كتبت: آلاء حسن

اعتادت المجلات النسائية وصفحات الموضة في الجرائد على أن تربط بين اختيار النساء لملابسهن بعناصر مثل تفضيلات الألوان، والراحة الجسدية والنفسية، والرائج في ذلك الوقت، بينما تقل مناقشة مدى واقعية تمتع النساء بالحرية في اختيار مظهرهن، على الرغم من أن كثيرات في مجتمعاتنا المحافظة لا يملكن حرية اختيار اللباس، بسبب الأعراف أو القوانين أو التفسيرات والفتاوى الدينية أو انتشار التحرش الجنسي أو أصحاب الأعمال أحيانًا.

ما زال كثيرون يعممون فكرة «التعرف إلى مكنون الشخصيات عبر الملابس»، سواء من خلال الطراز والنمط أو من خلال الألوان استنادًا إلى اختبار ابتكره الأخصائي النفسي السويسري ماكس لوشر في العام 1940، يربط بين تفضيلات الأفراد لألوان بعينها لا سيما من خلال ملابسهم، وحالتهم النفسية والجسدية وشعورهن حيال أنفسهن. لكن هذا الاختبار لا يمكن أن يقدم نتائج صادقة ويعبر عن حالة امرأة مرغمة على الاتشاح بالسواد إما رضوخًا لأحكام بلد أو أعراف قرية، وإما تلبيةً لظروف اقتصادية جعلت العباءة السوداء خيارًا اضطراريًا، ولن تكون نتائجه مُعبّرة أيضًا في حال تطبيقه على امرأة تختار ملابسها بمعايير الخوف والحذر التي تنعكس على اختياراتها في الألوان والإكسسوارات.

نظريًا، الملابس شيء يلتصق بجسد الفرد وبالتالي فهي ملك له مثل جسده، ولذلك فإن اختيار وتحديد المظهر الخارجي يعد أحد أوجه الحرية الشخصية تحفظه المواثيق الدولية والدساتير في إطار حرية الأفراد الشخصية. وقد أقرت مواثيق دولية وفي مقدمتها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، حق الإنسان الأساسي في ظروف معيشية لائقة تتوفر فيها خدمات مثل التعليم والعلاج، إلى جانب احتياجات الغذاء والماء والملبس والمأوى، بالإضافة إلى الإقرار بحق الفرد في القدرة على اتخاذ القرارات الشخصية وتحديد الخيارات.

بينما تنص المادة 54 من الدستور المصري على «الحرية الشخصية حق طبيعى، وهى مصونة لا تُمس، وفيما عدا حالة التلبس، لا يجوز القبض على أحد، أو تفتيشه، أو حبسه، أو تقييد حريته بأي قيد إلا بأمر قضائى مسبب يستلزمه التحقيق…»

في المقابل، فإن واقع النساء المصريات يكشف افتقاد القطاع الأوسع منهن للشعور بالحرية الكاملة في اختيار مظهرهن الخارجي، وتُبرز الحياة اليومية حقيقة الخيارات المحدودة التي تمنعهن من اختيار ما قد يعبر عنهن مزاجيًا وفكريًا وعاطفيًا، مما يجعل القول بأن الملابس تعبر عن شخصية مرتديها لا ينطبق على قطاع كبير من النساء والفتيات في المجتمع المصري خصوصًا والعربي عمومًا.

«اختيارنا للملابس يجمع بين حرية صورية وقمع مبطن، فأنا بالفعل أشتري ملابسي بنفسي ولا يختارها أحد معي أو يشتريها لي شخص ذو وصاية، إلا أن قرار الشراء والاختيار تحكمه ضوابط عديدة، مثل إرضاء أسرتي تجنبًا للمشاكل، بالإضافة إلى تحقيق قدر من الحماية من  التحرش في الشارع والمواصلات.»

هكذا أجابت حنان البالغة من العمر 29 عامًا، عن سؤالنا لها بشأن حرية اختيار اللباس، كما أخبرتنا أن تدخل أسرتها في تشكيل مظهرها الخارجي لا يتوقف عند حدود طول أو قصر الملابس، وإنما يمتد إلى اختيار الألوان، وبحسب حنان فقد مزقت والدتها أحد فساتينها لأن لونه أحمر وصبغته متوهجة.

اعتبرت الأم الفستان مثيرًا وأمرت الابنة بإعادته إلى المحل الذي اشترته منه إلا أن الأخيرة رفضت ذلك، فمزقته الأم بالمقص أمام عينيها.

