نور: كيف تنطفئ شعلة الحياة تحت وطأة التزويج القسري المبكر؟
بحسب بيانات أممية فإن ثلث الفتيات في دول العالم الثالث باستثناء الصين يتزوجن قبل سن 18 عامًا وواحدة من كل تسع تتزوج قبل سن 15 عامًا، وذلك على الرغم من وجود تشريعات في أغلب هذه الدول تجرّم زواج الأطفال وعادةً ما تحدد السن الأدنى للزواج بـ18 عامًا، إلا أن الوضع في عدد من هذه البلدان ومن بينها لبنان، يبدو أكثر تعقيدًا إذ تلعب قوانينها دورًا في تعزيز الأزمة وإشاعة هذا الانتهاك بحق الإناث.
ويبلغ عدد قوانين الأحوال الشخصية في لبنان 15 قانونًا تختص بالطوائف الدينية المعترف بها، وبالتالي فإن سن الزواج تحدده كل طائفة بقوانينها، وعلى سبيل المثال فإن الطائفة السنية وطائفة الدروز تحددان سن زواج الفتاة بـ17 عامًا، مع منح القاضي حق الحكم بزواج الفتاة قبل هذه السن، بينما لا تحدد الطائفة الشيعية سنًا أدنى لزواج الفتاة، وتعتمد العديد من الطوائف المسيحية سن 14 عامًا لزواج الفتاة، كالكاثوليكية والسريان الأرثوذكس والأشورية والإنجيلية.
وقد رصدت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) أن 4.1 في المئة من اللبنانيات في الفئة العمرية (15-19) عامًا متزوجات، ونحو 6 في المئة في الفئة العمرية (20-24) عامًا متزوجات قبل 18 عامًا.
وفي مارس من العام 2017، تبنى النائب ايلى كيروز مشروع قانون أعده التجمع النسائي الديمقراطي اللبناني، ينص السن الأدنى للزواج بـ18 عامًا على الأراضي اللبنانية كافة دون أي استثناء، مع معاقبة كل من شارك أو ساعد على تزويج طفل بغرامات قيمتها عشرة أضعاف الأجر الأدنى، إلى جانب عقوبات بالسجن تتراوح بين 6 أشهر وسنتين، وعلى الرغم من وصول هذا القانون إلى مجلس النواب، فإنه ما زال يواجه صعوبات نتيجة حالة التقديس المحيطة بقوانين الأحوال الشخصية الطائفية.
وقد جاء تقديم النائب ايلي كيروز لمشروع القانون في البرلمان، قبل أيام من استقبال دور العرض السينمائي في لبنان لفيلم روائي طويل يحمل اسم “نور” يتناول ظاهرة زواج القاصرات، كان قد بدأ عرضه في الـ27 من إبريل من العام 2017. والفيلم وفق ما صرح به مخرجه خليل زعرور للصحافة اللبنانية، مستوحى من قصص واقعية إذ يأتي نتاج بحث أجراه صناع الفيلم، بعد أن استمعوا إلى عشرات الفتيات اللاتي أرغمن على الزواج في سن مبكرة، فضلًا عن قيامهم بزيارات إلى جمعيات نسوية وأخرى معنية بحقوق الطفل.
كما سبق وصرح زعرور إلى الصحافة اللبنانية بأن أحد أهم أسباب العمل على هذا الفيلم هو الدفع من أجل إقرار قانون لحماية القاصرات من الزواج، ويبدو ذلك متسقًا مع الزخم النسوي الذي أحاط بعرض الفيلم، إذ دعا التجمع النسائي الديمقراطي اللبناني الجمهور إلى حضور العرض الخاص للفيلم، ووزعت عضواته قبيل العرض منشورات تطالب بتحديد سن الزواج بـ 18 عامًا. وبعد عدة شهور أطلق التجمع ذاته حملة “مش قبل الـ 18” بالتزامن مع احتفالات اليوم الدولي للطفلة في الــ11 من أكتوبر، للضغط على البرلمان لمناقشة وإصدار قانون يمنع زواج الأطفال.
“نور” هو أول فيلم روائي طويل للمخرج خليل زعرور، بعد فيلمه القصير “الشباك” والوثائقي “ملاكي”، وهو من تحمل إنتاج الفيلم بمفرده ولذلك استغرق العمل عليه نحو ثلاث سنوات حتى أبصر النور، كما شارك في كتابته مع إليسا أيوب.
وفي حديث صحافي نشره موقع المرده اللبناني بتاريخ 2 مايو من العام 2017 ، قال زعرور “لو تم إخراج “نور” كفيلم وثائقي لما وصل إلى هذا الجمهور العريض، لأن حضور الأفلام الوثائقية محصور ببعض الجمهور ولا يهتم له الجمهور الواسع، ونحن نريد إيصال الرسالة لأكبر شريحة ممكنة من المجتمع.”
