عاملات المنازل في زمن كورونا: الحجر المنزلي مُحال.. والإيذاء النفسي يتعاظم
كتبت: شهد مصطفى
ما زال فيروس كورونا يضيق الخناق على الجميع حول العالم، وتتابع التداعيات الناجمة عن الأزمات المركبة التي أحدثها انتشار هذا الفيروس. تتجه الأنظار إلى أنظمة الرعاية الصحية وترنحها أمام الفيروس، ويركز كثيرون على الآثار الاقتصادية وتراجع النمو الاقتصادي، ويناقش آخرون الجانب السياسي وارتباط الجائحة بزيادة تدخل السلطات في حيوات البشر وتقييدهم، كما تكثف المجموعات النسوية من مطالباتها بحلول حساسة للنوع الاجتماعي، وتلح في مناشدتها للحكومات باتخاذ قرارات سريعة من شأنها حماية النساء من معاناة تتفاقم يومًا بعد الآخر، في ظل تمدد الفيروس وتفشيه، خاصة أن التأثيرات السلبية الناتجة عن غياب المساواة الجندرية تستفحل في أوقات الأزمات ومنها الأوبئة.
يزعم كثيرون أن البشر يتساوون أمام الأوبئة إلا أن الشهور الماضية أثبتت العكس، فقد تبدى بوضوح أن الفيروس لم يضرب الجميع بنفس الدرجة، وظهرت تبعات التمييز القائم على النوع والطبقة والعرق والعمر جليةً، وتبين أن الأضرار التي لحقت بالنساء أكثر وأشد، إذ أنهن يقبعن حاليًا داخل المنازل التي تضج بالأعباء بعد تطبيق إجراءات الحجر المنزلي والعزل الوقائي، ويتحملن أغلبها إن لم يكن جميعها، وكثيرات منهن يتعرضن للعنف المنزلي الذي أقرت منظمة الأمم المتحدة بارتفاع وتيرته خلال الشهور الأخيرة نتيجة التدابير التي اتخذتها الدول لتقييد حركة الأفراد وإبقائهم داخل المنازل للحد من انتشار الفيروس، وقد طالب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في مقطع مصوّر نُشِر في إبريل الماضي، الحكومات بوضع سلامة النساء وأمنهن داخل المنازل ضمن أولوياتها في مواجهة فيروس كورونا، كما أطلقت المنظمة الدولية ذاتها حملة بعنوان «جائحة الظل» تهدف إلى التوعية بالعنف المنزلي المتزايد، وتشجيع المحيطين بالناجيات على التصدي له.
وبالنظر إلى أرقام البنك الدولي التي تشير إلى أن النساء اللاتي تتراوح أعمارهن بين 20 و34 عامًا، هن أكثر عرضة للفقر من الرجال، فإن قطاعًا واسعًا من النساء يعشن في أماكن أكثر قابلية لاحتضان الفيروس المتفشي حاليًا، بسبب ظروف الفقر التي تتمثل في تدني الخدمات وسوء التهوية في هذه الأماكن، فضلًا عن عدم قدرة كثير من هؤلاء النسوة على البقاء داخل المنازل لأن طبيعة أعمالهن تقتضي الخروج اليومي والاحتكاك المباشر بالأشخاص المتواجدين في الشوارع والمواصلات وأماكن عملهن، مما يحول دون تحقيق التباعد الجسدي، ويضاعف احتمالية إصابتهن بالفيروس.
علاوة على ذلك، تكشف بيانات أممية أن 75 في المئة من النساء في الدول النامية يعملن في الاقتصاد غير الرسمي، حيث تنحسر فرصة حصولهن على عقود عمل أو حماية قانونية واجتماعية ، وغالبًا لا يتحصلن على ما يكفي من المال للخروج من دائرة الفقر، وتُمثّل العاملات في المنازل نسبة كبيرة من هؤلاء النساء، إذ تشير أرقام منظمة العمل الدولية إلى أن واحدةً من كل 25 امرأة عاملة حول العالم تعمل في المنازل.
