قبل أيام، كشفت شبكة «الباروميتر العربي» البحثية في أحدث استطلاعتها للرأي العام، أن مصر ما زالت في مقدمة الدول العربية التي تنتشر فيها جرائم التحرش الجنسي؛ وبحسب نتائج الاستطلاع، فقد أفادت أكثر من نصف النساء المصريات بتعرضهن للتحرش اللفظي أو الجسدي.

هذه النتائج لا تبدو مُفاجِئة للمصريات اللاتي يعانين من التحرش الجنسي، في أي مكان وفي كل وقت، بل إنها تؤكد حقيقة يدركنها منذ سنوات، فقد سبق أن كشفت هيئة الأمم المتحدة للمساواة بين الجنسين وتمكين المرأة (UN Women)، في دراسة نشرت نتائجها في يونيو من العام 2013،  أن 99.3 في المئة من النساء المصريات تعرّضن لشكل من أشكال التحرش الجنسي.

أزمة انتشار جرائم التحرش في مصر يزيدها تعقيدًا حالة القبول المجتمعي التي لا تسمح فقط بإفلات مرتكب الجُرم من العقاب والوصم، وإنما تنمي داخله شعورًا بالأحقية في ارتكابه، وتُعمّق سادية شخصيته. ويتجسد ذلك في تبريرات المتحرش لجريمته، وفي قناعته الراسخة بأن التحرش دليل على ذكورته التي يتحفي بها المحيطون منذ الميلاد وحتى الممات، ويتجسد أيضًا في إقدامه بأريحية على الاعتداء على الناجية قولًا وفعلًا إن قاومته، ثم الاعتداء على كل من يتدخل لإيقاف جريمته.

المُجرم الذي صدّق أن التحرش حق لا يجوز لأحد أن يمنعه عنه، وانتشى لنظرة خوف في عيون الفتاة التي تحرش بها، يرى في التصدي له تهديدًا لذكورته التي تربى على أنها أقدس ما يملك وما من شيء يعوضها. هذه المعطيات تدفع المتحرشين إلى ارتكاب مزيد من الجرائم في سبيل حماية الذكورة المُتخيّلة، حتى إن كان القتل من بينها.

هذه ليست ترهات أو مبالغات وإنما حقائق تؤكدها حوادث متلاحقة تشهدها مصر، وآخرها جريمة قتل الشاب محمود البنا (17 عامًا) الذي تدّخل للدفاع عن فتاة تعرضت للتحرش الجنسي ثم الاعتداء الجسدي على يد شخص يدعى محمد راجح (19 عامًا). وقد استخدم المتحرش القاتل السلاح الأبيض (مطواة) لقتل الشاب في قلب أحد شوارع مدينة تلا بمحافظة المنوفية.

ذاعت تفاصيل الجريمة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، فتلقفتها وسائل الإعلام وأصبح مطلب #إعدام_راجح وسمًا من بين الوسوم الأكثر تداولًا في مصر على موقع تويتر لعدة أيام، وسرعان ما أصدر النائب العام أمر إحالة المتحرش القاتل وثلاثة آخرين أعانوه على تنفيذ جريمته إلى محاكمة جنائية عاجلة، لاتهامهم بالقتل العمد مع سبق الإصرار والترصد.

هذه الجريمة بكثير من تفاصيلها بما فيها الغضب الشعبي تتكرر مرة بعد الأخرى، ورغم الضجيج الذي يعم الأرجاء بعد كل حادثة، يندر إمعان النظر في مسببات الأزمة الأكبر وهي الذكورة السامة التي تقود الرجال أنفسهم إلى النهاية.

متحرشون وقتلة

في شهر أغسطس من العام الماضي (2018)، تعرّضت امرأة للتحرش الجنسي أثناء تواجدها برفقة زوجها على أحد شواطئ الإسكندرية، فوقعت مشاجرة بين الزوج والمتحرش، ثم فوجئ  الموجودون على الشاطئ بسقوط الأول غارقًا في دمائه، بعد أن سدد له المتحرش طعنة نافذة أودت بحياته.

في غضون ساعات، انتشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي مقطع يوثق الحادثة، ليحتدم الغضب ويتصدر وسم #اعدموا_المتحرش_القاتل قائمة الوسوم الأكثر تداولًا في مصر على موقع تويتر، مسجلًا مطالبة جماعية بتوقيع عقوبة الإعدام على المتحرش القاتل. لكن ما من وسيلة إعلامية حينذاك نظرت إلى الحادثة بشكل أوسع أو ناقشت حلولًا تتعدى المطالبة بإعدام القاتل، مستهدفةً علاج الأسباب الجذرية التي أدت إلى وقوع جريمتي التحرش والقتل.

