كتبت: آلاء حسن

بنهاية شهر مارس، شرعت شيرين في الانعزال تدريجيًا عن مجتمعها المحيط بسبب الجائحة التي ضربت العالم، إذ بدأت في تقليل تحركاتها والحد من لقاءاتها مع الآخرين ضمن إجراءات وقائية عديدة اتخذتها لحماية نفسها من الإصابة بفيروس كورونا، حتى اضطرت إلى الانعزال كليًا والبقاء داخل شقتها وحيدة في منتصف شهر إبريل، بعد أن اكتشفت إحدى صديقاتها إصابتها بفيروس كورونا، وذلك بعد أسبوع من لقاء جمعهما في بيت شيرين.

التزمت شيرين بـالأربعة عشر يومًا المحددة للعزل الذاتي بعد التعامل المباشر مع مصابة أو مصاب بالفيروس، ومرت الأيام من دون أن تظهر عليها أية أعراض، ورغم تأكدها من سلامتها وتمتعها بصحة جيدة بعد انقضاء الأسبوعين، فقد قررت طواعية أن تمد عزلتها لأسابيع أخرى، لم تلتق خلالها بأي شخص، ولم تخرج من المنزل الذي لا يشاركها سكنه أحد إلا لشراء الاحتياجات المنزلية أو للقيام بمعاملات بنكية.

ترى شيرين أنها وجدت في العزلة فرصة للسيطرة على قلقها وخوفها الذي يشعله أصدقاؤها وزملاؤها في العمل،  «العالم من حولي لم يعد يتحدث سوى عن الموت والموتى والفيروس واللقاح، وهذا مثير للذعر خاصة لامرأة تعيش وحدها مثلي.»

كانت شيرين ممن يفضلون الاستيقاظ باكرًا ما بين السابعة إلى الثامنة صباحًا، حتى توفر لنفسها ساعة قبل أن تذهب إلى عملها، تمارس خلالها عادتها الصباحية المفضلة، حيث تجلس في شرفتها تحتسي قهوتها المحلاة بالسكر كما تحبها، بينما تتصفح بعض المواقع الإلكترونية وتطالع الموضوعات التي تلفت انتباهها.

إلى جانب عملها بدوام كامل كمصممة جرافيك في شركة دعاية وإعلان، تعمل شيرين بشكل حر مع مبادرات وشركات ناشئة، حيث تقوم بتصميم لوجوهات ومطبوعات لمشروعات صغيرة أو فعاليات تقوم بها هذه الجهات، بما يساعدها على الإدخار لمواجهة أي طارئ، ونتيجة لذلك يُثقَل يومها بالمهام التي كانت تفضل أن تقوم بها خارج المنزل، سواء في المقاهي أو في مساحات العمل المشتركة.

أما الآن، لا تغادر شيرين هذا المنزل إلا لساعة أو ساعتين على الأكثر في الأسبوع عندما تذهب إلى المتجر لشراء احتياجاتها، وقد تحوّلت الساعات الطويلة التي تقضيها في المنزل إلى فرصة لإعادة اكتشاف هذا المكان من جديد، وأضحت فترة لإعادة التعرف إلى عالمها الداخلي الذي تعتقد أنها لم تكن تهتم كثيرًا بالبحث فيه، ولا تنصت إلى صوتها الداخلي إلى فيما ندر، «على ما يبدو أنني فقدت التواصل بيني وبين نفسي في زحام الأيام، ودفعني الالتحام الدائم مع الناس إلى الاستسلام إلى تسلط المجتمع.»

كانت شيرين على يقين من امتلاكها لما يكفي من الحرية للقيام بما تريد، ولكن بعد مرور أكثر من شهرين في هذه العزلة، اكتشفت أنها ليست حرةً كما كانت تظن.

بدأت شيرين تعيد ترتيب منزلها المزدحم بالكراكيب، فوصلت إلى أوراق قديمة كانت تدوّن فيها مواقف ومشاعر وأحلام وخطابات إلى الله وجدتها التي توفيت قبل ثلاث سنوات، «اكتشفت أنني توقفت عن كتابة ما أشعر به، رغم أنني ما زلت لا أستطيع التعبير عن مشاعري بالقول ولا أتحدث عن أمور كثيرة تؤرقني حتى إلى أقرب أصدقائي. كان ملاذي الوحيد هو تلك الكتابات والمناجاة التي أتوجه بها إلى الله وجدتي المتوفاة، وفي هذا الركام وجدت أشياء عديدة تثير كوامن الآلم.»

