كتبت: آلاء حسن

تحتفي الأمم المتحدة والحكومات ومنظمات المجتمع المدني سنويًا، بــ«اليوم الدولي لعدم التسامح مطلقًا مع تشويه الأعضاء التناسلية الخارجية للإناث»، الذي يوافق الـسادس من شهر فبراير، وهو اليوم الذي حددته الأمم المتحدة في العام 2003، تعزيزًا لجهودها الرامية إلى القضاء على ظاهرة تشويه الأعضاء التناسلية الخارجية، المعروفة باسم «ختــان الإناث»، والمنتشرة في 30 بلدًا في القارة الأفريقية ومنطقة الشرق الأوسط. هذه الجهود التي من شأنها الدفع باتجاه تحقيق الهدف الخامس من أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر التي أعلنتها الأمم المتحدة في العام 2015، والخاص بـ«تحقيق المساواة بين الجنسين وتمكين النساء والفتيات».

معلوم للقاصي والداني أن مصر واحدة من أكثر الدول التي تنتشر فيها ممارسة تشويه الأعضاء التناسلية الخارجية للإناث باعتبارها عادةً متوارثة، ولا يلوح في الأفق القريب أي أمل في الخروج على الأقل من قائمة الخمس الأوائل، إذ تكشف أرقام مسح الجوانب الصحية الصادر عن وزارة الصحة والسكان في العام 2015، أن تسعًا من كل عشر نساء مصريات تتراوح أعمارهن بين 15 و49 عامًا، تم إخضاعهن لهذه الممارسة.

وحتى الانخفاض في نسبة إجراء ختان الإناث بين المراهقات يظل محدودًا؛ إذ تُظهِر دراسة أجراها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بالتعاون مع الحكومة المصرية، صدرت نتائجها في العام 2016، أن تشويه الأعضاء التناسلية الخارجية بين الفتيات اللاتي تتراوح أعمارهن بين 15 و17 عامًا، هبط إلى 61 في المئة في العام 2014، بعد أن كان 74 في المئة في العام 2008.

تظل الأرقام مرتفعة على هذا النحو، رغم تجريم الممارسة قانونيًا في مصر منذ العام 2008، وتشديد العقوبة بحق مرتكبيها في العام 2016، حيث أصبحت السجن لمدة لا تقل عن خمس سنوات ولا تتجاوز السبع سنوات، بعد أن كانت الحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر ولا تتجاوز سنتين، أو الغرامة التي لا تقل عن ألف جنيه ولا تتجاوز الخمسة آلاف، فضلًا عن خطوات أخرى اتخذتها الحكومة المصرية بهدف تحجيم الظاهرة، ومنها تبني برنامج وطني لمناهضة ختان الإناث منذ العام 2003، وإصدار دار الإفتاء المصرية فتوى رسمية بتحريم ممارسة «ختــان الإناث»، وتأكيد مؤسسة الأزهر على الأمر نفسه أكثر من مرة.

بالإضافة إلى الثغرات القانونية التي تطالب بسدها كيانات نسوية، يُرجِع كثيرون محدودية التقدم المُحرز إلى الإشكالية المعروفة باسم «تطبيب الختان»؛ إذ أن 82 في المئة من عمليات تشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية الخارجية، يجريها مقدمو الرعاية الصحية، كالأطباء وأطقم التمريض، وفقًا لنتائج المسح السكاني الصحي الصادر في العام 2014.

وبحسب دراسة أجراها مجلس السكان الدولي، صدرت في العام 2017، فإن مصر واحدة من الدول الخمس التي تتفشى فيها ممارسة ختــان الإناث على أيدي مقدمي الخدمات الصحية، ويرافقها في القائمة: السودان، نيجيريا، غينيا، كينيا.

على مدار الأعوام الثلاثة عشر الأخيرة، كان الأطباء دون غيرهم من مقدمي الخدمات الصحية، عنصرًا رئيسًا ومشتركًا في جرائم تشويه الأعضاء التناسلية الخارجية التي وصلت إلى الإعلام والرأي العام في مصر، بعد وفاة الطفلات إثر إخضاعهن لها قسريًا.

تستمر الأزمة.. لأننا نتساهل مع الضلع الرئيس

تتشابه أغلب تفاصيل قصة ندى التي راحت ضحية جريمة تشويه الأعضاء التناسلية الخارجية، في الـ30 من يناير الماضي، مع تلك الخاصة بقصص الضحايا اللاتي قضين بسبب الجريمة نفسها، فقد اصطحبها عدد من أفراد أسرتها إلى عيادة خاصة بمركز منفلوط في محافظة أسيوط، لإخضاعها للممارسة المُجرّمة قانونًا، وبعد أن شرع الطبيب المالك للعيادة، وهو أخصائي نساء وتوليد بالمعاش في بتر البظر، تعرّضت الطفلة لنزيف حاد فشل في إيقافه، فأدى إلى وفاتها.

