في الثامن من مارس الجاري، خرج وزير العدل المصري بتصريحات إعلامية يؤكد خلالها، أن النساء المصريات سيتم تمكينهن من دخول مجلس الدولة والنيابة العامة، لأول مرة مع بداية العام القضائي الجديد (2021 – 2022)، وذلك بعد توجيه مباشر من رئيس الجمهورية بتفعيل الاستحقاق الدستوري المتمثل فيما نصت عليه المادة الـ( 11) من الدستور بشأن كفالة الدولة حق المرأة في تولي الوظائف العامة ووظائف الإدارة العليا والتعيين في الجهات والهيئات القضائية دون تمييز ضدها.

وقد سارع نادي قضاة مصر (هيئة مستقلة أسسها القضاة في العام 1939) إلى إصدار بيان في اليوم التالي لصدور التوجيه الرئاسي، يقترح فيه فتح باب التقديم للدفعات السابقة من الخريجات، لتمكينهن من الالتحاق بالجهتين القضائيتين، للتأكيد على التزام الدولة تجاه دعم المرأة المصرية.

لكن أي آمال صاحبت القرار تلاشت بعد أيام من صدوره، إذ أعلن مجلس الدولة في الـ14 من مارس الجاري، تفعيل تعيين النساء في المجلس استجابة للتوجيه الرئاسي، ولكن من خلال الموافقة على انتقال عدد من عضوات النيابة الإدارية وعضوات هيئة قضايا الدولة إليه، بما يعني حرمان الخريجات الجامعيات من فرصة الالتحاق بالمجلس.

يتبدى جليًا أن قرار مجلس الدولة يحمل تفعيلًا صوريًا للاستحقاق الدستوري، لا يحقق العدالة لجميع النساء، ولا يتيح لهن فرصة الالتحاق بالمجلس عبر السبل الطبيعية المفتوحة أمام الذكور. ويأتي هذا القرار ليُبطل انتصارًا تصوّرت بعض النساء أنه على وشك التحقق بعد عقود من السعي إليه، ليعود بذلك الزخم إلى نضالهن الذي بدأ قبل 72 عامًا بهدف اقتلاع حائل «الجنس» الذي ابتكرته بعض الهيئات القضائية، وعكفت طويلًا على ترسيخه كقاعدة قانونية وفقهية، لإبعاد النساء عن المناصب القضائية.

«القبضة الذكورية» و«قيم المجتمع».. الحائل بينهن وبين السلك القضائي

بعد ثلاث سنوات من تأسيس هيئة مجلس الدولة كأحد أعمدة القضاء المصري، تخرجت عائشة راتب في كلية الحقوق بجامعة القاهرة في العام 1949، بتفوق جعلها واحدة من الخمسة الأوائل، وهو ما ظنّت أنه يعزز فرصها في الالتحاق بالعمل القضائي، لا سيما مجلس الدولة، وبالتالي ذهبت للقاء عبد الرازق السنهوري رئيس المجلس آنئذٍ، لتتقدم إليه بالأوراق المطلوبة من الخريجين الراغبين في العمل كمندوبين مساعدين، باعتبار هذه الوظيفة هي أول درجات السلم الوظيفي القضائي بالمجلس، وخلال لقائها به أبدى السنهوري موافقته المبدئية بشأن تعيينها، إلا أنها فوجئت لاحقًا بأن قرار التعيين لم يشمل اسمها، واتضح أن السبب هو رفض حسين سري باشا رئيس الحكومة في ذلك الوقت، تعيين فتاة بالسلك القضائي بزعم مخالفة ذلك لقيم وتقاليد المجتمع.

قابلت عائشة القرار بالاحتجاج عليه عبر دعوى قضائية أقامتها أمام مجلس الدولة نفسه، تطعن فيها على استبعادها من قائمة المعينين بالوظيفة رغم استيفائها للشروط، إلا أن وجود الخصم في موقع الحكم وأد الدعوى مبكرًا، حيث قضت المحكمة بعدم قبول الدعوى لعدم وجود سابقة مماثلة.