العزلة توقظ ذكريات العنف الأسري

مع فترات الوحدة الطويلة، عادت شيرين تُسائل نفسها عن ما إذا كانت بالفعل تصالحت نفسيًا مع والدها الذي كسر ذراعها قبل عشر سنوات في إحدى وقائع اعتدائه المتكرر عليها بالضرب، الذي ارتفعت وتيرته عقب وفاة والدتها.

تبدو علاقتهما قد تحسنت بعد سنوات من انتقالها للعيش مع جدتها واستمرار إقامتها في شقة الأخيرة بعد وفاتها، إذ تهاتفه من مرتين إلى ثلاث مرات أسبوعيًا لتطمئن عليه، وتزوره مرة أو مرتين شهريًا، وذلك بعد سنوات من القطيعة.

ولكن مع الساعات الطويلة الهادئة، تستعيد شيرين كثيرًا من هذه المشاهد القاسية، ولا تجد مفرًا منها سوى بمهاتفة أي من أصدقائها المقربين لتتحدث معهم عن أي شيء آخر يشتت فكرها ويعطل عودة هذه الذكريات المؤلمة.

ألقت هذه الذكريات بظلالها على تواصلها مع والدها، إذ باتت تهاتفه مرة في الأسبوع ولا تزيد مدة المكالمة عن دقائق معدودة، وإذا حاول التحدث إليها لا ترد على اتصالاته، متذرعةً بالانشغال في العمل والالتزام بمواعيد تسليم تزيد الضغط عليها.

«الآن أدرك أنني ما برحت أخاف منه، لا أشعر بأي مشاعر إيجابية تجاهه، ولا أتذكر له سوى الشدة والفظاظة والضربات واللكمات، ولا يبدو أن الأيام ساعدتني على تجاوز الماضي، بل الزحام الذي كان يخيم على حياتي هو الذي جعلني أظن كذلك، أو ربما أردت أن تكون علاقتي جيدة بأبي حتى لا أسمح لفكرة أو صورة سلبية أن تتكون لدى الآخرين عني. في النهاية أنا فتاة، وأن أعيش وحدي بسبب خلاف مع والدي، فهذا وفقًا لمنظومة القيم الأبوية يعني أنني «هربانة من أهلي» وهذا يفتح الباب أمام سيل من الظنون والشكوك لا نهاية له، وأنا من الواضح، على عكس ما كنت أزعم، أهتم لكلام الناس ونظرتهم كثيرًا.»

التحرر من قيود المجتمع

في السابق أيضًا، كانت شيرين تحرص على صبغ الشعرات البيضاء بمجرد أن تظهر بوضوح في شعرها، وعلى الرغم من إمكانية أن تقوم بذلك في منزلها بعد أن بات الذهاب إلى صالونات التجميل محل قلق بسبب أزمة فيروس كورونا، فقد فضّلت أن تترك شعراتها البيضاء تنمو بحرية من دون أن تخفيها.

«تركتها في البداية لأنني لم أجد داعٍ لصباغتها ورأيتها فرصة للتخفيف عن شعري، ثم لاحظت أنني غير منزعجة من هذه الخصلات، بل على العكس أحببت شكلي بها، وعندها سألت نفسي إذا كنت بالفعل أنزعج من هذه الشعرات لأنها تشوّه شكلي كما كنت أظن أم كنت مضطرة أن أفعل ذلك لأحمي نفسي من إزعاج الآخرين لي وحتى أجنب نفسي السؤال السخيف: هو أنت ما بتصبغيش ليه؟»

وجدت شيرين أن الخيار الثاني أقرب إلى أن يكون السبب الحقيقي وراء مسارعتها إلى إخفاء الشعر الأبيض، وهو ما تراه مؤكدًا آخر على أنها لم تكن تتصرف بحرية، وإنما ثمة أفعال كانت تقوم بها في إطار مساومة كبيرة مع سلطة غير مرئية هي سلطة المجتمع، التي حينما تحررت منها تصرفت بشكل مختلف، إن لم يكن مناقضًا لها.

