جميلة العلايلي.. شاعرة «أبوللو» التي همشوا تاريخها لصالح رجالات الأدب
«مثلي الأعلى منذ وعيت في الأدب أديبة الشرق النابغة مي زيادة، ومثلي الأعلى في كفاحي الاجتماعي والوطني زعيمة النهضة النسائية هدى هانم شعراوي، ومثلي الأعلى في الشعر رائد الشعر الحديث ومؤسس جماعة أبوللو الدكتور أحمد زكي أبو شادي. ورغم تأثري بهؤلاء فقد كان لي أسلوبي الخاص في كل كفاح قمت به بإلهام من الله.»
هذه الكلمات التي جاءت على لسان الشاعرة المصرية جميلة العلايلي (1907-1991)، تكشف المسارات الرئيسة في حياة واحدة من أهم شعراء العصر الحديث في العالم العربي، وأحد هذه المسارات كان الولوج إلى المجال العام والتمرد على التقاليد وهو ما لعبت كل من مي زيادة وهدى شعراوي دورًا في إذكائه سواء بشكل مباشر أو غير مباشر، فقد ألهمتها مي زيادة كامرأة كسرت كثيرًا من الحواجز باقتحامها الساحة الأدبية لتنافس الشعراء الذكور وتحاججهم الند للند، على عكس ما كان سائدًا مع الشاعرات السابقات ومن بينهن عائشة التيمورية وملك حفني ناصف، اللاتي اخترن مد طريق موازٍ للحِراك الثقافي الذكوري وسيطرت صبغة محافظة على أشعارهن. أما هدى شعراوي فقد شكّلت نموذجًا استثنائيًا في نظر العلايلي، فهي قائدة موجة التحرر النسائي التي تصاعدت في أعقاب ثورة 1919، ولذلك وصفتها بــ«زعيمة النهضة النسائية». حرصت العلايلي على قراءة مقالات شعراوي وحضور محاضراتها والذهاب إلى صالونها والاستماع إلى خطاباتها. وتجسّد جانب من تأثرها بهدى شعراوي في تأسيسها لعدد من الجمعيات الاجتماعية والثقافية مثل: جمعية المتطوعات للدفاع المدني، وجمعية الإصلاح الاجتماعي، وجمعية أسرة الثقافة، بالإضافة إلى مجمع الأدب العربي الذي كانت تنعقد جلساته بمقر صالونها الأدبي الذي عُرِف باسم «صالون جميلة».
وبشكل مباشر، كانت شعراوي وزيادة هما المحفز والداعم للعلايلي حتى تؤسس صالونها الأدبي، الذي دشنته في الثلاثينيات بمدينة المنصورة حيث ولدت وعاشت فترة طويلة من حياتها، ثم انتقلت به إلى القاهرة عقب الاستقرار فيها، بعد أن كانت تأتي إلى العاصمة في زيارات خاطفة، لحضور جلسة نقاشية أو حفل في الأوبرا أو محاضرة ثقافية. وقد أقامت صالونها في منزلها بشارع حسين علام في حي شبرا، وكانت تعقد جلساته يوم الأحد من كل أسبوع، وحسب الصحافي حافظ محمود، أحد مؤسسي نقابة الصحافيين المصريين، فإن «جميلة العلايلي قد فتحت الباب أمام أعضاء صالونها الأدبي لاتجاه جديد، أطلِق على شعرائه شعراء ما بعد أبوللو.»
كان صالون مي زيادة هو السبيل الذي أدخل العلايلي إلى الساحة الثقافية، إذ كانت تواظب على حضور جلساته في القاهرة، وتعرّفت وقتئذٍ إلى أعلام الحركة الثقافية مثل: سلامة موسى، وعباس محمود العقاد، وأحمد لطفي السيد.
في الشعر، راقت مدرسة أبوللو العلايلي، وهي المدرسة التي أسسها الشاعر أحمد زكي أبو شادي في العام 1932 في القاهرة، وانبثق عنها مجلة بالاسم نفسه، وكانت العلايلي صاحبة الاسم النسائي الوحيد الذي لم يحل على المجلة زائرًا أو بشكل متقطع، فقد كانت قصائدها ركنًا أساسيًا.
