مارس والربيع النسائي: ما بين «1919 و2018».. في أي محطة يقف «الحِراك النسوي» في مصر؟
مرت 99 سنةً على ثورة 1919، التي شهدت مشاركة النساء بقوة وبسالة في مظاهراتها التي اجتاحت الشوارع المصرية، احتجاجًا على الاحتلال الانجليزي وتغلغله في شؤون البلاد، وهو ما يعتبر أول خروج نسائي منظم لأهداف سياسي في القرن العشرين والعصر الحديث. ويعد يوم السادس عشر من مارس، الذي أقرته الدولة المصرية منذ سنوات عديدة كيوم للمرأة المصرية، هو اليوم الذي عرف باكورة المشاركة النسائية في الثورة الشعبية، التي سقطت خلالها مجموعة من الشهيدات، أولهن «شفيقة محمد»، وقد ترك تاريخ «16 مارس 1919» اَثاره على الحِراك النسوي في مصر، بما مَثَّل شرارة تبلور مطالب الحركة في سياق تحرير المرأة، التي شرعت في إحداث صدى في المجتمع المصري بعد الثورة.
مارس وانتصاراته النسائية
فضلًا عن أن تاريخ «16 مارس»، هو نفسه الذي شهد تدشين الاتحاد النسائي المصري، على يد «هدى شعراوي» في العام 1923، الذي أضحى أهم جمعية نسائية – نسوية في العالم العربي وأكثرها تقدمًا في الفترة بين العشرينيات وحتى الأربعينيات.
أما مارس نفسه، فقد كان أكثر الشهور ربيعًا فيما يخص الحِراك النسوي على مدار عقود، فعلاوة على هاتين الخطوتين، تقدمت النساء خطوة أخرى للأمام في مارس من العام 1956، عند صدور قانون تنظيم مباشرة الحقوق السياسية، الذي أعطى للنساء حق الترشح والتصويت، وذلك بسبب اعتصام «درية شفيق» في مارس أيضًا، لكن في العام 1954 احتجاجًا على تغييب النساء عن لجنة إعداد الدستور، التي تشكلت لإعداد دستور ما بعد يوليو 1952، كما جاء «إقرار حقوق النساء السياسية في الدستور المنتظر صدوره» في مقدمة مطالب الاعتصام الذي تحول إلى إضراب ذاع صيته في دول كثيرة حول العالم، وهو المطلب الذي تحقق بعد سنتين عند صدور دستور 1956.
ما بين مارس الذي بدأت معه أولى بوادر النصر في العام 1919، ومارس الجاري في العام 2018، الكثير من الأحداث والتقلبات والتعثرات. خلال هذه السنوات الطويلة، ماجت الحركة النسوية وتعدد موجاتها حتى بلغت حتى الاَن أربع، إلا أن كثيرًا من مطالب الموجة النسوية التي أعقبت ثورة 1919، مازالت قائمة حتى الآن مع الموجة النسوية الرابعة، لا سيما في السياق الاجتماعي، فيما يتعلق بتقنين تعدد الزوجات، ووقف الطلاق الشفهي وقصره على المحكمة، وأخرى طالبت بها الموجة الثانية لم تجد ضالتها حتى الاَن، مثل اعتلاء النساء منصة القضاء في مجلس الدولة، وهو المطلب الذي ما زالت الحركة النسوية تناضل من أجل انتزاعه.
مطالب «ملك حفني ناصف»: الشرارة الأولى للحركة النسوية
تقول الدكتور «هالة كمال» الأستاذة المشاركة في دراسات الجندر بكلية الآداب في جامعة القاهرة، إن الشرارة الأولى للمطالب النسوية كتبتها «ملك حفني ناصف»، وقدمتها إلى البرلمان المصري في بدايات القرن العشرين، وكانت تتضمن حق النساء في التعليم والحقوق السياسية وتشريعات الأحوال الشخصية، وهي مطالب ترى «كمال» أنها عبرت عن الحركة النسوية بأكلمها ولم تعبر عن «ناصف» فقط.
وتستطرد قائلة «هذه المطالب بدأت في التحقق واحدة تلو الأخرى، استجابةً لضغط الحركات النسائية، وفي هذا الإطار تبنى دستور 1923 قضية التعليم، إذ كان التعليم قبل ذلك قاصرًا على أبناء الصفوة في المدارس الأجنبية (الفرنسية والإنجليزية) أو تعليمهم في المنازل، بينما كانت تذهب الطبقات الدنيا إلى الكتاتيب.»