انغلاق هذه البوابة في وجهها، لم يثنها عن محاولة الدخول إلى القضاء عبر بوابة أخرى، وهي إدارة قضايا الحكومة (هيئة قضايا الدولة حاليًا)، إذ تقدمت بطلب لتعيينها محامية بالإدارة، إلا أنها واجهت التعسف ذاته، فحركت دعوى جديدة أمام مجلس الدولة، تطعن فيها على قرار استبعادها. لكن المجلس رفض الدعوى في العام 1953 وأغلق في وجهها هذه البوابة أيضًا، فاضطرت عائشة إلى المضي في مسارات بديلة، واستطاعت بالمثابرة والدأب أن تحقق إنجازات كبرى وتتقلد مناصب قيادية عديدة في مجالات أخرى غير القضاء.

جملة اعتراضية.. إنصاف البرعي قاضية في الجمهورية العربية المتحدة

بعد إعلان الوحدة بين مصر وسوريا تحت اسم الجمهورية العربية المتحدة في العام 1958، تقدمت المحامية المصرية إنصاف البرعي وهي إحدى خريجات كلية الحقوق بجامعة القاهرة، إلى مجلس القضاء الأعلى بطلب لتعيينها قاضية في المحاكم داخل سوريا حيث كانت تقيم وقتذاك، وقد قوبل طلبها بالموافقة، وتم تعيينها قاضية بمحاكم الأحداث في سوريا. لكن قصة القاضية إنصاف البرعي سرعان ما انتهت مع فض الوحدة بين البلدين بعد ثلاث سنوات فقط، وطواها النسيان بمرور الزمن.

الدستور والمجتمع.. يدًا بيد للحيلولة دون تعيينهن بمجلس الدولة والنيابة العامة

أصدرت مصر دستورًا مؤقتًا في العام 1964 لانتفاء العمل بدستور الجمهورية العربية المتحدة، استمر العمل به حتى صدر دستور العام 1971، الذي ظل العمل به ساريًا لأربعة عقود.

وقد مكّن دستور العام 1971 التيارات الإسلامية والأصوليين من ممارسة التمييز ضد النساء في كثير من مناحي الحياة بغطاء دستوري من خلال المادة الثانية فيه، التي نصت على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي أساس التشريع في البلاد، فصارت الشريعة مظلة للقوانين والأحكام القضائية.

ويتجسد ذلك بوضوح في قضية هانم محمد حسن، الموظفة بمجلس الدولة التي تقدمت في العام 1978، بطعن على رفض تعيينها كمندوبة مساعدة بالمجلس لعلة الجنس، وعندها ظهرت المادة الثانية في الدستور كحجة تذرع بها القضاء الإداري في حكمه، الذي أكد عدم أحقيتها في شغل الوظيفة استنادًا للمذاهب الفقهية التي لا تجيز للنساء تولي القضاء، وهي مذاهب: الحنابلة، والمالكية، والشافعية.

اتكاءً على المادة الثانية أيضًا، بررت النيابة العامة (الهيئة القضائية التي يحق لها تحريك الدعاوى الجنائية) معارضتها ورفضها التحاق النساء بها، ومن بينهن فاطمة لاشين التي امتنعت الهيئة عن تعيينها في العام 1992، وحينما قررت فاطمة الدفاع عن حقها عبر إقامة دعوى قضائية تطعن فيها على قرار النيابة العامة باستبعادها من المعينين، اضطرت إلى مرافقة دعواها التي طافت المحاكم لما يقرب من 13 عامًا، حيث انتقلت من مجلس الدولة إلى المحكمة الدستورية العليا، ومنها إلى محكمة النقض، وفي النهاية لم تصل إلى مبتغاها.