في مصر، تعاني النساء العاملات في المنازل من غياب مظلة تشريعية تحميهن وتضمن لهن حقوقهن، إذ لا يعترف بهن قانون العمل المصري، رقم 12 لسنة 2003، الذي نصت مادته الـ(4) على «لا تسرى أحكام هذا القانون على: العاملين بأجهزة الدولة بما في ذلك وحدات الإدارة المحلية و الهيئات العامة، عمال الخدمة المنزلية ومن في حكمهم، أفراد أسرة صاحب العمل الذين يعولهم فعلًا، وذلك ما لم يرد نص على خلاف ذلك.»
بالإضافة إلى ذلك، لا توجد نقابة أو اتحاد يستمع إلى شكايات عاملات المنازل في مصر، أو يتصدى للانتهاكات التي يتعرضن إليها، ولا يتوفر أي إحصاء رسمي يكشف عدد ونسبة النساء المشتغلات بهذه المهنة. ونتيجة ظروف الفقر التي يعانين منها، فإنهن مضطرات للتمسك بهذا العمل غير الآمن، ومرغمات على مواصلته في الوقت الحالي، رغم أن ذلك يعني زيادة الخطر على حيواتهن.
هن مصدر عدوى في عيون أرباب المنازل
تعمل سهير البالغة من العمر 41 عامًا، في المنازل منذ 22 عامًا وخلال هذه السنوات لم تواجه ظروفًا أصعب من هذه التي تواجهها الآن، «لم اختبر من قبل شعور الخوف بهذه الدرجة وهذا الشكل. أنا أخشى من الإصابة ومن فقدان العمل، إذا أصبت بالفيروس لن أعمل وحتى لو شفيت منه بعدها، لن تقبل عائلات كثيرة أن أذهب إلى منازلها، وبالتالي لن أجد ما يكفيني للعيش أنا وأبنائي.»
قرر بعض أصحاب المنازل التي كانت تذهب إليها سهير مرة في الأسبوع أو اثنتين لتنظيفها وترتيبها ورعاية الأطفال أحيانًا، أن يوقفوا التعامل معها بشكل مؤقت خوفًا من العدوى، وقال لها أحد أرباب هذه المنازل صراحةً إنه لا يريد أن يدخل إلى بيته شخص يستقل وسائل المواصلات العامة المزدحمة، لأنه قد يكون حاملًا للفيروس وينقله إلى زوجته وأولاده، بينما قررت إحدى السيدات التي تذهب إليها سهير مرتين شهريًا أن تستمر في التعامل معها، بعد أن حددت لها مجموعة من القواعد، حيث ألزمتها بخلع ملابسها بمجرد الدخول إلى المنزل ووضعها في كيس إلى جانب الباب، ثم ارتداء ثوب وكمامة قررت أن تخصصهما لها لترتديهما أثناء العمل. كما يتعين على سهير أن تغسل يديها بالصابون والمطهر قبل أن تبدأ عملها، وتستمر في غسلهما كل ساعة طيلة فترة تواجدها داخل المنزل.
«العديد من السيدات وضعن شروطًا وقواعد مماثلة، ألتزم بجميعها منذ شهرين تقريبًا، وأؤكد لهن دائمًا أنني حريصة مثلهن على سلامتهن وسلامة أفراد أسرهن. وهذه هي الحقيقة لأن إصابة أحد أفراد أي منزل بسببي، تعني نهاية علاقتي بهذا المنزل وانقطاع أحد مصادر رزقي.»
تتمنى سهير لو كان بإمكانها أن تتخذ الإجراءات الوقائية التي يتبعها أصحاب هذه المنازل، إلا أن ذلك يستحيل تحققه على حد قولها، «تختلف ظروفي عن ظروف من أعمل في منازلهم، ليس بإمكاني شراء المطهرات باهظة الثمن لأنظف بها بيتي بشكل دوري، ولا أستطيع المواظبة على شراء الكحول لتعقيم الأسطح والأرضيات كل يوم، لأن المتوفر منه حاليًا مُكلف.»