وفي هذا الشأن توضح «كمال» أن التعليم أصبح إلزاميًا للبنين والبنات نتيجة ضغط الحركات النسوية، مشيرةً إلى أنه كان أداةً لإعداد النساء للخروج إلى العمل في مختلف المجالات، حتى لا يقتصر نشاطهن على العمل الخيري كما كان معهودًا في ذلك الوقت.
وعن الحقوق السياسية، تتحدث الدكتورة «هالة كمال» قائلة «أخذت مطالب الحركة النسوية تتحقق تدريجيًا مع استمرار الضغط، فالمشاركة السياسية على سبيل المثال لم تكن متاحة لكل فئات المجتمع وإنما تقتصر على الأعيان، ومن هنا طالب النساء اللاتي كن يمتلكن أراضي حينذاك أن يتساوين بالرجال من الأعيان الذي يتمتعون بهذا الحق، كما كانت قوانين الأسرة من ضمن المطالب التي صاغتها النسويات الأوليات، أي تنظيم علاقة المرأة بمجتمعها الصغير، وقد تبلورت المطالب بشأن تقييد تعدد الزوجات وقصر الطلاق على المحاكم، وقوانين الخلع، وهي مطالب ما زالت قائمة حتى الاَن.»
وفي السياق ذاته تقول «سلمى النقاش» الباحثة بمؤسسة «المرأة والذاكرة»، إن الحركة حققت مكتسبات وقفزات مهمة لا يمكن تجاهلها، لا سيما على مستوى الدساتير، مؤكدةً أن مطالب الحركة النسوية لم تؤخذ على محمل الجد في دستور 1923، باستثناء مطلب واحد فقط وهو تعليم الفتيات، أما الحقوق السياسية وتحديدًا حق النساء في الترشح للانتخابات والإدلاء بأصواتهن، لم يقره القانون إلا بعد صدور دستور 1956، الذي تزامن مع تأميم المجال العام بشكل كبير، عندما ألغيت الجمعيات الأهلية والأحزاب السياسية في عهد الرئيس «جمال عبد الناصر».
الحركة النسوية وما أحدثته من «نقلة» في الدساتير
نقلة أخرى على مستوى الدساتير، تحققت في الدستور المعدل في العام 2014، إذ نقلت قضايا حقوق المرأة إلى مرحلة مختلفة تمامًا على حد قول «النقاش»، بعد إقرار أحقية النساء في تولي المناصب القيادية العامة في الدولة (في المادة 11)، كما نص على إنهاء التمييز على كل الأسس ومنها الجنس والدين والعرق، عبر إنشاء مفوضية لمكافحة جميع أشكال التمييز – لم يتم تدشينها حتى الاَن- ، علاوة على تجريم العنف ضد النساء، وهو ما تؤكد «النقاش» أنه يحدث لأول مرة في الدساتير المصرية، وقد ترتب عليه إنشاء وحدات مكافحة العنف ضد النساء داخل وزارة الداخلية، التي تتولى عملها في المناسبات الاجتماعية كالأعياد، ثم تبعها توفير وحدات مكافحة التحرش في جامعة القاهرة، وتعديل قانون العقوبات، ليتضمن تجريم التحرش الجنسي بكل أشكاله.
وتشدد «النقاش» على أن هذه المكتسبات ليست من عطايا الدولة أو الأنظمة السياسية، وإنما هي ثمار النضال الذي خاضته الحركات والمجموعات النسوية في مصر من العام 1919 وحتى يومنا هذا، وقد دفعت النساء ثمن الحصول عليها غاليًا.
الأنظمة السياسية والحركة النسائية: تُعطَّل ولا تمنع
تقول «هالة كمال» إن النظام السياسي ما قبل العام 1952 كان مناهضًا لحركات التحرر الوطني بشكل عام ومن ضمنها الحركات النسوية، لافتةً إلى أن النساء كن يتعرضن للضرب من قبل قوات الاحتلال البريطاني، أما ما بعد يوليو 1952، فالدولة لم تكن معرقلة بطريقة مباشرة، وإنما كانت معطلًا بمعنى أن الخطوات كانت بطيئة، ولكن لم تكن مانعة لهذه الخطوات.
