الازدواجية الموحِشة: أسر تقبل بخلع بناتهن للحجاب بشرط ألا تراهن عيون العائلة والجيران
قصة الحجاب مع المصريات لم تبدأ منذ السبعينيات مثلما يردد كثيرون، وإن كان دخوله إلى مصر تدريجيًا في ذلك الوقت، بسبب المتغيرات الاجتماعية والتحولات السياسية كان ذا أثر أعمق وأقوى. لقد كان للنساء في مصر قصة طويلة مع الحجاب بدأت مع الخلافة العثمانية واستمرت حتى عشرينيات القرن الماضي، عندما بدأت الانتفاضة ضده، وخلال سنوات قليلة اختفى بفضل نضال رائدات الحركة النسوية وقتذاك، ولم يعد الحجاب إلى الظهور إلا خلال النصف الثاني من السبعينيات.
عندما هبت رياح ثورة 1919 مصحوبة ببذور النهضة الفكرية، أدركت النساء أن الحجاب ليس مجرد غطاء للرأس بل إنه سبب رئيس في حرمانهن من حقوقه في التعليم والعمل وحرية التنقل والمشاركة في الحياة العامة، مما يضعهن في مرتبة أدنى درجات من الرجل، فكان الخلاص منه ضرورة لا مناص منها حتى تواكب النساء النهضة الفكرية وتتحرر من القيود المكبلة لهن. في المقابل، يظل حجاب السبعينيات أكثر صمودًا أمام موجات التغيير الاجتماعي بعد أن أصبح خليطًا من الزي الديني والاجتماعي، وبالطبع تعزز استمراريته المنظومة الأبوية التي تتخذ منه وسيلة لإخضاع النساء مستغلةً «الدين» و«قيم المجتمع» لفرضه عليهن.
منذ سنوات قليلة وتحديدًا بعد يناير 2011، زادت محاولات التخلي عن الحجاب باعتباره أحد المعوقات الاجتماعية أمام تحرر النساء وتحديدًا الأصغر سنًا اللاتي انخرطن في الحِراك الذي شهدته الساحة المصرية حينذاك، وعلى الرغم من وضوح ذلك للعيان فلا يمكن رصد أثر واسع وعميق له، إذ إن عدد المحجبات ما زال أكثر بكثير من غير المحجبات.
هناك بين أولئك اللاتي تحدين المجتمع وخرجن على قواعده، من يُعتقَد أنهن أفضل حظًا من غيرهن بسبب قبول أسرهن بقراراتهن بخلع الحجاب، لكن الأمور ليست على هذا النحو من الجودة، فقد قبلوا بالقرار ولكن بشرط ألا يراهن بدون حجاب أي حد من الدائرة القريبة سواء كان الأقارب أو الجيران.
“أدركت أنني لست وحدي، عندما شاهدت مقطعًا في فيلم “احكي ياشهرزاد”، تجسد فيه إحدى الشخصيات معاناة واقعية، تعيشها الكثير من الفتيات اللاتي يرتدين الحجاب في الأحياء الشعبية التي يقطن فيها، خوفًا من «كلام الناس»، ثم يخلعنه بمجرد الخروج من الحي أو في العمل.” تقول «س.أ» البالغة من العمر 30 عامًا.
ترى «س.أ» التي تقيم في القاهرة بينما تعيش أسرتها في أسوان أن بساطة الحدث الظاهرية تخفي تحتها الكثير من التعقيدات، خاصة أنه يتكرر يوميًا مع الكثيرات، وتضيف “خلعت الحجاب قبل أكثر من 10 سنوات، وأسرتي تعرف ذلك لكنني لا استطيع أن أسافر إلى مسقط رأسي ومحل إقامة أسرتي دون أن أضعه على رأسي.”
وتتابع “ارتديت الحجاب في المرحلة الإعدادية، تحت ضغط من إحدى المعلمات التي كانت تهددني بالحرمان من حضور الحصص إذا لم أضع غطاء على الرأس كبقية زميلاتي، ففعلت ذلك إذعانًا لها، بينما كانت أسرتي ترى أن الأفضل ألا أتخذ مثل هذا القرار قبل الالتحاق بالمرحلة الثانوية.”
درست «س.أ» الطب في جامعة بني سويف، ثم انتقلت إلى القاهرة لاستكمال دراستها، وقد اختارت أن تعيش بشخصيتن على حد قولها، وتقول “في البداية كنت أكره هذا الوضع وأرغب في تغييره، ولكن سرعان ما اعتدت عليه، فقد أصبح الجميع يعلم أنني لا أرتدي الحجاب بما فيهم أسرتي، لكنهم وأنا مثلهم أخشى أن يعرف الجيران .”
