نشــرت مبادرة آنينبرغ للشمول (Annenberg Inclusion Initiative)، في الـ26 من فبراير الماضي، دراسة حول التعددية والتنوع في الأفلام والمسلسلات التي أنتجتها شبكة نتفليكس (Netflix) خلال العامين 2018 و2019، لتكشف نتائجها انطلاق منصة العرض الأشهر في العالم نحو تحقيق المساواة بين الجنسين على الشاشة وخلفها، بوتيرة أسرع من تلك التي تمضي بها شركات الإنتاج السينمائي الكبرى في الولايات المتحدة باتجاه الهدف ذاته، الذي صار أولوية في هوليوود بفضل حِراك #Metoo الذي هبت رياحه قبل ما يقرب من أربع سنوات.

وقد أجرت مبادرة آنينبرغ للشمول، المعنية بمعالجة غياب المساواة في مجالات الترفيه، هذه الدراسة بعد أن طلبت إدارة شبكة نتفليكس (Netflix) من مديرة المبادرة ستايسي سميث إعدادها ونشر نتائجها بشفافية تامة، نظيـر دفع جميع النفقات اللازمة لإتمامها، ويرجع ذلك إلى سببين رئيسين؛ أولهما هو مسعى الشبكة إلى إثبات اتخاذها خطوات جادة في سبيل تحقيق المساواة والتنوع والاندماج على مستويات عديدة، كالهيكل الوظيفي، وصنّاع الأعمال، والمحتوى الذي تنتجه، أما السبب الثاني فهو رغبة الشبكة في تحديد أوجه القصور التي تعرقل وتعطل الوصول إلى تحقيق المساواة بين الجنسين وضمان التنوع العرقي والجندري.

وبخصوص الأرقام الواردة في الدراسة بشأن تمكين النسـاء على الشاشة وتقديم قصص تدور أحداثها حول شخصيات نسائية، فقد بينت النتائج أنه في العام 2019، وصلت نسبة أفلام ومسلسلات نتفليكس الأصلية، التي تصدّرت بطولتها شخصية نسائية أو تقاسمتها مع شخصية ذكورية إلى 55.2 في المئة، بما يمثل ارتفاعًا عن النسبة الخاصة بالعام 2018 والبالغة 48.6 في المئة.

وفي العامين المُيعنين للدراسة، وصلت نسبة الأفلام التي أنتجتها نتفليكس وكانت بطولتها الرئيسة في يد شخصية نسائية أو تقاسمتها مع شخصية ذكورية، إلى 48.4 في المئة، بينما بلغت نسبة الأفلام التي تحقق فيها هذا الأمر بين الـ200 فيلم الأكثر حصدًا للإيرادات عبر شباك التذاكر السينمائي التقليدي خلال الفترة ذاتها، 41 في المئة.

تتسع الفجوة بين نتفليكس وشركات الإنتاج السينمائي الكبرى، فيما يخص مشاركة النسـاء في أحد الأدوار الرئيسة خلف الكاميرا وهو الإخراج، إذ  مثلت نسبة النساء اللائي أخرجن أفلامًا لصالح نتفليكس 23.1 في المئة، من إجمالي مخرجي الأفلام الأصلية للمنصة خلال العامين. في المقابل، بلغت نسبة النساء اللاتي أخرجن أفلامًا حلّت بين المجموعة التي اجتذبت أعلى الإيرادات عبر شباك التذاكر، خلال الفترة نفسها 7.6 في المئة.

يتقلص الفارق نوعًا ما فيما يتعلق بكاتبات السيناريو، إذ مثلت نسبة كاتبات الأفلام الأصلية لنتفليكس خلال العامين المحددين للبحث  25.2 في المئة، بينما سجلت الأفلام التي حازت على أعلى الإيرادات عبر شباك التذاكر السينمائي، حضورًا للكاتبات بنسبة 16.7 في المئة.

وقد توّصلت الدراسة إلى وجود رابط وثيق ولصيق بين حضور النساء في المواقع الرئيسة خلف الشاشة لا سيما في الكتابة والإخراج من ناحية، والمحتوى والشخصيات المعروضة على الشاشة من ناحية أخرى، مشيـرةً إلى أن الأفلام التي ضمت بين فريق الإخراج امرأة واحدة على الأقل كانت أكثر انحيازًا إلى النساء على الشاشة؛ من خلال الحضور كشخصيات رئيسة، أو ضمن الشخصيات المحورية، أو بين الشخصيات الناطقة في هذه الأفلام. وقد اتضح ذلك بعد عقد مقارنة بين حجم الحضور على الشاشة في هذه الأفلام، وحجمه في تلك التي لم تكن النساء بين فريق كتابتها أو إخراجها.