تؤكد سهير أن أدوات التعقيم والتطهير والوقاية عمومًا تحتاج إلى ميزانية منفصلة لا تستطيع أن تتحملها خاصة مع تراجع عدد المنازل التي تعمل بها، «تتراوح أسعار الكمامات من أربعة إلى سبعة جنيهات، وأنا أخرج من المنزل من أربعة إلى خمسة أيام أسبوعيًا، وإذا ارتديت كمامة كلما خرجت من المنزل، سيكلفني ذلك 80 جنيهًا كحد أدنى في الشهر، وهذا الرقم سيحتاجه اثنان من أبنائي لأنهما يخرجان إلى العمل يوميًا، أي أحتاج إلى 240 جنيهًا على الأقل شهريًا للكمامات فقط، وهذا الرقم ليس قليلًا بالنسبة لي.»
ونتيجة لذلك الوضع، كانت سهير تضطر إلى تغطية وجهها في أحيان كثيرة بالطرحة (حجابها)، أثناء استقلالها للمواصلات العامة، حتى اشترت قبل أسبوعين كمامة من القماش يمكن غسلها وإعادة استخدامها.
تصف سهير هذه الأيام بالكابوس الذي تتمنى أن تستيقظ منه في أقرب وقت ممكن، «يقول الناس من حولي أن الحياة ستعود إلى طبيعتها في النصف الثاني من شهر يونيو الجاري. لا أعرف مدى صحة هذا الكلام، ولكن أدعو الله أن يُعجّل بفرجه على الجميع وبالأخص أمثالي الذين يتكسبون رزقهم يومًا بيوم، ولا يدرك كثيرون حجم المخاوف التي تستبد بهم بسبب هذه الأزمة.»
حتى يستمر عملهن.. عليهن القبول بالعزل الإجباري
واجهت أمينة البالغة من العمر 49 عامًا الأزمة التي واجهتها سهير، فقد قرر العديد من أرباب المنازل إيقاف التعامل معها خوفًا من أن تكون مصدر عدوى لعائلاتهم، إلا أن وضعها كان أشد سوءًا من سهير لأن المتبقي من المنازل التي قبل أصحابها الاستمرار في التعامل معها، لم يتجاوز الثلاثة منازل، أحدها تذهب إليه أسبوعيًا والثاني تذهب إليه مرتين شهريًا والثالث خفّض أصحابه مرات ذهابها إليه من أربع إلى مرة واحدة شهريًا لتقليل اتصالها بهم، مما أدى إلى تعثرها ماديًا واضطرارها إلى الاقتراض من أحد جيرانها لسد احتياجات أسرتها، خاصة أن بناتها الثلاث ما زلن طالبات في المدرسة ويعتمدن عليها بشكل كامل بعد وفاة زوجها.
على غير توّقع، تلقت أمينة اتصالًا هاتفيًا في منتصف شهر إبريل الماضي، من صاحبة أحد المنازل التي تذهب إليها، لتقدم لها عرضًا جيدًا على المستوى المادي سيعالج أزمتها، إلا أنه يلزمها بالانقطاع عن أسرتها لمدة شهر كامل.
اعتادت أمينة على تنظيف وترتيب هذا المنزل مرتين أسبوعيًا منذ ثلاث سنوات، إلا أن أزمة فيروس كورونا جاءت لتعصف بهذه العادة، حيث اتصلت صاحبة المنزل بها في نهاية شهر مارس تطالبها بعدم المجيء إلى أن تعود وتتصل بها بعد أن تستقر الأوضاع. ولكن بعد مرور أسبوعين على هذه المكالمة، فوجئت أمينة بالسيدة تعاود الاتصال بها لتعرض عليها العمل في منزلها لمدة شهر كامل براتب مجزٍ، شريطة الإقامة فيه وعدم الخروج منه نهائيًا.
