تنويعات على وتر الذكورية: السينما والخذلان.. المجتمع وأفكاره أهم وأبقى من الحب
تناولت السينما المصرية مرارًا، صورة النساء المتحررات والمستقلات، أو أولئك اللاتي أقدمن على إقامة علاقات خارج إطار مؤسسة الزواج، سواء كان ذلك قناعةً أو اضطرارًا، نتيجة ضغوط مادية أو ابتزاز من ذي سلطة، ومثلما قدمت السينما هذه الصورة بطريقة سلبية في عدد من الأفلام، أبرزتها في مجموعة أخرى، من زاوية تنتقد تسلط المجتمع والعقلية الأبوية التي تحكم نظرة أفراده إلى هؤلاء النساء، بل ومنها ما كان بمثابة احتجاج واضح على هذه النظرة، التي ترى تحرر النساء وصمة بحقهن، بينما تعتبره ميزة للرجل، وتعاقب النساء على ماضيهن إن لم يكن على هوى الأحكام المجتمعية، بينما تتعامل برحابة غير محددة مع الرجال في هذا الصدد. بالإضافة إلى تحامل المجتمع على هؤلاء النسوة وإصدار أحكام مسبقة ضدهن، تتجلى العقلية الذكورية، عندما يخذلهن من زعموا أنهم من أصحاب النظرة المتفتحة، ولا حكم لهذا المجتمع على عقولهم.
هذه القضية المتشابكة، بين العام والخاص، نتعرض إلى معالجة السينما المصرية لها، من خلال ثلاثة أفلام وهي؛ «الخيط الرفيع» للمخرج هنري بركات، ومن بطولة فاتن حمامة، و«أختي» وهو أيضًا من إخراج هنري بركات، ومن بطولة نجلاء فتحي، و«قفص الحريم» للمخرج حسين كمال، ومن بطولة شريهان.
«أختي»: استغلال أجساد النساء وعواطفهن سرًا.. والحجة المكررة «كلام الناس»
هذا الفيلم من إنتاج العام 1971، وهو عن قصة للأديب إحسان عبد القدوس، بينما كتب له السناريو والحوار محمد مصطفى سامي، وأخرجه واحد من أكثر المخرجين انحيازًا إلى قضايا النساء في أفلامهم، وهو هنري بركات، وقد أدت دور البطولة نجلاء فتحي أمام محمود ياسين.
تؤدي نجلاء فتحي دور سوسن، وهي فتاة تضطرها الظروف المعيشية الصعبة، للعمل كبائعة هوى، ويتعرف إليها حسن الذي يؤدي دوره محمود ياسين في هذا الإطار، لكن تتطور العلاقة بينهما، لـتأخذ منحى عاطفي، وعندما ينتقل للعمل في قرية طرطوس في الصعيد يصطحبها معه، مدعيًا أنها أخته حتى يًبعد الشبهات عنهما، وبالطبع خوفًا على سمعته شخصيًا، لكن الأكذوبة التي ظن أنها ستحمي علاقته السرية بها، سرعان ما انقلبت إلى كابوس، بعد أن أصبح أمام طلب من العمدة بتزويج سوسن إلى ابنه أحمد، وحينها يذعن لطلب العمدة، متحججًا بأنه لم يعطه فرصة للرفض، فتقرر سوسن الرحيل عنه، وتعود إلى القاهرة، ورغم الخذلان، يغالبها الحب، وتظل على أمل أن يعود إليها، ليتجاوزا ما حدث، لكنه يختار أن يبقى في خانة الشخص الخذول، ويتركها دون مبررات، ثم يعود بعد فترة غياب، ليكشف لها عن عدم مقدرته على نسيان ماضيها، وهو ما يجعل زواجهما صعبًا، طالبًا منها أن ترافقه مجددًا بعد أن انتقل إلى كفر الدوار، مقترحًا عليها أن يشتري لها شقة في الإسكندرية، ليعيشا حياتهما سرًا، متجنبين ما حدث في طرطوس، لكن سوسن تقرر هذه المرة أن تغلق نهائيًا الباب أمام استغلاله لها عاطفيًا وجسديًا، وألا يكون الحب سبيلًا لاستمرار ذلك.