الدخول الموسمي إلى الهيئات القضائية

أصدر رئيس المحكمة الدستورية العليا في شهر يناير من العام 2003، قرارًا بتعيين المحامية تهاني الجبالي ضمن هيئة المستشارين بالمحكمة، بعد موافقة المجلس الأعلى للهيئات القضائية برئاسة وزير العدل آنذاك على ترشيح الجمعية العمومية للمحكمة الدستورية لها، ويعتبرها المؤرخون أول قاضية مصرية في التاريخ الحديث، نظرًا لأن سابقة تعيين إنصاف البرعي كانت في عهد الجمهورية العربية المتحدة (مصر-سوريا)، وشغلت حينها إنصاف منصبها على الأراضي السورية وليس في المحاكم الموجودة في مصر.

ولكن رغم التفاؤل الذي صاحب تعيين تهاني الجبالي بالمحكمة الدستورية العليا، لم تصل أي امرأة أخرى إلى منصة القضاء إلا بعد أربع سنوات، عندما أصدر رئيس الجمهورية في شهر إبريل من العام 2007، قرارًا بنقل 30 عضوة بالنیابة الإداریة إلى جهات القضاء العادي وتعیینهن كقاضیات في المحاكم الاقتصادیة، ومحاكم الأسرة، والمحاكم المدنیة، والمحاكم الجنائیة، ثم صدر قرار جمهوري آخر في العام التالي، بنقل 12 عضوة بالنیابة الإداریة وهیئة قضایا الدولة إلى جهات القضاء العادي.

بعد ذلك، انقطع دخول النساء إلى الهيئات القضائية حتى العام 2015، الذي صدر خلاله قرار جمهوري بتعيين 26 من أعضاء النيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة، كقاضيات بمحاكم الجنايات والجنح، من بينهن ثماني مستشارات بدرجة رئيسات محكمة من الفئة «أ»، وثلاث بدرجة رئيسات محكمة من الفئة «ب»، إضافة إلى انتقال 15 مستشارة بدرجة قاضيات.

كانت هذه آخر تعيينات النساء بالسلك القضائي رغم أن الدستور المصري الذي تم إقراره في العام 2014، اعترف في مادته الـ(11) بحق النساء في الالتحاق بالسلك القضائي إذ نصت المادة في الجزء الثاني منها على «وتعمل الدولة على اتخاذ التدابير الكفيلة بضمان تمثيل المرأة تمثيلًا مناسبًا في المجالس النيابية علي النحو الذي يحدده القانون، كما تكفل للمرأة حقها في تولي الوظائف العامة ووظائف الإدارة العليا في الدولة والتعيين في الجهات والهيئات القضائية دون تمييز ضدها.»

وشدد الدستور على هذا الحق في مادتيه الـ(9) والـ(14)، إذ نصت الأولى على «تلتزم الدولة بتحقيق تكافؤ الفرص بين جميع المواطنين دون تمييز»، ونصت الأخيرة في جزء منها على «الوظائف العامة حق للمواطنين على أساس الكفاءة، دون محاباة أو وساطة، وتكليف للقائمين بها لخدمة الشعب، وتكفل الدولة حقوقهم وحمايتهم.»

لكن هيئتي مجلس الدولة والنيابة العامة، لم تستجيبا لنصوص الدستور واستمرتا في إقصاء النساء عن منصتيهما، وغضت الهيئات القضائية الأخرى الطرف عن معالجة إشكالية التمثيل شديد الضآلة للنساء داخلها، وبالتالي ظلت نسبة القاضيات خلال الأعوام الخمس الأخيرة 0.5 في المئة فقط، وهي نسبة مخزية خاصة أن نسبة القاضيات في دول عربية أخرى تتجاوز الثلث كالجزائر التي تبلغ النسبة فيها 38 في المئة، فيما تقترب النسبة من النصف في تونس إذ تصل إلى 48 في المئة.