الأسرة ليست مصدر التقييد الوحيد، فقد فوجئت حنان بسؤال وجهته إليها مسؤولة الموارد البشرية في إحدى مقابلات العمل، بشأن ما إن كانت على استعداد لخلع الحجاب لتحصل على الوظيفة، وذلك بعد أن قالت لها إن سيرتها الذاتية جيدة جدًا وهناك حماس لتعيينها، إلا أن هناك عائق وحيد وهو أن إدارة الشركة لا تحبذ تشغيل المحجبات.

«لم أختر الحجاب يوم ارتديته، وإنما فرضه علي المعلمين بالمدرسة. لكن ذلك لا يعني أن يأتي خلعي له إذعانًا لسلطة جديدة. ومع ذلك، فإنني لا ألوم أخريات قبلن بهذا الشرط من أجل الحصول على وظيفة.»

ترى حنان أن ملابسها لا يمكن أن تعبر عن شخصيتها الحقيقية، فهي تلتزم بنمط محافظ في ملابسها لأن الأمر الواقع فرضه عليها وليس لأنها تفضله، وهو ما تعتقد أنه حالة عامة ترزح تحت وطأتها النسبة الأكبر من النساء المصريات.

اختتمت حنان حديثها باستعادة مشهد باقٍ في ذاكرتها، «في أحد الأيام، دار حوار بيني وبين فتاة كانت تجلس إلى جواري في المترو، وخلاله سألتها عن العباءة السوداء التي ترتديها ومدى الراحة التي تحققها لها، فابتسمت وقالت إنها لا يشغلها مسألة الراحة ولا الشكل، وإنما يعنيها أن تكون “رخيصة وتستحمل البهدلة وتبعد عنها العيون”، فهل تتخيلي أن امرأة مثلها يمكن التعرف إلى شخصيتها عبر عباءة سُجِنت داخلها؟»

أما عائشة البالغة من العمر 34 عامًا، تعتقد أن اختيار الملابس حرية للذكور فحسب في مجتمعنا، «إبان طفولتي، كانت أمي تختار لي الملابس بمعايير امرأة متدينة في بيئة متشددة، وأتذكر أنني كلما راقني فستان قصير أو بدون أكمام، رفضت أن تشتريه مفضلة السراويل والقمصان، وكلما سألتها لماذا تشتري الأمهات الأخريات  هذه الفساتين لبناتهن بينما تمتنع هي، كانت ترد إما بأن الفستان ليس جميلًا كما أظن وإما بأن خامته ليست جيدة وستتمزق سريعًا، حتى كبرت قليلًا وأصبحت في العاشرة -على حد ما أتذكر- فأضحت الإجابة: ده حرام.. ربنا يزعل لو لبسناه.»

تتذكر عائشة أن أمها فرضت عليها في المنزل، ارتداء البيجامات المكونة من سراويل طويلة وقمصان بأكمام طويلة أو نصف أكمام في الصيف ومنعتها من ارتداء أي ملابس لا تلتزم بهذه المواصفات، وذلك لأن لديها شقيق أكبر منها ولا يجب أن تظهر أمامه بشيء قد يثيره، بينما كان الصبي يتحرك في المنزل بملابسه الداخلية من دون تقييد.

بعد أن أكملت عائشة الحادية عشرة، أجبرها والداها على ارتداء الحجاب لتصبح الملابس مجرد أقمشة تغطي جسدها وتخفي ملامحه، «بعد أن توقفت أمي عن مرافقتي أثناء شراء الملابس، كنت قد تعوّدت على اختيار ما يجعلني مقبولة في المجتمع الذي أنتمي إليه بغض النظر عن رغبتي.»

كانت عائشة تهوى الوقوف أمام الواجهات الزجاجية للمحلات، حتى تشاهد الملابس المعروضة على المانيكانات، إلا أن هذه الهواية تلاشت بمرور الوقت ولم تعد هذه الواجهات تجذبها، «عام بعد الآخر، تيقنت من أن أغلب هذه المعروضات لن أرتدي أي منها طوال حياتي، فقد صار لي شكل محدد يفرض علي الشراء من أماكن بعينها. ولأنني أرتدي إما فساتين واسعة وطويلة أو عباءات، لم يعد بوسعي ارتداء كل الألوان التي أحبها، فملابسي تكاد تقتصر على أربعة أو خمسة ألوان.»