لم ير حسن نفسه مستغلًا، بينما اعتبر عزوز الذي كان يتردد على بيت سميرة، حيث كانت تعمل سوسن، هو المستغل الذي يريد أن يقتنيها كما يقتني الأشياء، مقابل شراء فيلا لتعيش فيها، وإعطائها ما تريد من المال. في المقابل يبرر حسن لنفسه امتلاك سوسن بكل أنانية، فيعرض عليها نفس عرض عزوز تقريبًا، وهو أن يشتري لها شقة لتعيش فيها، وويوفر لها ظروف معيشية جيدة مقابل أن تبقى رفيقته سرًا. والغريب أن هذا الرجل الذي يصر على اعتبار نفسه محبًا لها، لم يضع نصب أعينه سوى المجتمع ونظرته، ولم يضحي باعتبارات المجتمع، بينما يطالبها بالتضحية طوال الوقت.
على الرغم من أن الشخصيات الذكورية في الفيلم، تبدو ممتلكة لنفس العقلية، فإن الفيلم قدم شخصية واحدة استثنائية، وهي خيري، الرجل الذي تعرف إلى مديحة، صديقة سوسن، التي تؤدي دورها مديحة كامل، بطريقة مشابهة، لكنه لم يضع ماضيها حائلًا دون تطور علاقته بها، والاعتراف بهذه العلاقة أمام عموم الناس، ومن ثم الزواج منها دون اكتراث للمجتمع وأفكاره، ويتفق هذا والواقع الفعلي، فالرجل الذي يخرج عن النمط التقليدي ويتحدى القيم الذكورية الراسخة، نادر الوجود.
الخوف من المجتمع سمة غالبية الشخصيات، سواء ذكورية أو نسائية، فالأم كانت تلاحق سوسن بجمل مثل؛ الجيران لما يشفوك راجعة في الفجر يقولوا ايه؟، يا بنتي ربنا يكفينا شر الناس وكلامهم، أنتِ لسة بنت وكلمتك تسوى راسك، وأهل طرطوس، لم يتوانوا عن الإساءة إليها، بعد أن فسخ حسن خطبة ابن العمدة منها، متذرعًا بأنها مخطوبة بالفعل لأحد أصدقائه، وحينها، نطقت الألسنة بكل ما يسيء إليها، إلى حد إدعاء إحدى النساء أن سوسن كانت تغازل الرجال في القاهرة.
أما حسن، فيعتبر ماضيه ملكًا له وحده، ولا يجد أن أحدًا من حقه أن يحاسبه عليه، ويستسيغ تسامح المجتمع مع ذلك، بينما لا يستطيع التسامح مع ماضي سوسن، ولا يقوى على معارضة المجتمع أو حتى الخروج عن منظومته، وينجلي ذلك بوضوح في حواره مع صديقه عزت الذي يتعجب من رفضه لفكرة زواجه من سوسن رغم حبها لها، فيرد حسن: عاوز بس مش قادر، ويتتابع الحوار بينهما، ليظهر بوضوح تقديسه لقيم هذا المجتمع «يا عزت تصور أكون ماشي وألاقي اتنين بيشاروا عليها ويتوشوشوا».
الخذلان لا يأتي مفاجئًا، فقد تتابعت مواقف البطل المتخاذلة، لكن تحت مظلة الحب، يتسامح الطرف الاَخر، على أمل أن يكسر الحب قدسية الأفكار الذكورية، لكن تظل العلاقة خذلانًا يلحقه خذلان.
«الخيط الرفيع»: القبول المجتمعي أهم من الحب وأبقى
تتشابه تيمة فيلم «الخيط الرفيع» مع تلك الخاصة بـ«أختي»، فالفيلم الأول يحمل اسمه تدليلًا على الخيط الذي يفصل بين الحب وحب التملك، وهو أيضًا أمر يبرز في الثاني، كما أن كليهما، عالج فكرة الخذلان الرجولي، ونظرة المجتمع المزدوجة لحياة النساء والرجال الشخصية. علاوة على ذلك، يشترك الفيلمان في عام الصدور، إذ استقبلتهما دور العرض السينمائي في العام 1971، لنفس المخرج وهو هنري بركات، وعن روايتين للكاتب إحسان عبد القدوس، لكن «الخيط الرفيع» يأتي في مرتبة أعلى فنيًا، ويعتبر من أجرأ الأفلام زمنه في أسلوب الحوار، وتمردًا كبيرًا من بطلته فاتن حمامة على نمط اعتادت اللعب داخل حدوده.
