مشيـرةً إلى أنه قد فٌصِل من القناة لهذا السبب.

برزت أيضًا سردية المؤامرة حينما نشرت مدونة «دفتر حكايات» في العام 2020، عددًا من الشهادات المُجهلة التي تكشف ارتكاب الصحافي ه.ع جرائم اغتصاب وعنف جسدي، إذ اختار الأخير أن يرد على الاتهامات الموّجهة إليه بمقطع مصور، بـعنوان «كيف تغتال صحفيًا؟»، يوثق من خلاله قيام صحافيتين بمخادعة المدونة حتى تنشر شهادة مفبركة ضده، في محاولة لنزع المصداقية عن الشهادات السابقة.

يكشف المقطع المصور الذي صنعه ه.ع بالتعاون مع الصحافيتين، أن بعض من تابعوا القضية لم يصدقوا فقط فكرة المؤامرة أو يناصروها قولًا بل انتقلوا إلى مناصرتها بالفعل.

مثلما تشترك هذه الوقائع في اتكال المعتدين على نظرية المؤامرة لتجاوز «الورطة» بأقل خسائر ممكنة، يجمع أيضًا بينها وجود قطاع عريض من المؤيدين للتفسير التآمري، بعضهم على استعداد للقيام بالكثير لتغذية هذا التفسيـر وتعضيده.

لماذا يصدقون سردية المؤامرة التي يتبناها المعتدين الجنسيين؟

يشرح الطبيبان النفسيان ستيفان ليواندوسكي وجون كوك، في كتيبهما «نظرية المؤامرة»، أنه عندما يشعر الأشخاص بالعجز أو الضعف يصبحون أكثر قابلية لتأييد ونشر نظريات المؤامرة، لافتين إلى أن مستوى التهديد المتصور لدى الأشخاص يرتبط ارتباطًا وثيقًا بطرح نظريات المؤامرة.

بالنظر إلى حوادث العنف الجنسي، فقد يكون دافع كثيرين ممن يصدقون سردية المؤامرة ويدعمونها هو الشعور بالعجز عن حماية أنفسهم مما سيخلفه سقوط المعتدي حتى إذا كان شخصًا لا تربطهم به أي علاقة، وفي هذه الحالة عادةً ما يتشكل هذا الشعور إما نتيجة تورطهم شخصيًا في فعل شبيه، وإما لأنهم يشعرون بخطر ما على البنية الاجتماعية الأبوية التي يحتمون بها.

وفي كتابه «كيف نعرف ما هو غير ذلك: قابلية الخطأ لدى العقل البشري في الحياة اليومية»، يشير عالم النفس الأمريكي توماس جيلوفيتش إلى أن الأفراد يرون الأدلة والبيانات التي لا تتفق مع يصدقونه أضعف من تلك التي تثبت ما يؤمنون به، كما أنهم يسعون دائمًا إلى الوصول للمعلومات التي تساعدهم على الاستمرار في تصديق ما يصدقونه بالفعل.

بناءً على هذا التحليل، يمكن من الناحية السيكولوجية تفسيـر دوافع هؤلاء الذين يصدقون في وجود مؤامرة ضد المعتدي الجنسي، استنادًا للصورة المتخيلة عنه والغطاء الأخلاقي الذي يتشح به، أو ارتكازًا إلى التصوّرات الذكورية السائدة عن نمط الناجية أو الضحية الحقّة.

ما علاقة الاستدلال المدفوع بتصديق المؤامرة؟

كان علماء النفس قد أشاروا إلى أن نظريات المؤامرة عادةً ما تتماس مع أفكار ومعتقدات متجذرة في الوعي واللا وعي، وهو ما يسمّى علميًا بـ«الاستدلال المدفوع – Motivated Reasoning»، الذي يجعل الفرد يتقبّل المعلومات التي تتوافق مع أفكاره وقناعاته، ويتجنب ويشكك في المعلومات التي تتعارض مع ما يقتنع به.

قد يفسر ذلك السبب وراء إزدهار سردية المؤامرة في كل مرة يلجأ إليها المعتدون الجنسيون، لأنه وفقًا لنظرية الاستدلال المدفوع، يتعامل المؤيد والمناصر للمعتدي مع المعلومات والحقائق بشكل انتقائي، فلا يصدق الحقائق التي تفرض نفسها حتى وإن رأى الشهادات ضد المعتدي تتلاحق كاشفةً بوضوح وجود نمط معين يتبعه في الاستدراج والاعتداء، بما يدلل على أنه معتد جنسي متسلسل.

ما الذي يعوّل عليه المعتدون عند الاستناد إلى سردية المؤامرة؟

حينما يعتمد المعتدون الجنسيون على السردية التآمرية، في غالب الأمر لا يكون الخلاص من الفضيحة هو وحده الهدف، بل يكون الانتقام أحد غاياتهم، ولذلك يسعون بخطابهم إلى تحويل دفة الغضب والعنف نحو الناجيات أنفسهن، وتشير دراسة بعنوان «حل لغز النظرة العالمية للمؤامرة والنشاط السياسي»، صدرت في مارس من العام 2020، إلى أن الأشخاص الأكثر تصديقًا لنظريات المؤامرة، يكونون أكثر قبولًا للعنف ضد أولئك الذين يصدقون أنهم من المتآمرين.