خلال شهر مايو الماضي، دوت أصداء عدد من الجرائم الوحشية في إيران وباكستان، بعد أن راح ضحيتها فتيات لا تتجاوز أعمارهن الثامنة عشرة، وهي جرائم وفق القوانين القائمة في البلدين، إما سيتجاوزها مرتكبوها بعقوبات مُخفّفة أو من دون عقاب على الإطلاق.

في الجمهوريتين الإسلاميتين إيران وباكستان، ترزح النساء والفتيات تحت وطأة الحكم الديني الذي ينتهك حقوقهن بالقانون، ويسمح بالتصالح مع مرتكبي الجرائم التي تستهدفهن من خلال تشريعات تستمد أحكامها من الشريعة، ولذلك تحل الجارتان بشكل دائم واعتيادي في قوائم الدول الأسوأ للنساء، فضلًا عن تأخرهما الملحوظ في تقارير الفجوة العالمية بين الجنسين، وآخرها تقرير العام الجاري 2020 الذي وضع إيران في المركز 148 في القائمة التي تشمل 153 دولة، بينما حلت باكستان في المركز 151، إذ لم يتأخر عنها سوى العراق واليمن.

في إيران التي يعيش على أرضها ما يزيد عن 41 مليون امرأة، انتفضت النساء في نهاية شهر مايو الماضي ضد الحماية القانونية التي يتمتع بها الذكور من مرتكبي جرائم القتل بزعم الدفاع عن ما يسمى بــ«شرف العائلة»،  ونددت ناشطات نسويات بالإبقاء على التخفيف القانوني في كل من جرائم القتل بدعوى حماية «الشرف» وجرائم قتل الأطفال على أيدي الآباء، وذلك بعد أن ذاعت أخبار وتفاصيل جريمة قتل شديدة الدموية وقعت في محافظة غيلان شمال البلاد، إذ استغل أب وجوده في المنزل مع ابنته بمفردهما بعد خروج بقية أفراد الأسرة، ودخل إلى غرفتها أثناء نومها، وقتلها بمنجل (أداة زراعية تستخدم في الحصاد)، ثم فصل رأسها عن جسدها، ودافعه هو  الحفاظ على الوهم الذكوري المُسمّى بـ«الشـرف».

تصريح قانوني بالقتل

حسب صحف إيرانية، كانت رومينا أشرفي البالغة من العمر 14 عامًا، قد تركت منزلها ورحلت مع شاب عشريني تربطها به علاقة حب بعد أن رفض الأب خطبتهما، فتوجه الأخير إلى الشرطة وأبلغ عن تغيبها، وبعد التوصل إليها تم إعادتها إلى أسرتها رغم تأكيدها لرجال الشرطة أن حياتها ستكون في خطر إذا ما أعيدت إلى منزلها، ومع ذلك لم يُلقوا بالًا لمخاوفها.

في المقابل، لم تتحفظ الشرطة على رفيقها ولم توجه إليه أي تهم، رغم أن ما فعله تعتبره القوانين في دول عديدة اختطافًا واغتصابًا لقاصر، لأن فتاة مثلها لم تبلغ السن القانونية التي تؤهلها للموافقة على العلاقة الجنسية، ويتصل ذلك بإشكالية تحديد القانون الإيراني لسن الزواج للفتيات بـ13 عامًا، والسماح بزواجهن قبل إتمام هذا العمر إذا حصلت الأسرة على إذن من المحكمة.

عقب إعادتها قسرًا، عقد الأب النية على قتل ابنته بعد أن تأكد من أن جريمته لن تقوده إلى الإعدام أو الحبس طويل الأمد، عن طريق سؤال أحد المحامين عن العقوبة المقررة في حالته، وقد وجد لديه ما يزيده إصرارًا واطمئنانًا.

طبقًا للمادة رقم (299) من قانون العقوبات الإيراني المُعدّل، لا يُقتص من الأب أو الجد للأب الذي يقتل الابن أو الابنة، وإنما تقتصر العقوبة على دفع الدية والحبس التعزيري الذي يتراوح بين ثلاثة شهور إلى عشر سنوات ليس أكثر.