بحس أن أنا قرنفلة معلقها في عروة جاكتته.. واَخرتها إيه يتعايق بيها قدام الناس
يدور الفيلم حول منى التي تؤدي دورها فاتن حمامة، وهي فتاة اصطدمت بالخذلان على يد حبيبها الأول سمير، الذي تكتشف بعد سفره للعمل بالخارج، أنه أحب أخرى وقرر أن يتزوجها، بينما كانت في انتظاره، إلى جانب صدمة الخذلان، تجد نفسها أمام أزمة تحمل أعباء أسرتها المادية، لا سيما بعد أن أصيب والدها بوعكة صحية، ولم تجد حينها مالًا يكفي ليُعالَج في مستشفى، وهو ما يجعلها تستسلم لعرض باستغلال جنسي مقابل الإيفاء بالحاجة المادية، من قبل رجل ثري يدعى عبد الخالق. أسرة منى تبدو على علم بالطريق الذي تأتي منه الأموال، دون أي معارضة أو امتعاض، فالأهم هو الحصول على المال وليس وسيلة الحصول عليه.
يتأزم الصراع النفسي الذي تعيشه منى، بسبب التعامل معها كسلعة اشتراها عبد الخالق بماله، يباهي بها أمام أصدقائه، وفي أحد الحوارات بينه وبينهم، تصبح منى أشبه بشيء يباع في مزاد، حتى يظهر في حياتها عادل، الذي تقع في حبه، وتشعر أن اَدميتها بدأت تعود إليها رويدًا رويدًا.
“عادل” الذي يؤدي دوره محمود ياسين، وهو مهندس شاب يقع في حب منى من النظرة الأولى، ثم يتعرف إليها شخصيًا، أثناء تقديمه مشروعات هندسة مرسومة لعبد الخالق، وحينها يعرف بعلاقتها به، ومع ذلك يصر على التقرب منها والاعتراف بحبه لها، في صورة أشبه بالعاشق الولهان الذي لا يريد سوى أن يكون جزءًا من حياة معشوقته.
تبادله منى الحب نفسه، فتغلق باب الماضي، وتترك عبد الخالق، وتقرر أن تدعم عادل معنويًا وماديًا وتخطط لمستقبله، ولأجل ذلك تبيع مصوغاتها، حتى تؤسس له شركة هندسية، وتساعده في تكوين شبكة علاقات اجتماعية تساهم في تسهيل ارتقائه مهنيًا، وبعد أن تتثبت أقدامه باتجاه الاستقرار والنجاح على الصعيد الوظيفي، يبدأ التغيير ويتحول عادل من رجل لا يعبأ بكلام المجتمع ونظرته، إلى شخص يسعى إلى أن نيل القبول المجتمعي بأي ثمن حتى لو حساب حبه ومن ساندته.
في نوع من الستات بيبقى صعب الراجل يتخلص منهم واللي بيتجوز من عيلة له احترامه وثقته بين الناس
يخذلها عادل عندما تعرض عليه الزواج، فيرفض بسبب نظرة المجتمع لها كامرأة سيئة السير والسلوك، ويطلب منها أن تساعده في الحفاظ على ما وصل إليه في حياته العملية، بإبقاء علاقتهما سرًا. تقبل أن تعيش في ظل هذا الرجل، وتعيش معه كجماد في البيت، تنتظر عودته وقتما يشاء، مع بعض محاولات لاستفزازه، ظنًا منها أن ذلك سيجعله يعود إليها كما كان في بادئ القصة، لكن الأشياء كافة تتكاتف ضد ما تريده، ويبتعد عادل عنها منصاعًا لقيم المجتمع المنحازة للذكر.
يمثل المجتمع بأفكاره المتعصبة للذكر على حساب الأنثى، حسني عبد الوهاب الذي يعمل عادل معه، ويؤدي دوره عماد حمدي، إذ يحاول أن يقنعه، بالتخلي عن منى، حتى يبعد عنه الكثير من الشبهات، التي قد تطاله بسبب مرافقته لها، مشددًا على أن الأفضل له هو الزواج من “بنت من عيلة” قاصدًا ابنته. إزدواجية المجتمع الذكوري، يجسدها حسني برغبته في تزويج ابنته لعادل، دون أن يجد غضاضة في ذلك، وهو يعلم أنه على علاقة بالمرأة التي يراها سيئة السلوك والسمعة.
بدأ الفيلم بخذلان سمير لها، بعد أن سافر وتركها لاَلامها، وفي نهاية الفيلم تُعاد الكرة، عندما يقرر أن يتركها عادل ويسافر، لينهي العلاقة كليًا عبر مكالمة هاتفية وهو في المطار، ليعدها بأن يترك لها الشقة وأن يرسل لها مبلغًا ماليًا بصفة شهرية، وكأن ما جمعهما لم يتجاوز الحدود المادية، ليرده بالمثل.