«علمتُ منها أن والدتها انتقلت للإقامة معها، وصار أطفالها الصغار يتواجدون طوال الوقت داخل المنزل بعد توقف المدارس، ولذلك أضحت في احتياج أكبر لمن يقوم بأعمال النظافة والترتيب والمساعدة في إعداد الطعام، إلا أنها في الوقت ذاته لا تريد أن يدخل إليهم أحد يتعامل بشكل مباشر مع آخرين قد يكونوا حاملين للفيروس، وقد عبرت عن قلقها من عدم اتخاذي للإجراءات الوقائية الكافية لمنع إصابتي بالفيروس، مشيرةً إلى ظروفي المادية باعتبارها برهانًا على ذلك.»
فكرت أمينة مليًا في الأمر ورغم خوفها الشديد على بناتها وعدم ارتياحها لفكرة الابتعاد عنهن في هذه الظروف الاستثنائية، فقد اضطرت إلى القبول بالعرض بسبب الاعتذارات المتلاحقة من أصحاب المنازل عن التعامل معها، والتي أضيف إليها في ذلك الوقت اعتذار أحد أصحاب المنازل الثلاثة الذين كانوا قد قبلوا باستمرار عملها، بالإضافة إلى لجوئها إلى الاقتراض.
خلال هذا الشهر، جاءت الابنة الكبرى لزيارة أمينة مرتين، لم تستطع خلالهما أن تقترب منها أو أن تتحدث إليها باستفاضة، حيث اشترطت ربة المنزل أن تأتي الفتاة مرتديةً الكمامة لتأخذ من أمها المال الذي تحتاجه من دون أن تدخل إلى الشقة.
خلال هذه الفترة، وفرت الأسرة لأمينة مرتبة ومخدة لتنام عليهما في غرفة غير مستغلة، يوجد بها بقايا أثاث قديم، وأعطوها ملاءتين لتغطية المرتبة، واشترطوا عليها أن تغسل ملابسها والملاءتين يديويًا ولا تستخدم الغسالة، وخصصوا لها أطباقًا محددة لتتناول الطعام فيها.
«لقد زاد داخلي الشعور بالدونية خلال فترة إقامتي في هذا المنزل، إذ رأيت في عيونهم الخوف مني والاشمئزاز من مظهري، وهو ما لم أكن أشعر به بالقدر نفسه قبل ذلك، ربما لأنني كنت أقوم بعملي خلال ساعات معدودة ولا أحتك كثيرًا بأفراد المنزل أو لأنني كنت أتغافل عن هذه الإشارات، ولكن في الإقامة الكاملة لا سبيل لتجاهل ما يجري ولا مجال للتهوين على النفس، فأنا محكوم علي بالبقاء داخل المنزل طوال الوقت.»
انتهت إقامة أمينة الاضطرارية وعادت إلى بناتها، بعد أن انتقلت العائلة صاحبة المنزل إلى آخر تملكه في إحدى القرى السياحية لقضاء الإجازة الصيفية، ورغم ما شعرت به خلال تلك الفترة، فإنها لا تنوي أن تتوقف عن الذهاب إلى هذا المنزل إذا طلب منها أصحابه العودة إلى العمل، وذلك لقناعتها بأنهم ساعدوها في وقت الأزمة ولولا الأجر الذي حصلت عليه منهم، ما استطاعت أن ترد ما اقترضته من جارها أو تحافظ على التزاماتها تجاه بناتها ووالدتها العجوز.»
تعتقد أمينة أن معاملة هذه العائلة لها هي ذاتها التي كانت ستجدها من أي عائلة أخرى، وربما كانت ستواجه ما هو أصعب، «هناك من يوّجه إلى العاملات في المنازل وبالأخص المقيمات فيها السباب والشتائم، وبعضهن يتعرض للاعتداء الجسدي، وأنا لم أتعرّض لهذا أوذاك، وما أعلمه يقينًا أنه ما من أحد سيتعامل معنا (تقصد عاملات المنازل)، مثلما يتعامل مع موظفي البنوك أو حتى البائعين في المحال التجارية، لأن الناس يضعوننا في مرتبة أدنى من هؤلاء.»
تم تغيير الاسمين نزولًا عند رغبة صاحبتيهما