ووفقًا لفلسفة التشريع المبنية على تقديس الأبوية، فإن هذه الأحكام التي تشرعن إهدار حيوات الأطفال في سبيل الحفاظ على وجود «الآباء»، لا تنطبق على الأم والجد أو الجدة للأم إذا ارتكبوا جريمة القتل بحق أحد الأبناء، فضلًا عن أن الحماية من عقوبة الإعدام التي يمنحها القانون الإيراني للآباء يحرم منها الأطفال، إذ يقر القانون عقوبة الإعدام لمن هم دون الثامنة عشرة في بعض الجرائم، وقد جرى تطبيق هذه العقوبة على زينب سيكانفاند لوكران في أكتوبر من العام 2018، وهي فتاة قتلت زوجها عندما كانت في السابعة عشرة، بعد معاناتها من تعنيفه لها جسديًا ونفسيًا على مدار سنتين.

جدير بالذكر أن إيران واحدة من الدول التي وقعت وصادقت على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الذي ينص في الفقرة رقم (5) من مادته السادسة على عدم جواز الحكم بالإعدام على كل من هم دون الثامنة عشرة.

علاوة على ذلك، يوفر قانون العقوبات الإيراني حصانة لقتلة الفتيات والنساء على خلفية الإدعاءات الذكورية المرتبطة بالدفاع عن «شرف العائلة» المزعوم، بإقراره حق القاتل في دفع الدية في مقابل الحصول على عفو من ذوي الضحية، وهؤلاء قد يكونوا مشاركين في الجريمة إما عبر الموافقة والتأييد أو عبر الصمت عنها، وبمزيد من الإزدراء للنساء يقضي القانون في مادته رقم (544) بأن تكون دية المرأة المقتولة نصف نظيرتها للرجل.

أما إذا كان القاتل هو الزوج، فإن المادة رقم (630) من قانون العقوبات الإيراني المُعدّل في العام 2013 تبيح للرجل قتل زوجته في حالة الخيانة الزوجية، بينما لا يعطي القانون الحق نفسه للمرأة. وفي ضوء صعوبة أو بالأحرى استحالة إثبات وقوع هذا الحدث عن طريق شهود مثلما توجب الشريعة الإسلامية، فإن الرجال يستغلون هذه المادة لإدراك النجاة من العقاب في جرائم قتل الزوجات بزعم الدفاع عن «الشرف».

السخط الذي عم أرجاء البلاد وتنديد المنظمات الحقوقية الدولية بجريمة القتل المروّعة التي قضت إثرها رومينا، أرغما الرئيس الإيراني حسن روحاني على مطالبة مجلس صيانة الدستور بالإسراع في الموافقة على مشروع القانون المتعلق بحماية الأطفال والمراهقين من الإيذاء النفسي والجسدي، وبعد أن ظل هذا القانون معلقًا ومعطلًا لما يزيد عن عشر سنوات ورفضه مجلس صيانة الدستور ثلاث مرات قبل ذلك، وافق عليه بعد مرور أقل من أسبوع على توجيهات روحاني، وذلك خلال جلسته التي انعقدت في الـ7 من يونيو الجاري.

لكن ثمة مخاوف من أن يكون ذلك مجرد محاولة لامتصاص الغضب، فمجلس صيانة الدستور الإيراني هو هيئة تنظيمية تشرف على عمل مجلس الشورى الإيراني (المجلس التشريعي)، ولا يمكن للأخير أن يعتمد قانونًا إلا بعد موافقة هذه الهيئة، وبالتالي فإن ما جرى مجرد خطوة أولى في طريق التعديل التشريعي، ومن المرجح أن يُحاكم قاتل رومينا وفق المادة رقم (299) المشار إليها سلفًا، إلا إذا استجيب لمطلب معصومة ابتكار نائبة الرئيس الإيراني لشؤون المرأة والأسرة بمحاكمة الأب القاتل أمام محكمة خاصة.

