حواء إدريس: سيرة طواها النسيان
لاحق الإجحاف رائدات ومناضلات داخل الحركة النسوية أكثر من غيرهن، إذ يبخس التوثيق التاريخي حق عديد منهن، والأنكى أن بعض المؤرخين يختزلون مسيرة نساء ساهمن بقوة وفاعلية في الحِراك كما لو كن ظلًا لأخريات. حواء إدريس واحدة من هؤلاء، حيث تشير إليها كثير من المصادر التاريخية باعتبارها ابنة خال هدى شعراوي، وإحدى عضوات الاتحاد النسائي المصري الذي أسسته الأخيرة، وقلما يمتد السطر المكتوب لما هو أكثر أو أعمق من هذه المعلومة.
كتبت عنها سنية شعراوي حفيدة هدى شعراوي، تصفها بالجندي المجهول في محيط الحركة النسوية، وعلى حد قولها فإن حواء كانت تتفاني في خدمة التنمية والنهوض بالآخرين، كما تفعل الراهبة التى لا تكترث لنفسها.
دخول مبكر إلى الحركة النسوية
تنتمي حواء المولودة في العام 1909 إلى عائلة شركسية، وقد عاشت طفولتها المبكرة في تركيا حتى توفي والدها وعمها، فأرغمتها الظروف على أن تنتقل برفقة شقيقتها الصغرى حورية إلى إلى القاهرة، وتعيشان في منزل ابنة عمتهما هدى شعراوي.
حواء وصفت هدى شعراوي بأمها الثانية، وفي مذكراتها المعنونة بـ”أنا والشرق: مذكرات حواء إدريس” الصادرة عن مؤسسة “المرأة والذاكرة”، تقول “وجدنا فيها أمًا ثانية عطوفة علينا، خصتنا ببالغ عنايتها ورعايتها. نعم كانت هي خير أم لنا ولم تدخر وسعًا في العمل لما فيه راحتنا وسعادتنا.”
درست حواء بالقسم الداخلي في الكلية الأمريكية للبنات، ومضت في طريق العلم حتى حصلت على البكالوريا. وبالتوازي مع دراستها بدأت علاقتها مع العمل الأهلي من خلال الاتحاد النسائي المصري الذي أسسته هدى شعراوي في العام 1923، بالتعاون مع عدد من رائدات حركة تحرير المرأة وقتذاك، ومنهن: سيزا نبراوي وماري كحيل وإحسان القوصي.
وتتحدث حواء عن خطواتها الأولى في هذا المجال قائلة “وجدت نفسي محاطة بأشخاص كلهم يعملون في محيط الخدمة الوطنية والاجتماعية، وألِفت ذلك وكأن هذا العمل قد امتزج بروحي ودمي، فسِرت في تياره وأنا لم أتجاوز الثانية عشرة من عمري.”
في بادئ الأمر، تطوّعت حواء في مستوصف جمعية الاتحاد النسائي المصري، ثم تطورت علاقتها به حتى أضحت واحدة من أبرز عضواته. وفي ضوء إشرافها على الأنشطة الثقافية للاتحاد، أخرجت مسرحية كتبها الأديب توفيق الحكيم في العام 1935، عن لطفية النادي أول طيارة مصرية.
كما مثلّت حواء الاتحاد النسائي المصري في عدد كبير من المؤتمرات الإقليمية والدولية في تركيا والهند والعراق والسودان وفلسطين ولبنان. وعلاوة على نشاطها في مجال الدفاع عن حقوق المرأة، كانت من أشد المدافعين عن حقوق الشعوب في التحرر ومقاومة الاستعمار، وشاركت في بعثة الهلال الأحمر المصرية التي سافرت إلى سوريا، عقب قصف الفرنسيين للعاصمة دمشق في مايو من العام 1945، كما دعمت المقاومة الشعبية ضد الاحتلال الإنجليزي في الإسماعيلية في العام 1951.