«قفص الحريم» تحرر المرأة.. أكثر ما يغضب أصنام المجتمع الذكوري
فيلم «قفص الحريم» هو أيضًا مأخوذ عن رواية، تحمل اسم «ريم تصبغ شعرها» للكاتب مجيد طوبيا الذي كتب سناريو الفيلم، الذي صدر في العام 1986، للمخرج حسين كمال، ويطرح الفيلم مسألة رسوخ الأفكار الذكورية وعدم قدرة الرجال بمختلف مستوياتهم الاجتماعية والثقافية، على تقبل فكرة تحرر المرأة، فيستعرض الفيلم عبر شخوصه وأحداثه، الرفض والخوف من المرأة المتمردة على القوالب النمطية.
العنف الذكوري يظهر في بداية الفيلم، من خلال شخصية العمدة، الذي يتزوج امرأة تلو الأخرى، محتفيًا بذكورته، وهو والد البطلة الرئيسة وهي ريم التي تؤدي دورها شريهان، ويظهر الأب شخصية غليظة، منكبًا على نفسه وغرائزه، فلا تراه ريم سوى السبب الرئيس في معاناة أمها. تطلب الأم قبيل وفاتها، من الأب، أن يترك ابنتيها يعيشا مع أمها، لأنها تعلم يقينًا أنه سيتزوج حتمًا بعد وفاتها، يترك كل ذلك أثاره في نفس وعقل ريم، فتشب متمردةً على المجتمع الصعيدي، وتعامله مع المرأة كمخلوق وُجِد لخدمة الرجل، وليقبل بدونيته راضيًا.
يؤكد الفيلم من خلال شخصية الجدة، أن الذكورية ليست حكرًا على الرجال في ذلك المجتمع، وإنما ترعاها وتحميها وتثبتها النساء، إذ تصدق الجدة أن المرأة لا بد أن تظل أقل من الرجل في كل شيء فهذه طبيعة الأمور، وتجدها تقول لريم «البنت ملهاش في القراية.. القراية تتعب عينها وتدبل وشها».
في المقابل، تركض ريم في طريق اَخر وحيدة، تسعى لتحقيق استقلالها، فتختار ما تريد، وتفعل ما تقتنع به، تصر على أن لا تكون جزءًا من مؤسسة تفرض الطاعة على النساء، فتعاند والدها الذي كان يرى المرأة شيئًا يحركه الرجل، يختاره، يغيره، يتركه، ويترجم أفكاره سؤاله الاستنكاري «مفيش ست زي الراجل .. بقى أنتِ اللي هتختاري راجلك؟ مفيش راجل جدع يقبل بكدة الراجل هو اللي لازم يختارك».
نموذج الأب هو الرجل المنغمس في أفكار مجتمعه، الذي لم ولن ينسلخ منها، ولن يتنازل عن المزايا التي يحصدها لأنه ذكر في ذلك المجتمع، أما نموذج الثاني الذي قدمه الفيلم، هو الرجل الذي بدا متحررًا، متفهمًا لرؤية ريم للحياة، إلى درجة أبهرتها به، ثم يتضح تباعًا أن هذا الوجه ليس أكثر من قناع، يرتديه ليخفي ما بداخله من أفكار تتشابه وأفكار والدها العمدة الرجعي.
أما النموذج الثالث، وهو الشاب الذي يحب ريم منذ الطفولة، وقد رأت فيه نموذجًا للرجل الذي تريد أن يشاركها الحياة، فتقرر أن تكسر الأطر التقليدية، معتقدة أنه تخلص من رواسب المجتمع، وتتقدم إليه بعرض الزواج منه. هذا الشاب مثل السواد الأعظم من الرجال يخاف المجتمع، ويهاب مقاومة أفكاره، ولا يستطيع أن يخرج عن حدوده، ولذلك فالخذلان هو خياره، فيتركها ليلة الزفاف في انتظاره. في النهاية، تتذكر مريم كلمات والدها العمدة، وهو يقول لها «أنا خايف عليك ياريم، زي ما تكوني عايزه تكسري الصخر بدماغك»، لكن على ما يبدو أن ذلك الصخر عصي على التكسير.
هذا التقرير منشور في إطار سلسلة «تنويعات على وتر الذكورية»
طالعوا التقرير الأول:
تنويعات على وتر الذكورية: السينما والعذرية.. الموت مصير محتوم لكل عابثة بــ«الشرف»