بالإضافة إلى ذلك، فإن مواد هذا القانون لم تنشر أي من المؤسسات الإيرانية الرسمية نصوصها حتى وقت كتابة هذه السطور، وحتى الملامح الأولية التي تناقلتها وسائل إعلام محلية لم تشر مطلقًا إلى عقوبات مشددة في حالات قتل الآباء لأطفالهم، والواضح حتى الآن هو تغليظ العقوبات في حالات: الإيذاء العاطفي، والحرمان من التعليم، وإجبار الأطفال على العمل، واستغلالهم عبر الإنترنت، وإعادة الشرطة للأطفال الهاربين إلى أسرهم من دون اكتراث لأمنهم النفسي والجسدي.

قوانين تسوّغ قتلهن

في شهر مايو أيضًا، قضت فتاتان من عائلة واحدة قتلًا في قرية تقع بين مقاطعتي وزيرستان الشمالية والجنوبية في باكستان، بعد أن ظهر على مواقع التواصل الاجتماعي مقطعًا مصورًا مدته 52 ثانية يظهرهما برفقة شاب عشريني في مكان خالٍ.

بعد ذيوع المقطع ووصوله إلى عائلة الفتاتين البالغتين من العمر 16 و18 عامًا، قرر ابن عمهما أن يقتلهما بزعم الدفاع عن «الشرف»، ويخضع حاليًا للتحقيق والد إحداهما وشقيق الأخرى لوجود شبهات حول مشاركتهما في الجريمة.

في باكستان، تنتشر على نطاق واسع جرائم قتل النساء على خلفية هذه الدوافع الذكورية، إذ يشير ناشطون ومجموعات حقوقية محلية أن ما بين 900 إلى 1000 امرأة يقتلن سنويًا بأيدي أحد أفراد عائلاتهن تحت يافطة الدفاع عن «الشرف»، وهذه الأرقام لا تمثل سوى الحالات التي استطاعت هذه المجموعات توثيقها.

وحتى بداية العام الجاري 2020، لا تزال باكستان في مقدمة الدول التي تنتشر فيها جرائم القتل بدعوى الدفاع عن «الشرف»، إذ تستحوذ سنويًا على النصيب الأكبر من الجرائم الموثقة في هذا الصدد، رغم مرور نحو أربعة سنوات على إقرار البرلمان الباكستاني تعديلات تشريعية تحظر على القضاة استخدام الرأفة مع مرتكبي جرائم القتل بزعم الدفاع عن «شرف العائلة»، وترفع العقوبة إلى السجن المؤبد الذي تبلغ مدته 25 عامًا.

وقد جاء هذا الإصلاح التشريعي استجابة للغضب الشعبي الواسع الذي أعقب قتل الناشطة وعارضة الأزياء قنديل بلوش خنقًا في يوليو من العام 2016 بأيدي شقيقها، بزعم أنها أضرت بسمعة وشرف عائلته، بما تنشره من صور ومقاطع عبر مواقع التواصل الاجتماعي، اعتبرها وعدد من أفراد عائلته غير لائقة.

عوقب شقيق قنديل بموجب القانون المُعدّل وهو الآن يقضي فترة حبسه الممتدة لـ25 عامًا، ولكن غيره من مرتكبي هذه الجرائم ما برحوا قادرين على الإفلات من العقوبة بحسب تقرير منظمة العفو الدولية، عن الوضع في باكستان فيما بين العامين 2017 و2018.

الإشكالية الكبرى تتمثل في رسوخ نظام العدالة الموازي في هذا البلد، لا سيما في القرى الباكستانية، إذ تحتكم أغلب العائلات هناك إلى مجالس الجيرغا القبلية، وهي سنة وتقليد تعتمده القبائل الباكستانية منذ زمن طويل، ويتولى أعضاؤها مسؤولية تسوية النزاعات والخلافات، وفي كثير من الأحيان تكون هذه المجالس هي من أصدر الأمر بقتل النساء بدعوى حماية «شرف القبيلة»، مثلما حدث في إبريل من العام 2016، عندما أصدر المجلس القبلي في قرية صغيرة تبعد كيلو مترات عن العاصمة إسلام أباد، أمرًا بقتل فتاة تدعى أمبرين تبلغ من العمر 16 عامًا، نتيجة مساعدتها لصديقة لها على الزواج بشاب تحبه على خلاف رغبة عائلتيهما، وهو ما رآه المجلس إضرارًا بسمعة القبيلة برمتها يوجب القتل حرقًا.

