لم يكن نشاط سيزا نبراوي منحصرًا في الاتحاد النسائي المصري، ولم يتوقف نضالها بعد رحيل هدى شعراوي بل استمر متوهجًا، فلم تكل من الدفاع عن حقوق النساء وناضلت طويلًا من أجل تذليل العقبات التي تواجهها المرأة، وبادرت بالترشح إلى الانتخابات البرلمانية بمجرد أن انتزعت المصريات حقهن في الترشح والتصويت.

مسيرة سيزا نبراوي تستحق النظر إليها بعين منصفة، لا تختزلها في المشاهد التي جمعتها بهدى شعراوي فحسب، أو تراها من خلال روايات تاريخية تنزع عنها الاستقلالية.

«عندما عدت من الخارج حيث عشت حتى بلغت الثامنة عشرة من عمري، كنت متحررة متحمسة، ولهذا رفضت لبس البرقع وأصررت على لبس القبعة، وبحكم الصداقة التي كانت بين والدتي وبين هدى شعراوي، أخذت تهدئ من ثورتي وتقنعني بأن الظروف غير مواتية للحصول على حقوق المرأة مرة واحدة، وأن المطالبة بها في هدوء يجنبنا ثورة الرجال الذين كانوا كل شيء في ذلك الوقت.»

لحظة انكشاف.. خروج من متاهة.. إدراك الطريق

بدأت علاقة سيزا نبراوي بالعمل العام بعد أن أقنعتها هدى شعراوي بذلك، في محاولة من الأخيرة لإخراجها من العزلة التي فرضتها على نفسها، عقب عودتها من فرنسا إلى مصر، وهي في الـ16 من عمرها.

جاء انعزال سيزا نتيجة التحوّلات التي اصطدمت بها بعد رحيل عديلة نبراوي، التي عاشت معها معتقدةً أنها أمها الفعلية، بينما هي في حقيقة الأمر قريبة لها كانت تتمنى أن تنجب طفلة، وعندما لم يتحقق لها ما أرادت، كفلتها وهي في الثالثة من عمرها، بعد انفصال أبويها.

لم تحمل سيزا هذا الاسم عند ميلادها، فقد ولدت باسم زينب محمد مراد، إلا أن عديلة اختارت لها اسم سيزا وأعطتها لقب عائلتها «نبراوي»، واصطحبتها معها إلى العاصمة الفرنسية باريس في العام 1905، وعاشا سويًا هناك إلى أن انتحرت عديلة نتيجة علاقة مسمومة مع زوجها.

بالإضافة إلى صدمة الفقد، اكتشفت سيزا أن عديلة لم تكن أمها الحقيقية وأضحت في مواجهة مستمرة مع الرجل الذي كان سببًا في إقدام أمها التي كرست حياتها لأجلها على الانتحار، ونتيجة تصاعد الصدام بينهما، أعادها الرجل إلى مصر لتعيش مع أقاربها إلا أنها فوجئت بفرض قيود عليها في الحركة والتنقل والملبس على عكس ما عاشت عليه من قبل، وهو ما رفضت الإذعان إليه، حيث امتنعت عن ارتداء البرقع أو غطاء الرأس واكتفت بالقبعة، فضاعف ذلك من قمع عائلتها.

كانت هدى شعراوي صديقة لعديلة نبراوي، بحسب ما أشارت إليه في مذكراتها عندما قالت «وكانت عديلة هانم سبب معرفتي بسيزا وتعلقي بها. وقد أوصتني بها خيرًا قبل وفاتها؛ إذ كانت تحبها حبًا عظيمًا»، وبالتالي ذهبت شعراوي إليها تقنعها بالخروج من عزلتها والاتجاه إلى العمل الأهلي، وتحقق الأمران خاصة أن سيزا وجدت في الاشتغال بالعمل الأهلي خطوة في طريق كسر القيود التي تأسرها وبنات جنسها.

الثورة.. التحرر.. النضال

كانت ثورة 1919 نقطة تحوّل في علاقة سيزا بالمجال العام، ووجدت في الاحتجاجات ساحة للتعبير عن غضبها وثورتها على كل ما هو قائم من تهميش وانتهاك للحقوق، خاصة الذين تعاني منهما النساء المصريات، ولذلك شاركت بحماس في المظاهرات المناهضة للاحتلال البريطاني، واشتركت في تنظيم المظاهرة النسائية الكبرى التي خرجت في الـ20 من مارس، متوجهةً إلى بيت الأمة (بيت سعد زغلول)، وحاصرتها قوات الاحتلال.