عُرِض الفيلم للجمهور اللبناني قبل أن يطوف أي مهرجانات فنية، إلا أنه عندما شارك في الدورة الـ33 لمهرجان الإسكندرية السينمائي لدول حوض البحر المتوسط، حصد أغلب جوائز مسابقة الفيلم العربى المتوسطى الطويل، حيث فاز بجائزة نور الشريف للفيلم العربي المتوسطي الطويل، وجائزة أفضل إخراج، فضلًا عن جائزة محفوظ عبد الرحمن لأفضل سيناريو، وجائزة أفضل ممثلة التي حصلت عليها فانيسا أيوب عن دور الشخصية الرئيسة وهي نور.
حضور نسائي قوي أمام الشاشة ومتوسط خلفها
شغلت النساء عددًا من الأدوار الرئيسة خلف الشاشة، فكما ذكرنا سلفًا شاركت إليسا أيوب في التأليف مع المخرج خليل زعرور، كما شغلت أيضًا موقع المنتجة المنفذة، و أدارت التصوير راشيل نوجا، وتولت كل من فرح وايا نابلسي إدارة الإنتاج، بينما شاركت كلارا قصيفي في تصميم الديكور وصممت الملابس سناء أيوب.
أما الوضع أمام الشاشة فقد سيطرت عليه النساء، ففضلًا عن المساحة الواسعة للشخصية الرئيسة وهي الفتاة المراهقة نور وتؤدي دورها فانيسا أيوب، تلعب الأم دورًا محوريًا وتؤدي دورها جوليا قصّار ، وفي النصف الثاني من الفيلم يزداد حضور شخصية الحمّاة وتؤدي دورها إيفون معلوف، والشخصية التي تؤدي دورها عايدة صبرا وهي إحدى قريبات الزوج الذي يؤدي دوره مخرج الفيلم خليل زعرور.
المسببات: الفقر في المقدمة والدين في الخلفية
تدور أحداث الفيلم حول فتاة مراهقة تدعى نور تعيش حياتها كأي فتاة في هذه السن بين أصدقائها، تلهو وتمرح وتختلس لحظات الحب البريء مع رفيقها المراهق. في الوقت نفسه تحلم بأن تلتحق بالجامعة وتأمل في نيل لقب “سفيرة”، إلا أن قرارًا تتخذه أسرتها يحبط كل هذا.
تحتفل نور بعيد ميلادها الخامس عشر قبل أسابيع من تزويجها قسريًا برجل ثلاثيني يدعى موريس، ينتمي إلى أسرة ثرية تعيش في الضيعة نفسها التي تعيش فيها الفتاة. وقد تعمّد المخرج إظهار ديانة نور وأسرتها المسيحية، لتبرز تعقيدات القوانين الطائفية التي تسمح بتزويج القاصرات، وحتى إن كان الأسقف قد بدا متحفظًا على زواج فتاة لم تتجاوز الـ15، فإنه لم يستطع الامتناع عن عقد الزواج، في ظل غياب أي قانون يجرم توثيق زواج كهذا.
تبدو المعالجة السينمائية تقليدية لكنها تتشابه والواقع الذي تتكرر فيه المأساة بنفس التفاصيل أو باختلاف طفيف لا يغير من الخطوط العريضة. مبعث السعادة لدى الأم هو المستوى المادي المرتفع للعريس، فهي أم معيلة تنتمي إلى الطبقة الفقيرة في الضيعة، تزوجت في سن مبكرة وقُدِّر لها تحمُّل مسؤولية ولديها وحدها، فاشتغلت بالطباخة إذ تعكف على إعداد الطعام في منزلها وتساعدها ابنتها نور في توصيله إلى البيوت، ولذلك تظن في زواج ابنتها إزاحةً لأعبائها المادية عنها، وارتقاءً بحياة صغيرتها خاصة أنها ستهاجر مع هذا الرجل إلى أستراليا، فضلًا عن قناعتها بأن هذا الزواج سيعود بالخير أيضًا عليها وعلى ابنها الأكبر.
لا تلتفت الأم إلى ذعر الفتاة ورفضها للزواج مبكرًا وخوفها من الارتباط برجل لا تعرفه، ولا يعنيها ضياع أحلامها وتسربها من التعليم، ولا تشعر بالذنب تجاه ابنتها حتى ليلة زواجها، ولا تظهر إمارات هذا الشعور إلا بعد الزواج بفترة، عندما تتسع الفجوة بينهما نتيجة عقاب معنوي قررته ابنتها، بامتناعها عن زيارة أمها ومهاتفتها، بينما يظل الأخ فظًا غليظًا، أهم ما له في هذه الزيجة هو التخلص من “الأنثى” التي يراها عبئًا عليه، ويريد الاستفادة من ورائها ماديًا.