ومثلما رافق الأب ابنته ندى إلى عيادة الموت، فعل والد سهير الباتع (13 عامًا) التي توفيت إثر هبوط حاد في الدورة الدمورية، أثناء إخضاعها للممارسة نفسها في العام 2015، في عيادة خاصة في محافظة الدقهلية. وقد أحالت النيابة العامة بعد عشرة أشهر من وقوع الجريمة، رسلان فضل مصطفى حلاوة، الطبيب الذي ارتكب الجريمة ووالد الطفلة للمحاكمة الجنائية، لتسببهما في وفاتها وتعريض حياتها للخطر وإرغامها على الخضوع لممارسة ختان الإناث. وكانت هذه هي الدعوى الأولى التي تُحوّل إلى المحاكمة الجنائية منذ صدور التشريع المُجرّم لتشويه الأعضاء التناسلية الخارجية للإناث في العام 2008.

وقد قضت المحكمة – بعد الاستئناف على الحكم الأول- بمعاقبة الطبيب المتهم بالسجن مع الأشغال الشاقة لمدة عامين وغرامة 500 جنيه عن تهمة القتل غير المتعمد، والحبس ثلاثة شهور عن جريمة الختان، وغلق عيادة الطبيب لمدة عام، بالإضافة إلى معاقبة والد الطفلة بالحبس لمدة ثلاثة شهور مع إيقاف التنفيذ لمدة ثلاث سنوات.

وقد صدر هذا الحكم وفقًا لنص المادة (242 مكرر) من قانون العقوبات، قبل إدخال تعديلات عليها في العام 2016، والتي كانت تنص على: مع مراعاة حكم المادة (61) من قانون العقوبات، ودون الإخلال بأي عقوبة أشد ينص عليها قانون آخر، يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر ولا تجاوز سنتين، أو بغرامة لا تقل عن ألف جنيه ولا تجاوز خمسة آلاف جنيه، كل من أحدث الجرح المعاقب عليه في المادتين ( 241، 242) من قانون العقوبات عن طريق ختان لأنثى.

خلال السنوات السبع الفاصلة بين الجريمتين، قضت طفلة أخرى بسبب الممارسة ذاتها، وهي ميار (17 عامًا) في محافظة السويس التي لقت حتفها نتيجة هبوط حاد في الدورة الدموية، سببه نزيف شديد تعرضت له أثناء إخضاعها للتشويه.

لكن هذه الجريمة لم تقع في عيادة خاصة مثل الجريمتين السابقتين، بل في مستشفى خاص، وقد قضت المحكمة في ديسمبر من العام 2016، بمعاقبة نادية الدقاق، الطبيبة المتهمة، والأب بالسجن سنة مع إيقاف تنفيذ الحكم لمدة ثلاث سنوات وبتغريمهما 5000 جنيه، بينما قضت بحبس الأم سنة مع إيقاف تنفيذ وبتغريمها ألف جنيه. كما قررت المحكمة معاقبة الممرضة التي اشتركت مع الطبيبة في إجراء عملية التشويه، بالسجن خمس سنوات غيابيًا وبتغريمها 5000 جنيه، لتسببها في جرح أفضى إلى الموت.

ورغم أن هذا الحكم صدر بعد تعديل قانون العقوبات وتغليظ عقوبة ختان الإناث فيه، فإنه لم يأتِ على نفس درجة الحكم الصادر في قضية الطفلة سهير الباتع، ويعود ذلك إلى أن الحكم صدر بعد أيام قليلة من الإقرار رسميًا بالتعديلات وبالتالي فإن الحكم بالغرامة يستند إلى المادة (242 مكرر) قبل التعديل، كما أن المحكمة استخدمت ما يسمى بــ«الرأفة» مع المتهمين؛ مستندةً إلى المادة (55) من قانون العقوبات التي تنص على: يجوز للمحكمة عند الحكم فى جناية أو جنحة بالغرامة أو الحبس مدة لا تزيد على سنة، أن تأمر فى نفس الحكم بإيقاف التنفيذ إذا رأت من أخلاق المحكوم عليه أو ماضيه أو سنه أو الظروف التى ارتكب فيها الجريمة ما يبعث على الاعتقاد بأنه لن يعود إلى مخالفة القانون…

وتعد المادتان (55) و(61) في قانون العقوبات المصري، من المواد التي تحول دون تطبيق عقوبات رادعة بحق المتهمين في جرائم ختان الإناث خصوصًا وجرائم العنف ضد المرأة عمومًا، حيث تنص المادة (61) على: لا عقاب على من ارتكب جريمة، ألجأته إلى ارتكابها ضرورة وقاية نفسه أو غيره، من خطر جسيم على النفس على وشك الوقوع به أو بغيره، ولم يكن لإرادته دخل فى حلوله ولا في قدرته منعه بطريقة أخرى.