وفي العام 1921، اشتركت سيزا مع هدى شعراوي في واحدة من أجرأ الخطوات التي قامت بها رائدات الحركة النسوية، وهي خلع النقاب أو غطاء الوجه أمام العوام، وقد وثقت شعراوي هذا المشهد في مذكراتها قائلة «قرأنا الفاتحة ثم خطونا على سلم الباخرة مكشوفتي الوجه، وتلفتنا لنرى تأثير الوجه الذى يبدو ظاهرًا لأول مرة بين الجموع فلم نجد له تأثيرًا أبدًا، لأن كل الناس كانوا متجهين نحو سعد متشوقين إلى طلعته.»

ونقل الدكتور رفعت السعيد في مُؤلَّفه «مصر والمرأة في مواجهة التأسلم» عن سيزا قولها «وأذكر يوم عودة سعد وفي المظاهرة الهائلة التي استقبلته، بدأت هدي هانم بما اتفقنا عليه فهتفت يسقط الحجاب وخلعته وألقت به أرضًا وداست عليه، وفعلت مثلها وكذلك عدد محدود من النساء، وقد أحدث ذلك ضجيجًا واسعًا ورفضًا حتى من بعض الوفديين المحافظين.»

كان هذا الحدث هو بداية ظهور متكرر لكل من هدى شعراوي وسيزا نبراوي ونساء أخريات من دون غطاء وجه ثم من دون غطاء للرأس، وهو ما أصبح شائعًا فيما بعد بين النساء المصريات في غضون سنوات قليلة.

علاوة على ذلك، ساهمت سيزا في تأسيس الاتحاد النسائي المصري الذي تم تدشينه رسميًا في مارس من العام 1923، وترأسته هدى شعراوي بينما اختيرت هي لتتولى منصب السكرتيرة العامة للاتحاد، وهو أول جمعية ذات توجهات نسوية واضحة في مصر، إذ جاء بين مطالبه الرئيسة: استحداث تشريع يجعل السادسة عشرة سنًا أدنى لزواج الفتاة، وآخر يمنع تعدد الزوجات، بالإضافة إلى اتخاذ الحكومة إجراءات من شأنها تحقيق المساواة بين الذكور والإناث في جميع مراحل التعليم.

شهد هذا العام أيضًا، مشاركة سيزا في مؤتمر الاتحاد النسائي الدولي، الذي انعقد في روما في شهر مايو، إلى جانب كل من هدى شعراوي ونبوية موسى، ليكون باكورة حضورها ومشاركاتها المتعاقبة في المحافل النسوية الدولية ممثلةً للاتحاد النسائي المصري.

كانت سيزا قادرة على إثبات تفوقها وتميزها داخل الاتحاد النسائي، رغم صغر سنها بالنظر إلى بقية العضوات، إذ اختيرت لرئاسة تحرير مجلة l’ Egyptienne  (المصرية) التي أصدرها الاتحاد في العام 1925 باللغة الفرنسية، وكان الهدف منها هو توثيق نشاط الاتحاد النسائي بالتوازي مع نشر مطالبه النسوية والتعريف بأهميتها ودواعي العمل من أجل تحقيقها.

ساهم كل ذلك النشاط في إذكاء روح التمرد والتحدي داخل سيزا، فقررت ألا تقبل الزواج بالفنان والنحات مصطفى نجيب في العام 1937، إلا إذا وافق على أن تكون العصمة بيدها رافضةً أن «ترتبط بحياة يحق فيها لطرف واحد التخلي عن التزامه بالطلاق.»

مقاومة الاحتلال قولًا وفعلًا

لعبت سيزا دورًا محوريًا في تأسيس الاتحاد النسائي الديمقراطي العالمي، الذي انطلقت أعماله في ديسمبر في العام 1945 بعد شهور قليلة من إعلان وقف الحرب العالمية الثانية، وكان هدفه حشد جهود المنظمات النسوية حول العالم من أجل إنهاء الحروب ونشر السلام.

وقد انطلق الاتحاد من العاصمة الفرنسية باريس، قبل أن ينتقل إلى العاصمة الألمانية برلين، وشارك في تدشينه منظمات نسوية من 41 دولة، واختيرت سيزا وكيلة له إلا أنها استقالت من منصبها في وقت لاحق، احتجاجًا على موقفه غير الداعم للقضية الفلسطينية.