من الذي حرمها متعة ركوب الدراجة؟
ركز المخرج خلال النصف الأول من الفيلم على إظهار معالم حياة نور كمراهقة مفعمة بالحياة، وفتاة منطلقة تتسم بالرعونة أحيانًا، واستخدم مشاهد ركوبها للدراجة الهوائية في طرقات الضيعة المحاطة بالأشجار، للتدليل على الانطلاق والتمرد والجمال وهو ما سينطفئ بعد زواجها الذي أرغمها عليه واقع سلطوي، تتعدد حلقاته بين أم وأخ وزوج وقوانين طائفية وحاجة وعوز.
تتحول نور بعد الزواج إلى أنثى معنفة، تبدأ ليلتها الأولى باغتصاب زوجي، وتتعرض للاعتداء اللفظي والجسدي على يد زوجها يوميًا، فضلًا عن إهانات أمه لها، وتُجبَر على القيام بالأعمال المنزلية طوال اليوم، وترتدي ملابس السيدات الأكبر سنًا إرغامًا، وتضطر قسرًا إلى التخلي عن أحذيتها الخفيفة التي كانت تساعدها على التحرك بحرية وركوب الدراجة والركض مع أصحابها، وترتدي أحذية الكعب العالي التي تقيد حركتها.
العنف الأسري والتنميط الذكوري
على الرغم من أن الأم هي أحد ممارسي العنف ضد نور، فإن الفيلم لم يقدمها بنفس الصورة القاتمة التي قدم عليها الحمّاة التي ظهرت حادة ومتغطرسة، لا ترى في نور سوى فتاة تخدمها وتخدم ابنها العازب. فالأم هي من يتصدى لشقيق نور عندما يتجرأ على ضربها وكثيرًا ما توقفه حينما يعتدي عليها لفظيًا، وإن كان الفيلم قدمها متحمسة بشدة لزواج ابنتها، فقد أحاط هذا بدوافع الفقر ومعاناتها في تحمّل الأعباء وحدها، فهي لا تريد لنور نفس المعيشة المنهكة، وترى في الزواج المبكر أمرًا مقبولًا لأنها تزوجت في سن مشابهة، وتوقن هي والابن أن التعليم لا يجدي في ظل الفقر، ولذلك لا يعتقدان في إمكانية تحقيق نور لأي من أحلامها، ليتبين أن الجهل والفقر هما السببان الرئيسان في تزويج القاصرات.
ترتع الذكورية في ظل جهل مستشري، فيشيع التنميط الذكوري ولذلك يرى كل من الأم والأخ والحمّاة والزوج أن نور لا يتجاوز دورها في الحياة حدود الوظائف البيولوجية، كما يسيىء كل هؤلاء إلى المقَيِّنَةُ لا لشيء إلا لأنها كوافيرة، ورغم أن جميع نساء الضيعة يلجأن إليها لتصفف شعورهن وتزينهن، فإنهن يتفقن على النظر إليها كامرأة لعوب وسيئة السير والسلوك، ليعبر المشهد العام عن تماهٍ في المنظومة الذكورية بلغتها ورؤيتها.
لا مفر من ذلك المصير
يجسد مشهد الزواج أشد أنواع القهر ، فتاة طُمِسَت ملامح طفولتها بمستحضرات التجميل، تمر بلحظات عصيبة، يبدو عليها الذعر مما هي مدفوعة إليه، تشعر بالاختناق فتسقط على الأرض وما زال الجميع يزغرد ويحتفل، وكأنها غير موجودة ولا ملامح الهلع المرسومة على وجهها تحركهم.
وعلى الرغم من أن نور بعد فترة من الزواج تبدو كما لو كانت قد استسلمت لواقع جعلها حبيسة جدران بيت ينضح بالقسوة، فإنها تعود وتبحث عن طفولتها المفقودة مع وسيم، ذلك الحبيب المراهق الذي كانت تشاركه اللعب والحب والحلم واستكشاف كل جديد.
اختلاس هذه السويعات مع وسيم يعيد لنور الحياة مجددًا، لكن سرعان ما ينتهي كل شيء عندما يعلم زوجها وأخيها بالأمر، فيلحقان بهما في ثالث لقاء بينهما، ويبرحان وسيم ضربًا ثم يزجان بها عنوة داخل السيارة للعودة إلى الجحيم، إلا أنها تحاول الهروب منهما ومع ذلك تبوء المحاولة بالفشل.
في النهاية يظهر الزوج نائمًا في الفراش وحده ليظن البعض أن نور قد تحررت من قيوده، ولكن ما هي إلا لحظات حتى تظهر الفتاة بملامح منكسرة وعيون غلبها القهر، تقف أمام النافذة في ليلة شتوية ممطرة. ربما تتمنى لو رأت وسيم مرة أخرى من خلف النافذة، وقد تكون اكتفت بذكرى احتفظت بها في قلبها لأيام لن تعود، وإن كان الترجيح الثاني أقرب للرسالة التي أراد المخرج إيصالها من البداية، وهي أن تزويج القاصرات هو حرمان من الحياة.