في الندوة التي نظمتها مبادرة آنينبرغ للشمول للإعلان عن إطلاق الدراسة، أكدت مديرتها ستايسي سميث أن نتفليكس (Netflix) حققت نموًا ملحوظًا في تمكين النساء على الشاشة وخلفها، مؤكدةً أن المبادرة ليس لديها علم بأن أي شركة أخرى في مجال الإنتاج الإبداعي غير نتفليكس، تجعل التنوع جزءًا شفافًا من خططها.

لكن نتفليكس لم تحقق تقدمًا في كل المؤشرات التي قصدت الدراسة قياسها، فقد لفتت ستايسي سميث إلى أن الدراسة حددت أيضًا نقاط الضعف التي تستدعي تغييرًا أسرع، خاصة بالنسبة إلى تمثيل المجموعات المهمشة لأسباب عرقية، أو إثنية، أو لكونها جزءًا من مجتمع الميم عين، بالإضافة إلى ذوات وذوي القدرات الخاصة.

ليست كل الأمور جيدة.. والسبب: غض الطرف عن تعدد الهويات

يظل التقدم الذي حققته نتفليكس على صعيد تمكين النسـاء منقوصًا، إذ توّصلت الدراسة إلى أن المساحات والمواقع التي شغلتها النساء، سواء خلف الشاشة أو أمامها، لم تشملهن باختلاف أصولهن العرقية والإثنية، وتوجهاتهن الجندرية، وحالاتهن الصحية، إذ لا يزال تمثيـل الشخصيات النسائية والذكورية من الشعوب الأصلية، والمنحدرين من أمريكا اللاتينية وآسيا، ومنطقة غرب آسيا وشمال أفريقيا (المعروفة باسم: الشرق الأوسط) ضعيفًا، ولم تخرج نسب تمثيل أصحاب هذه الهويات في أدوار البطولة الرئيسة، وفي الأدوار الأكثر أهمية خلف الشاشة (الإخراج، الكتابة، إدارة الإنتاج)، عن 1 إلى 2.5 في المئة.

بالإضافة إلى ذلك، تخلفت نتفليكس عن شركات الإنتاج السينمائي الكبرى في تمثيل ذوات وذوي القدرات الخاصة على الشاشة، وفي تقديم قصص تدور حولهم بشكل أساسي، إذ بلغت نسبة أفلام نتفليكس التي تصدرتها شخصيات من ذوي الاحتياجات الخاصة 11.9 في المئة، بينما وصلت النسبة بين الأفلام التي حظيت بأعلى الإيرادات عبر شباك التذاكر السينمائي إلى 14 في المئة، إلا أن الدراسة لم تتناول حضور ذوات وذوي القدرات الخاصة في المواقع الرئيسة خلف الشاشة في الناحيتين.

أفادت مبادرة آنينبرغ للشمول في خاتمة الدراسة، بأنها الأولى في سلسلة دراسات ستصدرها لاحقًا، بهدف متابعة التقدم الذي تحرزه نتفليكس (Netflix) في سبيل تحقيق المساواة بين الجنسين، وللتحقق من اتخاذ الشركة ما يلزم من أجل سد الفجوات الواضحة في تمثيل ودمج مختلف الهويات والمجتمعات أمام الشاشة وخلفها.

كلمة السر: #Metoo

هذه الخطوات لم تأتِ أبدًا طواعيةً، فما تقوم به شركة نتفليكس (Netflix) أو غيرها من شركات الإنتاج السينمائي الكبرى، من إجراءات هدفها معالجة غياب المساواة الجندرية، يجسد استجابة لضغط مكثف ومجهود متواصل من ناشطات نسويات، ومنظمات نسوية على رأسها منظمة «الوقت انتهي- Time is Up » التي انبثقت من رحم حِراك «#Metoo- #أنا_أيضًا»، بهدف خلق بيئة آمنة للنساء العاملات، لا سيما العاملات في صناعة الترفيه، وإنهاء العنف والتمييز القائمين على أساس النوع الاجتماعي داخل مؤسسات العمل.

كان وسم #Metoo قد انتشـر على نطاق واسع داخل الولايات المتحدة وخارجها في أكتوبر من العام 2017، عقب نشر الصحافة الأمريكية لشهادات نساء عاملات بصناعة السينما، يفصحن فيها عن جرائم الاعتداء والاستغلال الجنسيين، التي ارتكبها بحقهن أحد أقوى الرجال في هوليوود، وهو المنتج السينمائي هارفي واينستين، الشريك المؤسس لشركة واينستين لإنتاج الأفلام.