بعد وفاة هدى شعراوي في العام 1947، توّلت سيزا رئاسة الاتحاد النسائي المصري، وكان من أبرز خطواتها بعد الصعود إلى هذا المنصب، تأسيس لجنة الشابات بالاتحاد.

واستجابةً للزخم الوطني وانطلاق حركة الكفاح المسلح ضد الاحتلال الإنجليزي في العام 1951، أسست لجنة المقاومة النسائية الشعبية، بالتعاون مع الفنانة التشكيلية إنجي أفلاطون، ثم عادت وأحيت نشاط هذه اللجنة مجددًا عندما اندلعت حرب 1956 والمعروفة باسم «العدوان الثلاثي».

خوض المعركة الانتخابية الأولى للمصريات

جاء الاعتراف الدستوري والقانوني بحق النساء في الترشح والتصويت في العام 1956، بعد نضال طويل خاضته المجموعات النسوية في مصر منذ العشرينيات، ومن بينها الاتحاد النسائي المصري.

أصبح الدستور المصري الصادر في الـ16 من يناير في العام 1956، أول دستور مصري يقر بحقوق النساء السياسية، إذ نص في مادته رقم 31 على أن «المصريين لدى القانون سواء، وهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة، لا تمييز بينهم في ذلك بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة. وبناءً على ذلك، صدر قانون مباشرة الحقوق السياسية، برقم 73 لسنة 1956، الذي جاء في مادته الأولى أنه «على كل مصرى ومصرية بلغ 18 سنة ميلادية أن يباشر بنفسه الحقوق السياسية…»

كما نصت مادته الرابعة على وجوب أن «يقيد في جداول الانتخاب كل من له مباشرة الحقوق السياسية من الذكور والإناث، ………»

وبعد الحصول أخيرًا على هذا الحق، أقدمت ثماني سيدات على الترشح إلى الانتخابات التي أجريت في العام 1957، وفازت منهن سيدتين هما راوية عطية وأمينة شكري.

وترشحت حينها سيزا عن دائرة مصر القديمة في محافظة القاهرة في مواجهة الإذاعي أحمد سعيد، وقد تحدثت عن قصة ترشحها إلى الدكتور رفعت السعيد، الذي نقلها لاحقًا في مُؤلَّفه«مصر والمرأة في مواجهة التأسلم»، وقالت «اتصل بي عدد من اليساريين وطلبوا مني أن اترشح في دائرة مصر القديمة وكان لي نشاط اجتماعي واسع في هذه المنطقة. وكانت الانتخابات مهزلة. أولًا الاتحاد الاشتراكي امتلك الحق في الاعتراض علي أي مرشح، واتصلوا بي وقالوا لا يجوز أن تترشحي ضد إرادة عبد الناصر وأجبت إجابة طائشة وقلت ولماذا يقف عبد الناصر ضد إرادتي في الترشح. أنا امرأة وأريد أن أثير قضايا المرأة وأن أثبت حقها في مجرد الترشح. لم يعترضوا على ترشحي ولكن حاولوا تلقيني درسًا قاسيًا، فقد حاربوني حربًا قاسية.»

انتهت الانتخابات إلى خسارة سيزا وفوز المرشح المنافس، إلا أنه بحسب رواية للفنانة التشكيلية إنجي أفلاطون أوردتها في مذكراتها المنشورة بعنوان «من الطفولة إلى السجن»، فإن سيزا كانت الفائزة الفعلية في الانتخابات، لكن عمليات التزوير التي جرت على مرأى ومسمع من الجميع هي التي حالت دون دخولها إلى البرلمان، وفي وصفها لما حدث قالت «ترشحت سيزا فى دائرة مصر القديمة، حيث واجهت المذيع الأشهر أحمد سعيد، الذى كان صوته صارخًا دائمًا فى صوت العرب، فقد مُنِع مندوبو سيزا نبراوى وأغلبهم من اليساريين من دخول اللجان أو الحضور فى عمليات التصويت والفرز وتم التزوير علنًا لصالح أحمد سعيد.»
ورغم الحرب النفسية والخسارة المادية، لم تكن هذه الانتخابات سوى محطة في مسيرة سيزا نبراوي، تجاوزتها واستمر نشاطها بعدها لنحو 28 عامًا، حتى وافتها المنية في الـ24 من فبراير في العام 1985.