شقيقات الاتحاد النسائي
أسست حواء جمعية نسائية موازية للاتحاد النسائي حملّت اسم “شقيقات الاتحاد النسائي”، وقد ضمت بين أعضائها عددًا من الكاتبات والناشطات البارزات وقتئذ، مثل: أمينة السعيد، وسهير القلماوي، وأمينة حمزة وثريا علي ومنيرة عاصم، وكان من أهم أنشطة الجمعية زيارة الأحياء الشعبية لمساعدة الأسر الفقيرة.
تروي حواء في مذكراتها كيف تفاعلت الصحافة بصورة سلبية ومسيئة مع إعلانها عن تأسيس الجمعية، “لن أنسى أبدًا ما استقبلتنا به الصحافة في ذلك الوقت، حين أعلنا تلك الجمعية، إذ انهمرت علينا سلاسل السخرية والتريقة، بل إن بعضهم كتب إلي يقول حرفيًا: ألا ترين صغيرتي أنه من الأوفق لك في الوقت الحاضر ان تكتفي بالبزازة؟”
حقوق المرأة: الاجتماعية قبل السياسية
في حوار نشرته جريدة “أخبار اليوم” في العام 1955، أفصحت حواء عن رؤاها بشأن عدد من القضايا المجتمعية بما يضمن حقوق المرأة من وجهة نظرها، وأولها قضية الزواج، إذ شددت على ضرورة منع تعدد الزوجات، كما قالت إنه في حالة الطلاق لا بد أن يُلزم القانون الرجل بمعاش ثابت لزوجته. وبشأن التعليم، شددت حواء على ضرورة أن يكون التعليم مختلطًا في جميع مراحله من دون استثناء.
لكنها في الحوار نفسه، قالت إن الوقت لم يحن بعد لدخول المرأة المصرية إلى البرلمان، وهو رأي اتفقت عليه مجموعة الاتحاد النسائي المصري، بينما كانت تناضل الكاتبة الصحافية منيرة ثابت من أجل هذا الحق منذ العشرينيات، ولحقت بها الناشطة النسوية البارزة درية شفيق واتحاد بنت النيل.
الفصل الأخير
ظلت هدى شعراوي مصدر دعم أساسي في حياة حواء حتى بعد تأسيسها لجمعية “شقيقات الاتحاد النسائي”، واستمرت مؤسسة الاتحاد النسائي في مساندتها حتى وافتها المنية في ديسمبر من العام 1947.
استمرت عضوية حواء بمجلس إدارة الاتحاد النسائي بعد وفاة شعراوي إلى أن تم تصعيدها إلى رئاسته، وبعد ثورة يوليو في العام 1952 وما طرأ على قانون الجمعيات الأهلية من تعديلات قضت على العمل الأهلي تمامًا، تجمد نشاط الاتحاد ولم يعد إلى الحياة إلا بقرار من رئيس الجمهورية بعد عدة سنوات، قضى بتحويله إلى كيان خدمي تحت اسم جمعية هدى شعراوي، يتوقف نشاطها على الخدمات التعليمية والصحية، وحينها انحصر نشاط حواء في الإشراف على حضانة تابعة للجمعية كانت قد أسستها في العام 1946.
عاشت حواء في منزل هدى شعراوي حتى صدر قرار جمهوري في العام 1963 بالاستيلاء على المنزل، فانتقلت لتعيش في غرفة صغيرة بفندق “فينواز” بشارع عبد الحميد سعيد في وسط القاهرة، وخلال فترة إقامتها بالفندق عكفت على كتابة مذكراتها حتى انتهت منها في العام 1971، ثم أهدتها إلى مكتبة الجامعة الأمريكية، وحسب مؤسسة “المرأة الذاكرة” فإن سنية شعراوي حفيدة هدى شعراوي قد حصلت على نسخة معدّلة من المذكرات في العام 1973، وهي النسخة التي نشرتها المؤسسة قبل عامين.
بيع الفندق بعد سفر صاحبه، فاضطرت إلى الإقامة في نادي هدى شعراوي بمقر الجمعية إلى أن أسست لنفسها شقة في الجمعية بمساعدة مالية من شقيقتها الصغرى حورية. وقد عاشت في هذه الشقة الصغيرة، بصحبة الهدوء والسكون الذين خيما على حياتها، حتى توفيت في الـ 26 من ديسمبر في العام 1988.