تنتمي «س.أ» إلى الطبقة المتوسطة العليا، فجميع أفراد الأسرة حصلوا على درجات تعليم متقدمة، فهي طبيبة والأب صيدلي، وأتم أشقاؤها التعليم الجامعي، ومع ذلك فإنها على يقين من أن التعليم وحده لا يكفي لتغيير الثقافة والتقاليد، مشددةً على أن مثل هذه التغييرات تتطلب شجاعة وجرأة أكبر ولا يمكن أن تتحقق بسبب درجة دراسية عليا.
حكاية «ف.ط» البالغة من العمر 23 عامًا تتشابه كثيرًا مع الحكاية الأولى، فقد ارتدت الحجاب في الحادية عشرة، بسبب طبيعة المدرسة الإسلامية التي التحقت بها، حيث كان الحجاب إلزاميًا على كل الفتيات البالغات.
انتقلت «ف.ط» من شبين الكوم في المنوفية إلى القاهرة واستقرت فيها لاحقًا ” بعد التخرج في الجامعة، عملت كأخصائية نفسية في أحد المراكز النفسية في العاصمة، ومن ثم قررت الاستقرار وخلع الحجاب نهائيًا.”
تتذكر «ف.ط» أنها عندما ارتدت الحجاب لم تكن تدري ماهية قطعة القماش التي تضعها على رأسها، وتقول “كثيرًا ما كنت أشعر أنه لا يشبهني ولا أشبهه، إلا أنني لم أكن أفسح مجالًا لهذه الأفكار أن تستمر،لأنني بالحجاب أشبه الكثيرات حولي وأنا لا أريد أن أكون مختلفة بينهم.”
تعلم والدتها وشقيقاتها بقرار خلع الحجاب، ولكنها لا تجرأ على أن تخبر شقيقها ووالدها، خوفًا من أن يحرماها من خطوة الاستقلال التي أقدمت عليها قبل سنة .
“التناقض هو الكلمة التي تعبر عن هذه اللحظات التي أضع خلالها الطرحة على رأسي عندما اقترب من بيت أسرتي أو تلك اللحظات التي أخلعه خلالها أثناء عودتي إلى القاهرة.” تقول «ف.ط» وتواصل توصيف المشهد “كنت أنزعج من ردود الأفعال التي أراها عندما أقوم بأحد الأمرين، فهناك من يمصص شفاه امتعاضًا أو يقطب حاجبيه تبرمًا، ولكن الاَن لم أعد أعير مثل هذه التصرفات اهتمامًا.”
الحكاية الثالثة لفتاة من الإسكندرية، وهي «ف.و» البالغة من العمر 26 عامًا، ارتدت الحجاب إبان ما عرف بهوجة الدعاة الجدد وفي مقدمتهم عمرو خالد ومصطفى حسني، التي عرفتها مصر خلال العقد الأول من الألفية الجديدة، وتبدأ حديثها قائلة “لم يكن اختياري ولم أكن أعرف أنني بإمكاني خلع هذه القماشة متى أردت ذلك.”
انتقلت «ف.و» إلى العاصمة للدراسة في جامعة القاهرة وفي السنة الدراسية الثالثة، واجهت أسرتها بنيتها خلع الحجاب فرفضوا الأمر، ولكن بعد أن أخبرتهم أنها ستخلعه في القاهرة فحسب وافقوا.
“قضيت وقتًا طويلًا في حالة عدم اتزان وبكاء مستمر” تقول «ف.و» وتتابع “حتى وجدت نفسي في لحظة ما، وأنا في القطار أخلع الحجاب وأفك ربطة شعري دون أي تفكير، وسط همهمات وردود فعل متوجسة من جانب المحيطين.”
تردف قائلة “يعلم أهلي أنني لست محجبة ولكن سلطة «الناس هتقول إيه » أقوى بكثير من العبارات التي نرددها مثل «علاقة الإنسان بربه خاصة » أو «ربنا وحده اللي بيحاسب». أنا انتمي إلى أسرة ميسورة الحال، ولكننا نسكن في منطقة شعبية، فرغم الأموال التي يجنيها أبي من عمله في العقارات والتجارة، فإنه يرفض أن ننتقل من الحي الذي نسكن فيه.”
علاوة على أن الأسرة تبدو غير قادرة على تحدي المجتمع المحيط، فإن «ف.و» لا تجد مبررًا لإصرار أسرتها على التمسك بالبقاء كجزء من هذا الواقع المتحكم في تصرفات الاَخرين والمقيد لحرياتهم الشخصية، على الرغم من إمكانية الخروج من هذه الشرنقة القاتلة.