قبل مرور شهر على هذه الحادثة، وقعت جريمة أخرى بتفاصيل مشابهة، إذ تعرضت فتاة للتحرش اللفظي من قبل عامل في مركز كرداسة بمحافظة الجيزة حيث تقيم، فهاتفت شقيقها وطلبت منه التدخل ومواجهة المتحرش الذي يلاحقها. وبعد حضور الأخ نشبت مشادة كلامية بينه وبين المتحرش، فتدّخل الجيران والمارة لإنهائها، بينما أصر الأخير على الانتقام من الشاب، مستعينًا بعدد من أصدقائه الذين حملوا الشوم والأسلحة البيضاء واقتحموا منزل الشاب، ليفسحوا المجال أمام المتحرش ليعتدي عليه بماسورة حديدية، أصيب على إثرها بكسر بالجمجمة وارتجاج بالمخ، فسقط مغشيًا عليه ولفظ أنفاسه الأخيرة.

وفي يناير الماضي، تعرّضت سيدة في منطقة البساتين للتحرش الجسدي في الشارع، حيث تعمّد أحد الرجال لمس أجزاء في جسدها، وعندما قاومته وتعالت صرخاتها تدّخل شاب يعمل مكوجي بالمنطقة وتمكن من إنقاذها، فاستشاط المعتدي غضبًا وسارع إلى إحضار سكين، وطعن الشاب في صدره، فأرداه قتيلًا.

أجساد وأرواح.. ثمن لأوهام الذكورة وتقديس الذكورية

يأتي في مقدمة الأسباب التي تقف وراء هذه الجرائم، ممانعة المجتمع للاعتراف بأن المتحرش مجرم يستحق العقاب، والتعاطف معه في أغلب الحوادث، والاحتفاء به في بعضها مثلما حدث مع المتهم بالتحرش جنسيًا بفتاة في منطقة التجمع الخامس بالعاصمة القاهرة، في شهر أكتوبر من العام الماضي، بالإضافة إلى التعاطف والاحتفاء معًا الذين تلقاهما لاعب كرة القدم عمرو وردة الذي اتهم بالتحرش الجنسي في يونيو الماضي، أثناء مشاركة المنتخب المصري في بطولة كأس الأمم الأفريقية. كل هذه الأمور تتعانق لترفع درجة استساغة المتحرش لجريمته.

عند وقوع هذه الجرائم، ينصب أغلب الاهتمام على القتل بينما يتوارى التحرش، فتتركز المطالب في ضرورة تطبيق أقصى عقوبة وهي الإعدام، بينما يُخضِع قليلون المادة «25 مكرر» من قانون الأسلحة والذخيرة للنقاش بشأن مدى نجاعتها – وهو أمر شديد الأهمية- خاصة أن القتل في هذه الحوادث يرتكبه المتحرشون باستخدام أسلحة بيضاء، رغم تجريم حيازتها بموجب هذه المادة التي تنص على «يُعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أشهر، وبغرامة لا تقل عن 500 جنيه، ولا تزيد عن 5000 جنيه، كل من حاز أو أحرز بغير ترخيص سلاحًا من الأسلحة المبينة بالجدول رقم 1 (الأسلحة البيضاء). وتكون العقوبة الحبس لمدة لا تقل عن ثلاثة أشهر، وغرامة لا تقل عن ألف جنيه، ولا تزيد عن 10 آلاف جنيه إذا كانت حيازة أو إحراز تلك الأسلحة فى أماكن أو وسائل النقل أو دور العبادة.»

وفي هذا السياق، فإنه من الضروري أن تكون المواد القانونية المختصة بجريمة التحرش الجنسي محورًا للنقاش أيضًا، خاصة أن التحرش هو الجريمة الأولى المؤدية إلى القتل، والإشكاليات القانونية المرتبطة به تساهم في انتشاره وممارسته باعتيادية.