في أحد أدراج المطبخ الذي كان من الممكن أن لا تطأه قدماها لأيام قبل الحجر المنزلي، وجدت كراسةً كانت تدون فيه جدتها وصفات أطعمة كان تصنعها خصيصًا لها، ومنذ أن توفيت لم تأكل أيًا منها، فقررت أن تنفذ كل يوم وصفة من هذه الوصفات، وتعود إلى طهي طعامها بنفسها، بعد أن اعتادت على تناول الأطعمة السريعة والوجبات المجمدة.

«عندما أقف في المطبخ، لأطهو وصفة من تلك التي سجلتها جدتي، أتذكر أيامي معها، وأستعيد أحاديثنا التي كانت دافعًا لي في كثير من الخطوات، وبعض من هذه الجمل التي أتذكرها أدونها كتابةً لأحفظها، لعلها تعيد لي ذات الشعور بالطمأنينة والأمل الذي كان يتسلل إلى نفسي وقتما كانت بجواري.»

تشعر شيرين بسعادة أكبر منذ أن بدأت تعد طعامها بنفسها، وحتى مع زيادة وزنها لا تشعر بأي تأذي من ذلك، «لقد زدت ثلاثة كيلوجرامات خلال شهرين، ومع ذلك لا أفكر في إنقاص وزني، رغم أنني في السابق كنت أسارع بتطبيق حمية غذائية لإنقاص وزني لو زدت كيلو أو اثنين. كنت أشعر بكراهية شديدة تجاه جسدي عندما أرى هذه الزيادة على الميزان.»

تقول شيرين إن الحجر المنزلي مكّنها من قضاء أوقات أطول متحررة من ملابسها، مما جعلها تشعر بحميمية تجاه جسدها، وهو شيء تعتقد أنها لم تختبره من قبل، سواء لعدم استطاعتها القيام بذلك أثناء وجود جدتها معها في المنزل، أو بعد ذلك بسبب بقائها خارج المنزل لفترات طويلة. كما أن علاقتها بجسدها لم تكن تشغلها ولم تفكر فيها كما تفعل في الوقت الحالي، «أعتقد يقينًا أنني كنت أجهل جسدي، وكنت أراه دائمًا من خلال الملابس التي أرتديها عند الخروج من المنزل وكانت مشاعري تجاهه تزكيها نظرات الآخرين وتعليقاتهم، وبالطبع كان لذلك أثره على ثقتي بمظهري وشكلي واختياراتي لهما.»

تصف شيرين الحجر المنزلي رغم مساوئه، بالفرصة التي أهدتها لها الظروف لتتحرر من ضغوط كانت تتجاهلها، ولتعيد الاستماع إلى صوتها الداخلي، «ربما لم أتوّصل إلى قرارات واضحة بشأن ما اكتشفته أو أدركته، ولكنني أمتلك الآن رغبة في التغيير والخروج من حالة السبات التي أدخلت ذاتي إليها.»

أسعدت شيرين الأخبار المتعلقة بالفتح التدريجي المرتقب للقطاعات المختلفة في البلاد، وأول شيء تخطط له عندما تعود الحياة إلى طبيعتها «الجديدة» هو إقامة مأدبة لأصدقائها المقربين، حتى تقدم لهم عددًا من الأصناف التي طبقت وصفاتها خلال هذه الفترة، ثم السفر ليومين أو ثلاث مع صديقتين مقربتين إليها، وقد عقدت العزم أن تفصح لهما عن حقيقة علاقتها بوالدها التي كانت تتحاشى الإيغال في الكلام عنها معهما.

 

في ظل أزمة تفشي فيروس كورونا وظروف الحجر المنزلي تقدم عدد من المؤسسات الدعم النفسي والقانوني للنساء:

مؤسسة قضايا المرأة المصرية | خدمات الدعم القانوني والنفسي عن طريق:

01159199588

01144416334

01154025425

مؤسسة القاهرة للتنمية والقانون | خدمات الدعم النفسي والقانوني

الدعم القانوني: 01210009192

الدعم النفسي: 01279177326

المركز المصري لحقوق المرأة | استقبال الشكاوى والدعم القانوني

الخط الساخن: 19576