علاوة على ذلك، ما فتئت حاضرةً ثغرات وتناقضات في التشريعات الباكستانية تفسح المجال لإفلات مرتكبي هذه الجرائم، فإن كان المشرعون قد ألغوا العفو مقابل الدية في جرائم القتل بزعم الدفاع عن «الشرف» بشكل استثنائي، لكنهم لم يمسوا المادة القانونية التي تعطي للقاتل في الجرائم الأخرى حق طلب العفو من ذوي الضحية نظير «الدية»، ولذلك صار الجناة في جرائم القتل بدعوى الدفاع عن «الشرف»، يدّعون أسبابًا أخرى غيره دفعتهم إلى قتل النساء، حتى يستفيدوا من هذه الثغرة ويستكملوا حياتهم أحرارًا من دون عقاب. وعلى غرار القانون الإيراني، ينص القانون الباكستاني المُستند إلى الشريعة الإسلامية على أن دية المرأة هي نصف مثيلتها للرجل.

هذه المواد القانونية التي تحمي القتلة، عاد الحديث بقوة عن حتمية إلغائها في جميع جرائم القتل، بعد أن لقت الطفلة زهرة شاه البالغة من العمر ثماني سنوات حتفها، على أيدي زوجين تعمل الصغيرة في منزلهما منذ أربعة أشهر.

في الـ31 من مايو الماضي، فتحت زهرة قفص الببغاوات لتطعمها، إلا أن الطيور سارعت بالخروج منه وحلقت بعيدًا، فانقض الزوجان على الطفلة وأبرحوها ضربًا حتى أصيبت بكسور وجروح في أنحاء متفرقة من جسدها الصغير، ثم فقدت وعيها تمامًا.

نقل الزوجان زهرة إلى إحدى مستشفيات مدينة روالبندي، ولكن باءت محاولات الأطباء لإنقاذها بالفشل، وتوفيت الطفلة بعد ساعات معدودة. وعقب إلقاء القبض على القاتلين واعترافهما بالجريمة، غردت شيرين مزاري وزيرة حقوق الإنسان الباكستانية، مؤكدة أن الوزارة تتابع القضية عن كثب وبصدد تقديم تعديلات عاجلة على القوانين المختصة بالعمل، لإدراج العمل المنزلي المأجور في قائمة الأعمال الخطرة على الأطفال، إذ لا تحظر باكستان عمل الأطفال بشكل تام، مما يجعل الملايين منهم معرضون لخطر دائم، وبحسب بيانات مجموعة حركة حقوق الطفل (Child’s Rights Movement) المُعلن عنها في العام 2018، يُقدّر عدد الأطفال العاملين في باكستان بنحو 12 مليون طفلة وطفل.

حتى الآن، لم يخرج أي مسؤول في الحكومة أو البرلمان بتصريح عن نية أو اتجاه إلى تعديل قانون العقوبات أو إلغاء المادة المتعلقة بالعفو والدية، ومن غير المعلوم ما إن كانت أسرة زهرة ستقبل بالدية إذا عُرضت عليها أو سترفضها وتصر على معاقبة الجناة بما يستحقونه.

ربما لا يلوح في الأفق القريب ما يُنبئ بتغيير عميق وجذري في الوضع التشريعي المأزوم سواء في باكستان أو إيران، ولكن كلما اجتمع الضغط والتضامن والغضب، تفكك جزء من منظومة القوانين الذكورية العتيقة، وكل جزء تتم إزالته يعني خطوة في طريق التغيير الوعر وسبيل التحرر المحفوف بالعوائق.