وقد أكدت منظمات نسوية عديدة أن قانون العقوبات الحالي، لا يوفر دعمًا للناجيات سواء فيما يتعلق بالإبلاغ أو خلال عملية التقاضي، فضلًا عن أن بعض الألفاظ والمصطلحات ترجح كفة المتحرش على حساب الناجية، وقد لفتت إلى ذلك مؤسسة «نظرة للدراسات النسوية» في حملتها «قانون نشاز» التي انطلقت بالتزامن مع الـ16 يومًا الدولية لمناهضة العنف القائم على النوع الاجتماعي في العام 2014، حيث انتقدت المؤسسة النسوية نص المادة «306 مكرر ب»، الذي يعرّف التحرش بناءً على نية الجاني وما إن كان قد قصد التحرش الجنسي أم لم يقصده، مشددةً على أن الأصل هو ربط تعريف التحرش بمدى الضرر المادي والأدبي الواقع على الناجيات بدلًا عن نية المتحرش.

وتنص المادة «306 مكرر أ» على «يُعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر وبغرامة لا تقل عن ثلاثة آلاف جنيه، ولا تزيد على خمسة آلاف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من تعرض للغير في مكان عام أو خاص أو مطروق بإتيان أمور أو إيحاءات أو تلميحات جنسية أو إباحية، سواء بالإشارة أو بالقول أو بالفعل بأية وسيلة، بما في ذلك وسائل الاتصالات السلكية أو اللاسلكية……»

بينما تنص المادة «306 مكرر ب» على «يعد تحرشًا جنسيًا إذا ارتكبت الجريمة المنصوص عليها في المادة «306 مكرر أ» من هذا القانون، بقصد حصول الجاني من المجني عليه على منفعة ذات طبيعة جنسية، ويعاقب الجاني بالحبس مدة لا تقل عن سنة وبغرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه ولا تزيد على عشرين ألف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين.»

من ناحية أخرى، فإن الإعلام ما انفك يراوح مكانه فيما يتعلق بالتغطية غير الحساسة تجاه القضايا المرتبطة بالنساء وتحديدًا تلك التي تنطوي على عنف ضدهن؛ فما برحت المواقع الإخبارية والصحف تتمسك بالنهج ذاته فيما يتعلق بنشر أسماء الناجيات، متجاهلةً عواقب ذلك عليهن نفسيًا، إلى جانب إصرارها على إلصاق الألقاب بالناجيات من حوادث العنف الجنسي، مثلما فعلت من قبل باستحداث ألقاب مثل: فتاة المعادي، وفتاة التجمع، وفتاة التحرير، وفتاة الجامعة، وغيره.

وبالنظر إلى التغطيات الخاصة بالحادثة الأخيرة، فقد نشر موقع «اليوم السابع» الإخباري، تقريرًا صحافيًا بتاريخ 13 أكتوبر 2019، عنوانه «راجح قاتل.. والدة بطلة مشاجرة محمود البنا بالمنوفية: النيابة لم تستدع ابنتي.. الجاني ليس خطيبها وسأظل مدينة للمجني عليه طيلة حياتي…»، كما أورد الخبر في متنه الاسم الأول للناجية والاسم الثنائي لوالدتها.

بصيغة مشابهة، جاء عنوان حوار صحافي، نشرته جريدة الدستور على موقعها الإلكتروني بتاريخ 13 أكتوبر 2019، ونصه «تعرضت للإهانة.. والدة بطلة حادث المنوفية تروي تفاصيل مثيرة (فيديو)»، وقد ورد الاسم الثنائي للناجية وأمها في ثنايا الحوار.

هذه الممارسات تثبت أهمية وحتمية الضغط على المؤسسات الإعلامية في مصر بشكل مستمر ومنتظم، حتى تضيف إلى «كتب الأسلوب – Style Books» قواعد التغطية الحساسة للقضايا المرتبطة بالنساء، بما يحقق الحماية لهن بدلًا من الوصم والتعريض إلى الإيذاء.

«كتاب الأسلوب» هو المرجع الذي تصدره المؤسسات الصحافية، بهدف تحديد اللغة المستعملة في الكتابة، وأشكال الصياغة، ومعايير اختيار الصور المرفقة، وغيرها من عناصر إنتاج المادة الصحافية.

على الأرجح، هناك بين المغردين المحتجين على قتل الشباب الذين يتصدون للتحرش، من سبق أن دافع عن متحرش وبرر له، أو شكك في اعتبار ما اقترفه تحرشًا، أو ربما دعا إلى تجاوز ما ارتكبه حتى لا يضيع مستقبله، فإلى متى يظل بيننا من ينتظر وقوع القتل عقب التحرش، حتى يعترف بأن ما تتعرض له النساء في مصر «جريمة» تستدعي العقاب؟