كان أبو شادي من أشد المؤمنين بموهبة العلايلي والداعمين لها، بل ورأى منتجها الشعري بمثابة نقطة تحول في مسيرة الشعر النسائي، وقد عبّر عن ذلك في مقدمته لديوانها الأول الصادر بعنوان «صدى أحلامي» في العام 1936، وقال «لكي نُقدّر جميلة العلايلي التقدير الذي تستحقه مواهبها لا يجوز أن نغفل مقارنة أدبها بأدب الجيل السابق، لقد كانت شاعرات ذلك الجيل حريصات على وأد عواطفهن، فكان مُحرّمًا عليهن شعر الوجدان الفطري، وكانت العاطفة عندهن محصورة في الرثاء وتحية الأهل وتوديعهم، ولكننا في هذا الشعر الجديد نلمح ثورة جديدة على تلك التقاليد البالية، فنجد صاحبته كاشفة في اطمئنان وفي دقة وشجاعة عن دخيلة نفسها في صدى أحلامها المنغومة.»
حب المحال أصابَ مَعْقِل مهجتي.. فعرَفتُ فيه الصَفْو والتَّعْذيبا
يا حسرةً تُفني منــاهِلَ رغبــتي.. يا نزعةً تُحيي الفؤادَ طَرُوبا
إنِّـى أراه مـع الظلام كأنــَّه.. طيفٌ يلوح مع الحياةِ غريبــا
من قصيدة «حب المحال» – ديوان صدى أحلامي 1936
شاعرة «أبوللو» المُهدر حقها
نشأت جماعة أبوللو كدعوة للتجديد في مواجهة مدرسة الديوانيين التي دشنها عباس محمود العقاد وإبراهيم المازني وعبد الرحمن شكري، ومثّل خليل مطران الأب الروحي لهذه الجماعة المتأثرة بالثقافة الغربية. وقد ضمت أبوللو صوتًا نسائيًا لا يعكس التغيير على المستوى الشعري فحسب وإنما الاجتماعي أيضًا.
وعن بداية علاقتها بـأبوللو، يقول أديب الصحافة وديع فلسطين، في موسوعته «وديع فلسطين يتحدث عن أعلام عصره»، إنها أرسلت قصيدة بعنوان «الساحر» إلى الدكتور أحمد زكي أبو شادي مؤسس جماعة أبوللو، فنشرها في عدد المجلة الصادر في إبريل من العام 1933.
ويضيف فلسطين في الموسوعة نفسها «جميلة العلايلي كانت أكثر أعضاء أبوللو انتظامًا في نشر شعرها ونثرها، حتى كان لها الحق أن تقول عن نفسها: إنها الشاعرة الوحيدة في الجماعة.»
ورغم أنها كانت أول شاعرة تنضم إلى جماعة أبوللو وأحد ركائزها ومن ثم عضوة بارزة في مجلتها الشعرية، لم تنل الشاعرة الأبولونية حقها في التأريخ والتوثيق مثل زملائها الذكور في الجماعة أو غيرهم من أبناء ذلك الجيل من الشعراء، وهو حال أغلب الشاعرات المصريات اللاتي همشتهن الأبحاث والدراسات لصالح الشعراء الرجال. وهذا ما أكده الباحث والشاعر شعبان يوسف في كتابه «لماذا تموت الكاتبات كمدًا؟»، مشيرًا إلى أن الدكتور شوقي ضيف، الشاعر والرئيس الأسبق لمجمع اللغة العربية، راح يذكر ويعدد شعراء مدرسة أبوللو في كتابه « الأدب العربي المعاصر في مصر»، الذي صدرت طبعته الأولى في العام1957، ورغم سرده لأسماء الرواد والناشئة في الجماعة لم يشر إلى جميلة العلايلي بأي شكل.
من أهم ما يميز شعر العلايلي هو المزج بين الحب والطبيعة والشكاية والـتأمل، فضلًا عن الصوفية والروحانية، على غرار ما انطوت عليه أشعار إبراهيم ناجي وحسن كامل الصيرفي وصالح جودت وكلهم من المنتمين إلى مدرسة أبوللو. فضلًا عن ذلك، اجتمع في شعرها الشجن والحيرة مع الرغبة في الانطلاق وفك القيود والتمرد على الواقع، وتداخلت الرومانسية والكلاسيكية، حيث استخدمت الألفاظ الإيحائية والعصرية كما هو معهود في أشعار المدرسة الرومانسية مع احتفاظها بالألفاظ الكلاسيكية التراثية.