تستمر الأزمة.. بسبب تمسك الإعلام بـ«الموسمية»

بعد وفاة الطفلة بدور شاكر (13 عامًا) في يونيو من العام 2007، التي راحت ضحية جرعة مخدر زائدة أعطتها لها طبيبة في إحدى العيادات بمركز مغاغة في محافظة المنيا، تجهيزًا لتشويه أعضائها التناسلية الخارجية، صارت جرائم ختان الإناث التي تودي بأرواح الطفلات تحظى بتغطية إعلامية مُكثّفة بعد وقوعها ووصول أخبارها إلى الشرطة. لكن هذه التغطية ما زالت موسميةً، تبرز عندما تقع الجريمة ومع صدور الأحكام ثم تخفت بعد ذلك. وحتى في هذا السياق الموسمي، كثيرًا ما تتجنب المنشورات التركيز على البحث في حلول للإشكاليات القائمة، وتبتعد عن تكثيف مناقشتها على مستويات متعددة وبشكل غير متقطع، بما يساعد في خلق حوار مجتمعي بشأنها ويساهم في معالجة الوضع المأزوم.

بالتأكيد، لم تكن بدور أول فتاة في مصر تضيع حياتها بسبب هذه الممارسة، لكنها أول حالة توّثقها الصحافة. أما أول تغطية إعلامية لهذه الجريمة، فقد قامت بها شبكة CNN الأمريكية في سبتمبر من العام 1994، إذ أذاعت تقريرًا مصوّرًا يوّثق خضوع طفلة تبلغ من العمر 10 أعوام لتشويه الأعضاء التناسلية الخارجية، بينما تتعالى صرخاتها من فرط الألم وهي مقيدة بأيدي رجلين أمام والدها. وقد أثار التقرير حالة سخط داخل مصر وخارجها، وبسببه تم إلقاء القبض على والد الطفلة والرجلين، ثم انتهت الأمور إلى لا شيء.

في ذلك الوقت، كانت التشريعات المصرية تفتقر إلى نص يجرّم ختان الإناث بأي شكل، في ظل غياب إرادة سياسية تؤمن بحتمية مناهضة هذه الممارسة الوحشية.

تستمر الأزمة.. طالما هناك من ينشر أكذوبة «عملية تجميل»

في أقواله أمام النيابة، قال علي عبد الفضيل، الطبيب الذي قام ببتر الأعضاء التناسلية الخارجية للطفلة ندى مما أدى إلى وفاتها، إن والدها ووالدتها وخالها جاءوا إليه في عيادته وطلبوا منه إجراء «عملية تجميل للعضو التناسلي الخارجي للطفلة»، قاصدًا البظر.

تعبير «عملية تجميل» الذي استخدمه هذا الطبيب لوصف جريمة التشويه في محاولة لتبرئة ساحته، هو الذي لجأ إليه الأطباء الذين سبق أن اتُّهِموا في حوادث مماثلة، ويُمثّل هذا التلاعب بالألفاظ طبقة أخرى من الطبقات التي يُغلّف بها أطباء ختان الإناث تبريرهم لممارسته، ويستخدمونه أيضًا للإفلات من العقوبة المنصوص عليها في المادة ( 242 مكرر) من قانون العقوبات المصري، ليبدو الأمر كما لو كان تدخلًا طبيًا فحسب، تقف وراءه نية حسنة وضرورة وقائية.

وتنص المادة (242 مكرر) بعد تعديلها في العام 2016 على: مع مراعاة حكم المادة (61) من قانون العقوبات، ودون الإخلال بأي عقوبة أشد ينص عليها قانون آخر، يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن خمس سنوات ولا تزيد عن سبع سنوات كل من قام بختان لأنثى، بأن أزال أيًا من الأعضاء التناسلية الخارجية بشكل جزئي أو تام، أو ألحق إصابات بتلك الأعضاء دون مبرر طبي، وتكون العقوبة السجن المشدد إذا نشأ عن هذا الفعل عاهة مستديمة، أو إذا أفضى ذلك الفعل إلى الموت.

تعبير «عمليــة تجميل» لجأت إليه أيضًا الطبيبة التي أجرت عملية التشويه التي قضت إثرها الطفلة ميار في العام 2016، إذ قالت في تقرير مصوّر أعده مركز «تدوين لأبحاث النوع الاجتماعي»، صدر في العام 2017، إنها لم تجر للفتاة عمليةً مجرمة، مؤكدةً أنها مذكورة في كتب الطب ومعروفة باسم تجميل الشفتين الداخليتين إذا كانتا «أكبر من اللازم» واصفة إياها بــ«علاج للعيب الخلقي».

تتضافر هذه المعضلات، وغيرها بالتأكيد، على إبقاء تشويه الأعضاء التناسلية الخارجية للإناث شائعًا ومتفشيًا، كما أنها تقوي شوكة مؤيديه وممارسيه، وجميعها يؤكد  بما لا يدع مجالًا للشك أن التساهل مع تطبيب الممارسة وغض الطرف عن حتمية استحداث آليات إجرائية وقانونية لمنع وردع الأطباء الذي يرتكبون هذه الجرائم، يدفع قدمًا بتمديد عمر ختان الإناث (تشويه الأعضاء التناسلية الأنثوية الخارجية) ويُعمّق الأزمة.