أحدث حِراك #Metoo هزةً كبرى داخل المجتمع الأمريكي، وترددت أصداؤه حول العالم. وخلال العام الأول بعد انطلاقه، سقط عشرات المعتدين الجنسيين في كثير من المجالات، وتجاوز عدد الشخصيات العامة التي نال منها الحِراك 200 شخص في الولايات المتحدة فقط، بعد أن قادت شهادات الناجيات من جرائمهم إلى عزلهم من مناصبهم أو فصلهم بشكل تام من وظائفهم، فضلًا عن إحالة بعضهم إلى المحاكمة، إلا أن التبعات الأكثر بزوغًا لحِراك #Metoo ظهرت في المجال الذي انطلقت منه شرارته الأولى وهو صناعة الدراما، إذ تمخض الحِراك عن تشكيل كيان منظم يترجم صرخات الاحتجاج والمطالب النسوية إلى تحركات عملية على الأرض، وهو مؤسسة «انتهى الوقت- Time is UP» التي تم تدشينها بدعم من 300 امرأة تعمل في صناعة الترفيه.

وقد بدأت المؤسسة في العام 2018، نشاطها الرامي إلى إنهاء العنف والتمييز ضد النساء في صناعة الأفلام وتحقيق المساواة الجندرية في هذا المجال، من خلال حملات ضغط، وحوارات متتابعة مع شركات الإنتاج السينمائي، والنقابات، والاتحادات العمالية، كالاتحاد الأمريكي لفناني التليفزيون والإذاعة. بالإضافة إلى تقديمها الدعم القانوني للعاملات في مجال صناعة الأفلام اللاتي تعرضن لحوادث عنف جنسي، وإصدارها كتيبات إرشادية حول آليات الحماية العاجلة عند وقوع هذه الجرائم.

تسعى مؤسسة «انتهى الوقت- Time is UP»  إلى زيادة تمثيل النساء في صناعة الأفلام الناطقة بالإنجليزية (في الولايات المتحدة وبريطانيا)، خاصة في المواقع الرئيسة كالإخراج والإنتاج وكتابة السيناريو، وتضغط من أجل استحداث آليات من شأنها حمايتهن من العنف والاستغلال الجنسي خلف الكاميرا، وأمامها أثناء تصوير المشاهد خاصة المشاهد الجنسية. كما تحاول المؤسسة إقناع أصحاب الأعمال والمشرعين بإقرار المساواة في الأجور بين النساء والرجال في أماكن العمل.

ولتتحول الأهداف إلى حقائق، أطلقت المؤسسة في العام 2019، حملة ضغط بالتعاون مع مبادرة آنينبرغ للشمول، حملت اسم «تحدي الـ4%»، هدفها هو دفع شركات الإنتاج السينمائي إلى الالتزام بالتعاون مع المخرجات، بما يساهم في معالجة الإقصاء القائم والموثق بالبحث والدراسة.

ويعود السبب وراء اختيار «تحدي الـ4%» عنوانًا للحملة، إلى ما كشفته دراسة أعدتها مبادرة آنينبرغ للشمول، عن نسبة النساء اللاتي أخرجن أفلامًا من الـ 200 فيلم الأكثر حصدًا للإيرادات خلال العامين 2017 و2018، حيث بلغت 4%  فقط.

وقد استجاب للحملة عدد من شركات الإنتاج السينمائي الكبرى مثل يونيفرسال (Universal)، ومترو غولدوين ماير (MGM)، وباراماونت بيكتشرز (Paramount)، ووارنر برذرز (Warner Bros)، وديزني (Disney).

لعبت أيضًا المؤسسة دورًا محوريًا في تحفيز العديد من شركات الإنتاج، ومن بينها نتفليكس (Netflix)، على تعيين منسقين للمشاهد الحميمة والجنسية، بهدف صياغة ضوابط ووضع قواعد تحمي الممثلات مما قد يجدنه استغلالًا واستباحة لأجسادهن، وتحول دون وقوعهن تحت ضغوط من المخرجين أو المنتجين أو الممثلين المشاركين، للقيام بأشياء أو القبول بأمور لا يستسغنها.

وفيما يتعلق بالمساواة في الأجور بين النساء والرجال، تنفذ المؤسسة حاليًا حملة احتجاجية بعنوان «Time is Up, Pay Up»، تطالب بالتوقف عن ممارسة التمييز ضد النساء العاملات والإسراع في سد فجوة الأجور، وتتسع هذه الحملة لتخاطب النساء وأصحاب الأعمال في مختلف القطاعات وليس قطاع الترفيه فحسب.

بيت القصيد فيما يخص تقديم هذه القراءة والخوض فيما سبق من تفاصيل، ليس الاحتفاء بطرف ما، وإنما تأمل التجربة التي بدأت بكلمتين (أنا أيضًا) فتعاظم آثرهما، وانطلق من ورائهما حِراك هائل، أدى إلى تغيير ملموس في القواعد التي تسير عليها أضخم شركات الإنتاج السينمائي ومنصات العرض في العالم.