توالت الأنظمة السياسية على مصر بمختلف إيديولوجياتها، من نظام اشتراكي في عهد الرئيس «جمال عبد الناصر»، إلى سياسة الانفتاح في عهد الرئيس «السادات» ومن بعده «مبارك»، إلى الفترة التي أعقبت يناير 2011، التي يمكن وصفها بالفترة الانتقالية، مرورًا بصعود جماعة الإخوان إلى الحكم، انتهاءً بـ30 يونيو 2013، وتشير الباحثة «سلمى النقاش» إلى أن هناك سيدات تولين مناصب قيادية في الدولة كان لديهم انحياز تجاه قضايا المرأة، ضاربة المثل بالسفيرة «مرفت التلاوي»، لكن هذا لا ينفي أن مؤسسات الدولة كان تصورها أبوى تجاه قضايا النساء بداية من العهد الليبرالي في الأربعينيات وحتى الاَن على حد قولها.
وفي هذا السياق، تستعيد «النقاش» مشاهد تثبت إزدواجية تعامل الدولة مع القضايا النسوية ومنها، ما فعله الرئيس «جمال عبد الناصر»، الذي فرض الإقامة الجبرية على إحدى رائدات الحركة النسوية وهي «درية شفيق»، وهو نفسه الذي عين أول وزيرة في الحكومة وهي «حكمت أبو زيد».
وتردف «النقاش» قائلة «غياب البُعد الجندري في قرارات الدولة تجاه تمكين النساء، يكشفه التناقض أيضًا في مسألة أخرى، وهي تعيين المستشارة «تهاني الجبالي» في العام 2003 بقرار جمهوري كأول قاضية بالمحكمة الدستورية العليا، وبعد وصول جماعة الإخوان إلى الحكم في العام 2012، تم إقصاؤها لأن أيديولوجية الجماعة السياسية والدينية لا تقبل اعتلاء المرأة لمنصة القضاء.»
ما بعد يناير 2011: تجديد دماء والعنف السمة الأبرز
«بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، سمح المجال العام بخروج العديد من المجموعات النسوية الشابة مما جدد دماء الحركة النسوية، كما فتح المجال لتبني قضايا النساء وطورت بعض الأحزاب السياسية أفكارها فيما يخص القضايا النسوية» تقول «النقاش».
عادةً ما يوجه اللوم للجيل الجديد من النسويات، اللاتي شكلن مجموعات ومبادرات نسوية بعد يناير 2011، بشأن افتقاد اَليات التغيير، وهو ما تؤكد الباحثة « سلمى النقاش» أنه طرح خاطئ وفي غير محله، موضحةً أن «هذه المجموعات عمدت إلى توثيق الانتهاكات التي تُرتكَب بحق النساء وحاولت تقديم جميع أشكال الدعم المختلفة، سواء قانوني أو نفسي، وتقديم مقترحات ومشاريع قوانين، فضلًا عن تنفيذ العديد من حملات التوعية بشأن هذه القوانين، وبالتأكيد لقد أضفن لاَليات التغيير وسائل تتلائم مع الواقع الحالي، وتحديدًا من خلال استخدام مواقع التواصل الاجتماعي.»
العنف الجنسي ضد النساء هو قضية رئيسة على أجندة المجموعات النسوية الشابة، ولذلك ركز أغلبها على مناهضة التحرش الجنسي والعنف ضد النساء، وتراجع الاهتمام بالتمكين السياسي، وهو ما ترجعه «النقاش» إلى أن قضية حرية أجساد النساء تبقى ذات أهمية بالغة لكل المعنيين بالشأن النسوي، كما أنها المعركة الأصعب لكل النسويات، خاصة أن الوعى بشأن هذه القضايا يتغير من فترة لأخرى. وتتابع «على سبيل المثال منذ عدة سنوات لم يدرك كثيرون أن الحبس المنزلي شكل من أشكال العنف ضد المرأة، أما الاَن فقد تغير الوضع، وكذلك الحال بالنسبة للتحرش اللفظي والجسدي.»
وعن التركيز على قضايا الجسد، تقول الدكتورة «هالة كمال»، إن قضية العنف ضد المرأة تبلورت وجرت صياغتها بشكل أفضل منذ الثمانينيات، بداية من مناهضة ختان الإناث مرورًا بالتحرش الجنسي، الذي اكتسب أهميةً أكبر بعد الأربعاء الأسود ( يوم 25 مايو من العام 2005: تعرضت فيه صحافيات وناشطات سياسيات للتحرش الجنسي على سلالم نقابة الصحافين، أثناء تجمعهن للاحتجاج على استفتاء تعديلات دستور 1971) ثم اتخذ أبعادًا أعمق بعد يناير 2011 وبعد تفشيه في المناسبات الاجتماعية كالأعياد، فأصبح العنف هو السمة الأبرز لهذه المرحلة.