وعندما سألناها عن العلاقة بين الملابس وشخصية الفرد، قالت «لا أصدق في القول بأن الملابس تعبر عن شخصية الإنسان خاصة إن كان امرأة. في الحقيقة الملابس تعبر عن الجماعة المحيطة بنا ولا تعبر عنا، لأننا لا نختارها بحرية بل مدفوعات بمخاوف وضوابط كثيرة لا حصر لها.»

لكن عائشة اختبرت شعور حرية الملبس مرة واحدة في حياتها على حد قولها، وذلك حينما سافرت في رحلة دراسية امتدت لأسبوعين إلى إحدى الدول الأوروبية، وكان اليوم الأخير فيها فارغًا من اللقاءات والجلسات، فقررت أن يكون يومًا كاملًا للتنزه بمفردها.

«عندما وصلت إلى هذا البلد، وجدت النساء تتحرك بحرية وأريحية، لم أشعر بأن أجسادهن عبء عليهن. بدا واضحًا أن كل امرأة تختار ما يعبر عن شخصيتها ومزاجها بالفعل، فقررت أن اختبر هذا الشعور ما دمت بعيدة عن كل الضغوط التي اعتدت عليها، واشتريت ملابس حتى ارتديها في اليوم الأخير فقط، ملابس تعبر عني، وترضي ذوقي من دون اعتبار لأحد.»

اشترت عائشة تنورة قصيرة مزركشة، واختارت معها قميصًا أبيض اللون، واشترت باندانا وردية لتزين بها شعرها. خلعت الحجاب وتخلت عن العباءة ثم خرجت لأول مرة في حياتها، تتجول بحرية وهي ترتدي ما اختارته لنفسها. «شعرت أنني أبدو لأول مرة كما أريد أن أكون، كنت أتأمل شكلي في كل الواجهات الزجاجية التي أمر أمامها، وقد تملكني شعور بأن هذه الفتاة التي أراها هي عائشة التي أتمناها.»

على عكس الحالتين السابقتين، نشأت رانيا بين أسرة أتاحت لها حرية اختيار اللباس وتحديد المظهر، إلا أن المجتمع ينتهك هذه الحرية منذ طفولتها.

«في مرحلة المراهقة، امتلأ جسدي كثيرًا وأصبحت فتاة سمينة، وعلى الرغم من أن أسرتي كفلت لي حرية اختيار اللباس والشكل الذي أظهر به، فإن المحيطين بي في المدرسة والنادي كانوا يمارسون أقبح أنواع التنمر بحقي، وكثيرًا ما كنت أسمع جملة: اللبس ده للرفيعين.. مش للي زيك أو في حجمك.»

نتيجة التنمر المستمر، غيّرت رانيا نمط ملابسها وأصبحت ترتدي سترات لتغطي ذراعيها، وأحيانًا تلجأ إلى القمصان المطاطية ذات الأكمام الطويلة تحت البلوزات ذات الأكمام القصيرة، رغم أنها لا ترتدي الحجاب ولا تنوي القيام بذلك.

واقعة محددة أشارت إليها رانيا، «عندما كنت بالمرحلة الثانوية، تعرضت للتحرش الجنسي على يد أحد الأولاد بعد انتهاء إحدى حصص الدروس الخصوصية، وحينها كنت أرتدي قميصًا بلا أكمام، تصديت له ووبخته حتى فوجئت بزميله يتدخل قائلًا «هيعاكسك ليه أنت مش شايفة دراعك اللي فرحانة بيه ده قد إيه.. ده يخاف منه!»

ترسخت قناعة لدى رانيا بأن المظهر يملك حرية اختياره الرجل وحده، أما المرأة تختار وفق ضوابط وقواعد واضعها الأصلي والأساسي هو الرجل.

عندما سألناها عن الارتباط بين الملابس وشخصية صاحبتها، قالت «ربما تعكس الملابس الطبقة الاجتماعية التي ننتمي إليها، وأحيانًا تعبر عن علاقتنا بالموضة، لكنها لا تعكس شخصياتنا الحقيقية لأننا حتى إن كنا نشتري ملابسنا ولا يقيدنا قانون مثل نظيراتنا في السعودية على سبيل المثال، فإننا محكومات بشرائع ونواميس غير معلنة، إلا أن الزمن عززها وثبتها داخلنا وصرنا نلتزم بها لأن أي خروج عنها سيتبعه عقاب حتى إن كان معنويًا عبر إساءة لفظية أو نظرة احتقار.»

 

تم تغيير الأسماء نزولًا عند رغبة صاحباتها