فتاوى الشيوخ عن «النساء»: الوسطيون لا يختلفون كثيرًا عن المتشددين.. وتجديد الصيغة لا يعني تغيير الخطاب
تتعدد صور العنف ضد المرأة ومصادره، ويبقى رجال الدين أحد أبرز هذه المصادر وفتاويهم وسيلة من وسائل السيطرة على النساء وتثبيطهن. فقد كانت المرأة وما زالت طبقًا رئيسًا على مائدة الفتاوى الدينية، التي ينشغل السواد الأعظم منها بأجساد النساء، وطالما رسخ مطلقو الفتاوى إلى هامشية المرأة في المجتمع ودونيتها عن الرجل، وساعدتهم مؤخرًا القنوات الفضائية ومواقع التواصل الاجتماعي على نشر فتاويهم على نطاق واسع والوصول إلى قطاعات متشعبة، بما يعرقل المساعي الرامية إلى إيقاف التمييز والتنميط وتحقيق المساواة، خاصة أن أفكارهم تعزز النظرة إلى جسد المرأة باعتباره مركز الشهوة والفتنة، وتغذي التمركز حول الرجل إلى الأبد وتحت أي ظرف.
وعند الحديث عن المرأة في إطار تفسيرات وتأويلات الشيوخ والدعاة، يمكننا القول أن المحسوبين على التيار الوسطي لا يبتعدون كثيرًا عن حاملي الأفكار السلفية والوهابية، والفتاوى خير دليل:
شيخ الأزهر وضرب الزوجات
قبل شهرين، قال شيخ الأزهر أحمد الطيب، إن لجوء الزوج إلى ضرب زوجته «الناشز» لغرض الإصلاح مباح، إذا لم يفلح معها النصح ومن بعده الهجر، مستندًا إلى الآية القرآنية «اللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلًا إن الله كان عليًا كبيرًا.»
جاءت تصريحات الطيب خلال الحلقة 26 من برنامج «حديث الأزهر» الذي أذاعته قناة الفضائية المصرية خلال شهر رمضان الماضي، وقال فيها إن الضرب المقصود منه الإصلاح وإنقاذ الأسرة وليس الإيلام ولا الإيذاء ولا الضرر، وأضاف أن المرأة غير الناشز يُحرم ضربها مطلقًا.
ورغم إباحته لضرب الزوجة في حالات خاصة ونادرة على حد قوله، كرر الطيب أكثر من مرة في الحلقة نفسها أن ضرب الزوجة من دون ضوابط حرام وليس حقًا للرجل، وطالب المفتين والدعاة بتوخي الحذر في فتاويهم في هذا الشأن. لكن خلاصة الحديث كانت الإبقاء على جواز الفعل والتمسك بوجود رخصة للرجل للقيام به في أوقات محددة.
لم يأتِ كلام شيخ الأزهر بجديد أو برأي يمنع أو يحرّم ضرب الزوجة وإنما اكتفى بتقييده، بما يرسخ للتصوّرات النمطية عن علاقة الزوج بالزوجة ويضمن بقاء موازين القوى في صالح الرجل. مثل كثير من الفتاوى التي لا تنتصر إلى مبدأ المساواة الذي أقره الدستور المصري، تأتي هذه الفتوى لتترك الباب مفتوحًا أمام ممارسة العنف ضد المرأة بذريعة الإباحة الدينية.
تنص المادة 11 من الدستور المصري على «تكفل الدولة تحقيق المساواة بين المرأة والرجل فى جميع الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وفقًا لأحكام الدستور… وتلتزم الدولة بحماية المرأة ضد كل أشكال العنف، وتكفل تمكين المرأة من التوفيق بين واجبات الأسرة ومتطلبات العمل. كما تلتزم بتوفير الرعاية والحماية للأمومة والطفولة والمرأة المعيلة والمسنة والنساء الأشد احتياجًا.»
قبل أيام من إطلاق هذه الفتوى، تحدث شيخ الأزهر في البرنامج نفسه عن أن المرأة يتعين عليها أن تأخذ إذن الزوج للخروج من المنزل، باستثناء الخروج لزيارة الأهل أو للذهاب إلى العمل. لم تخرج الفتويان عن سياق معتاد يعلي من شأن الرجل ويرسخ لسلطته، وعكستا التوّجس البارز في أغلب الفتاوى من تمرد المرأة على التبعية للرجل.