لا تغيير بعد الدستور: مجلس الدولة يُبقي أبوابه موصدة أمامهن

تقدمت أمنية جاد الله وما يزيد عن 20 فتاة في العام 2014 بطلب لسحب أوراق التقدم لشغل وظيفة مندوب مساعد في مجلس الدولة، ورغم إقرار الدستور لحق النساء في الالتحاق بجميع الجهات القضائية، رفض المجلس تسليمهن ملفات التقديم للوظيفة، فحررت الفتيات محضرًا بالواقعة لدى أحد أقسام الشرطة.

وبعد شهرين من الواقعة، أقامت أمنية دعوى قضائية أمام المحكمة الإدارية العليا، تطعن على قرار مجلس الدولة بالامتناع عن تسليم خريجات كليات الحقوق والشريعة، ملفات التقديم لشغل وظيفة المندوبين المساعدين، ودشنت صفحة باسم «المنصة حقها» على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، للتعريف بقضيتها، ولاستقطاب مزيد من الدعم لحق النساء في اعتلاء منصة القضاء، وإيقاف التمييز ضدهن في هذا المجال.

اللافت أن هيئة المفوضين بمجلس الدولة أصدرت في العام 2015، تقريرًا استشاريًا بشأن الطعن المقدم من أمنية جاد الله، يوصي برفض الدعوى لعدم صلاحية المرأة لاعتلاء منصة القضاء، ضاربة بمواد الدستور عرض الحائط. وقد كان للمجلس ما أراد إذ انتهى مصير الدعوى إلى الرفض في إبريل من العام 2017.

أقامت أمنية أيضًا دعوى أخرى أمام محكمة القضاء الإداري تطالب بوقف تنفيذ قرار رئيس الجمهورية رقم 356 لسنة 2015، الخاص بتعيين خريجي كليات الحقوق والشريعة والقانون والشرطة، مندوبين مساعدين بمجلس الدولة، لإغفاله أحقية الخريجات في الوظيفة ذاتها، إلا أن حكم المحكمة الذي صدر في العام 2020، لم يأخذ منحى مغاير للأحكام القضائية السابقة في مسألة تعيين النساء بمجلس الدولة، فقد قضى أيضًا برفض الدعوى.

آثرت أمنية أن تخوض معركة أخرى رغم الإحباطات المتلاحقة، متمسكةً بالأمل في إمكانية تحقيق نتيجة لصالحها، فتقدمت في يناير الماضي بطعن آخر أمام المحكمة الإدارية العليا، تطالب فيه بوقف تنفيذ وإلغاء الحكم الصادر من محكمة القضاء الإدارى برفض دعوى تعيين قاضيات بمجلس الدولة.

ومع صدور قرار مجلس الدولة بقصر التعيين على عضوات هيئة النيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة، يبقى الوضع مأزومًا، وتدخل أمنية إلى فصل جديد من التقاضي في ظل أجواء لا تنبئ بانفراج وشيك، رغم أن بوادر استفاقة من السبات الذي دخلته قضية تولي النساء للمناصب القضائية عمومًا، بدأت تلوح في شهر ديسمبر الماضي، حينما أصدر رئيس الجمهورية قرارًا بتعيين ثلاثة نواب جدد لرئيس المحكمة الدستورية العليا، ومن بينهم فاطمة الرزاز عميدة كلية الحقوق بجامعة حلوان، لتكون ثاني امرأة تنضم إلى المحكمة  وتعتلي هذا المنصب خلفًا للمستشارة تهاني الجبالي، وبعد أن أكد وزير العدل خلال مقابلة مع برنامج «كلمة أخيرة» الذي تذيعه قناة «أون إي – ON E» الفضائية، أن الفترة المقبلة ستشهد تعيين قاضيات «لأول مرة في مجالات مختلفة من العمل القضائي.»

للأسف لا يبدو أن التحركات الأخيرة ترمي إلى إرساء قواعد ونهج بل إنها أقرب إلى صحوة مؤقتة كما حدث سابقًا، ولن تسفر إلا عن تمكين زائف وتسكين وقتي لغياب العدالة؛ ولذلك ستتابع موجات النضــال حتى تتمكن النسـاء من انتزاع انتصار فعلي.