صوت الجحود يرن اليوم في أذني.. لولا الإباء لرحت اليوم أحكيـه
قد بات قلبي غريبًا في محبته.. حب طهور فهل من ثم يدريـه؟
وقد غدوت وحالي في الورى عجـب.. وليس في الحب ما أخشى فأخفيــه
من قصيدة قلب غريب – ديوان صدى إيماني 1976
هل كانت أول امرأة عربية تصدر ديوانًا شعريًا في العصر الحديث؟
أصدرت العلايلي ديوانها الأول «صدي أحلامي» في العام 1936، واحتفت به الساحة الثقافية احتفالًا كبيرًا، فأثنى عليه عزيز أباظة ومحمد عبد القادر حمزة ومحمود البدوي وزكي مبارك، وأشادت به الأديبة السورية وداد سكاكيني واصفةً إياه بــ«أول ديوان شعري تنشره المرأة العربية في نهضتنا الحديثة». وتجدر الإشارة إلى أن الزعم بأن العلايلي هي أول امرأة عربية تصدر ديوانًا شعريًا في العصر الحديث، هو أمر محل جدل لأن الشاعرة اللبنانية وردة اليازجي (1838- 1924٤)، التي حطت إلى مدينة الإسكندرية وعاشت فيها، أصدرت ديوانها «حديقة الورد» للمرة الأولى في العام 1867 في 58 صفحة، وكُتِب على غلافه «نظم السيّدة وردة بنت المرحوم الشيخ ناصيف اليازجي عُفي عنها»، إلا أن كثيرًا من المؤرخين والباحثين لم يروا «حديقة الورد» ديوانًا فعليًا وإنما اعتبروه مجرد تجميع لقصائد لم تحمل عناوين، وفي كل طبعة من طبعاته الثلاث، كانت تضاف إليه قصائد جديدة (غير معنونة).
أصدرت العلايلي ديوانها الثاني بعنوان «صدي إيماني» في العام 1976 (بعد أربعين عامًا من إصدار الديوان الأول)، وجمعت فيه شعرها الصوفي. أما ديوانها الثالث «نبضات شاعرة» فقد صدر في العام 1981، بعد أن كان مقررًا له أن يصدر في العام 1951 وكتب حينها مقدمته أحمد زكي أبو شادي، وقال عنه إنه ثروة جديدة تُضاف إلى الشعر العربي الحديث، قوامها المثالية الروحية العزيزة التي تجلّت، وما تزال تتجلى في آثار أخرى لجميلة العلايلي.
ويرجع تأخير إصدار ديوان «نبضات شاعرة» إلى حالة العزلة التي فرضتها على نفسها، عقب وفاة زوجها الصحافي سيد ندا وأمها التي كانت تنظم أشعارًا تتغزل فيها وتكشف عاطفتها القوية تجاهها وتعلقها العميق بها، ويتجلى حزنها الكبير بعد الرحيل في رثائها لها:
أين الجمال؟
جمال أحلامي تواري من زمن
منذ اختفت أمي الحبيبة بات لحنى كالشجن
إني جعلت لها المني ترنيمة من كل فن
فضلًا عن الدواوين الثلاث، هناك ديوانان مخطوطان للعلايلي لم ينشرا خلال حياتها، وهما «همسات عابدة» و«آخر المطاف».
«الأهداف».. مجلة حفظت إنتاجها وحققت طموحاتها
أسست العلايلي مجلة «الأهداف» في العام 1949، حتى لا يخضع إنتاجها لأي جهة أخرى، وكان مقرها بجوار دار الإمام محمد عبده بضاحية عين شمس في القاهرة، وعرف شارعها باسم «الأهداف». وعلى مدار ربع قرن، نشرت العلايلي بالمجلة مقالاتها وأعمالها الأدبية والشعرية وضمت إلى كُتّابها الشعراء المنتمين فكريًا إلى مدرسة أبوللو لاسيما الشاعرات. وقد اكتفت بتحرير المجلة وتركت لزوجها الصحافي سيد ندا الشؤون الإدارية والمالية حتى وافته المنية، فاضطرت إلى تحمل المسؤولية كاملة إلى أن أوقفت إصدارها في العام 1975، ثم انكفأت عن الحياة العامة.
فضلًا عن المجلة والمقالات الاجتماعية والدراسات النقدية والدواوين، ألفت العلايلي نحو 12 رواية مزجت فيها بين السرد القصصي والشعر، كان أولها «الطائر الحائر» في العام 1935، ثم أتبعتها بروايات أخرى تصدرتها شخصيات نسائية مثل: «هندية»، «أماني»، «الراعية»، «جاسوسة صهيون»، «أنا وولدي».
رحلت العلايلي في الـ11 من إبريل من العام 1991 بجسدها بينما بقي تاريخها الملهم وإنتاجها الثري. ومع ذلك، لا يمكننا التغافل عن حقيقة افتقار سيرتها للبحث والتوثيق، إذ لم يهتم الدارسون والمؤرخون بتناولها إلى أن نوقشت رسالة ماجستير «جميلة العلايلي.. حياتها وشعرها – دراسة فنية» للباحث أحمد محمد الدماطي في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة في العام 2008، ثم كتب الأديب المصري فاروق شوشة مقالًا بجريدة الأهرام ملقبًا إياها بشاعرة الوجدان النسائي.