الشيخ علي جمعة والنظر إلى المرأة
صرّح الشيخ علي جمعة، مفتي الديار المصرية السابق وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر، في إحدى حلقات برنامج «والله أعلم» الذي كانت تذيعه فضائية CBC المصرية، بأن الرجل لا يرتكب ذنبًا إذا نظر إلى امرأة متبرجة (غير محجبة) لأنها أسقطت حقها في حرمة النظر إليها، على عكس المحجبة. وقد استند جمعة في فتواه إلى ما فعله الإمام جعفر الصادق، حين أسقط حُرمة النظر إلى النساء اللاتي لا يرتدين الحجاب في بلاد ما وراء النهر (عدد من دول آسيا الوسطى)، بدعوى أن غض البصر أصبح مستحيلًا. وهي وجهة النظر التي تبناها أيضًا الإمامان الأعمش والكرخي.
في المنظومة الأبوية التي تتخذ من الدين سندًا، تأتي هذه التصريحات لتؤكد على نهج رجال الدين في تحميل النساء مسؤولية التعرض للتحرش الجنسي، ولتمنح الرجال رخصة لاقتحام خصوصيتهن وتفحصهن بزعم أنهن من يعرض نفسه لذلك. وحسب خريطة التحرش الجنسي، فإن التحرّش قد يأخذ أشكالًا مختلفة وقد يتضمن شكلًا واحدًا أو أكثر في وقت واحد، ومن بينها «النظر المتفحّص» وهو التحديق أو النظر بشكل غير لائق إلى جسم شخص ما، سواء إلى أجزاء من جسمه أو عينيه.
ويأتي هذا الحديث متعارضًا مع ما ينص عليه الدستور المصري في المادة 99 «كل اعتداء على الحرية الشخصية أو حرمة الحياة الخاصة للمواطنين، وغيرها من الحقوق والحريات العامة التي يكفلها الدستور والقانون، جريمة لا تسقط الدعوى الجنائية ولا المدنية الناشئة عنها بالتقادم،..»
من ناحية أخرى، فإن علي جمعة سبق أن أكد على حق المرأة في اعتلاء منصة القضاء مؤكدًا أنه لا يوجد في الدين الإسلامي أي نص يمنع المرأة من الولاية والقضاء، فضلًا عن تأييده لتولي المرأة منصب المفتي. وقد يعكس اختلاف المواقف رسوخ النهج ذاته في النظر والتعامل مع المرأة من جانب طيف من رجالات الدين، الذين يبدون منفتحين تجاه انخراط النساء في المجال العام وتمكينهن من المناصب العليا، إلا أنهم في الوقت نفسه لا يمانعون انتهاك حقوقهن ومساحاتهن الشخصية في الفضاء العام، وهو ما يعني إما الالتزام بالنمط الذي يحدده المجتمع للنساء إن خرجن من المنزل وإما الاستباحة إذا خالفنه.
الشعراوي وسب الزوجة
انتشر مؤخرًا على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع للشيخ محمد متولي الشعراوي وزير الأوقاف الأسبق، من لقاء أذاعته قناة ماسبيرو زمان تحت عنوان «اخترنا لكم»، وموضوعه هو الحياة الزوجية. وتضمن المقطع حديثًا للشعراوي يبدي فيه تقبلًا لإهانة الزوج للزوجة وسبها، مطالبًا الزوجات بالتعايش مع هذه الإساءات اللفظية وعدم الشكوى. وقد برر ذلك بأن كلا الزوجين أطلّع على عورات الآخر، قائلًا «إوعي تيجي تقولي ده اتنرفز عليا وشتمني وقالي يا بنت الــ … ولا مد إيده عليا .. ما تسكتي.. بعد ما أطلع على عورتك واتكشفتي عليه تقولي شتم أبويا؟!»
تحدث الشعراوي باحتقار شديد عن المرأة، فقد ربط قبول الإهانة بها وجعل جسدها ذريعة لتقبل انتهاك كرامتها. كما أكد كلامه على النظرة التشييئية للمرأة، وبرز فيه – وإن لم يقلها صراحةً – رؤية المرأة كجسد لا سلطة لها عليه، وإن أضحت زوجة فجسدها ملك لزوجها، وهو ما يعطيه الحق في أن يفعل بصاحبته ما يشاء.
هذا ليس الحديث الوحيد للشعراوي الذي يتدنى فيه جسد المرأة إلى مجرد أداة جنسية، فقد سبق أن قال في حديث تلفزيوني أذيع في العام 1984، إن المرأة يجب أن تكون مستورة حتى لا يشك الرجل في بنوّة أبنائه منها. في هذا المقطع، اختزل الشعراوي المرأة في الجسد الذي تُختَصر وظيفته في الإثارة والإنجاب، وبشكل أو بآخر فإن كلامه يجيز للرجال إلى التشكك في سلوك زوجاتهن إن لم يلتزمن بالحجاب، بل إنه يدفع بالذكور إلى فرض الحجاب على زوجاتهن وبناتهن وأخواتهن. وكل ذلك يعزز من دونية المرأة وفوقية الرجل وسلطته عليها.
الدعاة الجدد والحجاب
مع بداية الألفية الثالثة، ظهرت فئة من الدعاة عرفوا باسم «الدعاة الجدد»، استهدفوا بشكل رئيس نساء الطبقة المتوسطة والعليا، واستخدموا خطابًا أقرب لخطابات مدربي التنمية البشرية فضلًا عن تخليهم عن مظهر الشيوخ التقليدي. ذاعت شهرتهم واستقطبوا جمهورًا، مما شجع الفضائيات على تخصيص فترات بث طويلة لهم، وسرعان ما أصبحوا نجومًا في الإعلام وتصدّرت أسماؤهم أحاديث الشارع والمقاهي ودوائر المثقفين حتى أصبح «الدعاة الجدد» موضوع الساعة، خاصة الداعية عمرو خالد.
لم يخرج «الدعاة الجدد» عن المعهود في أحاديث رجال الدين عن المرأة، فالجسد هو الهاجس الأساسي والحجاب قضية العصر، والفرق الوحيد هو شكل الخطاب والفئة المستهدفة. من بين هؤلاء كان الداعية مصطفى حسني، الذي قدم مع بداية الألفية برنامج «خدعوك فقالوا»، الذي توزعت حلقاته على أربعة أجزاء (مواسم) أذاتها قناة إقرأ الإسلامية والتابعة لراديو وتلفزيون العرب. وفي إحدى الحلقات التي حملت عنوان «أنا أحسن من غيري»، تحدث حسني الحاصل على شهادة معهد إعداد الدعاة التابع لوزارة الأوقاف المصرية، عن مواصفات الحجاب وشروط ارتدائه، متجاوزًا فكرة حق المرأة في اختيار وتحديد مظهرها، بل إنه اعتبر أن المقطوع به أن تكون الفتاة محجبة وغير ذلك منبوذ.
عرض حسني خمسة نماذج للحجاب المنتشر في مصر عن طريق استخدام «المانيكان» وأخذ يشرح بالتفصيل عيوب كل نموذج منها، وقال إن الفتيات مسؤولات عن «إثارة الشباب»، والسبب هو عدم ارتدائهن لـ«الحجاب الشرعي»، وأضاف «الشباب بيستثار بسبب أن البنات بتحب الستايل ده.. هيقولوا شكلها جامد جدًا.. شكلها ستايل أوي.»
برأ «الدعاة الجدد» ساحة المتحرشين بما أعادوه وكرروه في أحاديثهم على الشاشات عن أجساد النساء وحتمية تغطيتها بالكامل، واتهموا النساء بالمسؤولية وحرموهن حق الاختيار. أصبحت كلمات عمرو خالد ومصطفى حسني ومعز مسعود وغيرهم، دستورًا لكل من يعتدي وينتهك حرية المرأة.
اختلاف الصياغة لا يعني تغيير الخطاب
يوم بعد الآخر، يتبين أن الشيوخ والدعاة الذين يُنعتون بالوسطية لم ينتفضوا ضد التراث الذي يكرس لتشييء المرأة، وإنما يحاولون أن يضفوا عليه صبغة الحداثة. وهذا يذكّرنا بالرجل الذي قاوم الأفكار الظلامية قبل أكثر من مائة عام وهو الإمام محمد عبده، الذي تحدى السائد والمقبول مجتمعيًا وحرّم بوضوح تعدد الزوجات، قائلًا «أما جواز إبطال هذه العادة فلا ريب فيه، لأن شرط التعدد هو التحقق من العدل، وهذا الشرط مفقود حتمًا، فإن وجد فى واحد من المليون، فلا يصح أن تتخذ قاعدة، ومتى غلب الفساد على النفوس وصار من المرجح ألا يعدل الرجال فى زوجاتهم جاز للحاكم أو العالم أن يمنع التعدد مطلقًا مراعاة للأغلب، ولأن سوء معاملة الرجال لزوجاتهم عند التعدد، وحرمانهن من حقوقهن، ولهذا يجوز للحاكم والقائم على الشرع أن يمنع التعدد وفقًا للفساد الغالب.»
ما زال كثير من الشيوخ والدعاة يرفضون وجهة النظر هذه، ولم يُقدم أحد علماء الدين الذين تولوا مناصب قيادية في مؤسسات دينية على دعوة المشرع إلى منع تعدد الزوجات تمامًا مثلما فعل محمد عبده.