القصة أكبر من الكازينو: بديعة مصابني.. رائدة الفن التي أهدت السينما أهم نجوم العصر الذهبي
صاحبة أشهر مسرح فني عرفته مصر قبل يوليو من العام 1952، وهي من مهَّد الطريق أمام الكثير من النجوم الذين عرفتهم مصر خلال النصف الأول من القرن العشرين، لم تكن “بديعة مصابني” مجرد راقصة، وإنما فنانة استعراضية تحولت إلى مكتشفة للمواهب الفنية، التي أضحت رموزًا في السينما العربية.
أتت “مصابني” إلى القاهرة وهي في العشرين من عمرها، لتكون هذه البقعة بوابة التحول الكبير في حياتها بعد سنوات عصيبة، لا سيما أن طفولتها شهدت أحداثًا جسام، بداية من احتراق المصنع الذي كان يملكه والدها السوري في الشام، ومن ثم تدهور حال الأسرة ماديًا، ليتبع ذلك وفاة الأب، الذي كانت تحبه كثيرًا، وقالت عنه في مذكراتها “أعترف بجميل والدي الذي كان على خلاف أهل زمان، يعتني بتربية البنات وتعليمهن كاعتنائه بتربية الذكور تمامًا.”
مجتمع لا يلوم سوى ضحاياه حتى إن كانوا “الأطفال”
ساءت الظروف المادية أكثر بعد وفاة الأب، واضطر شقيقها الأكبر ويدعى “توفيق” للعمل في إحدى الحانات، حيث انتُهِكَت طفولتها، بعد اغتصابها على يد صاحب الحانة ولم تكن حينها تتجاوز السبع سنوات، وتحدثت “مصابني” عن هذه الحادثة في مذكراتها، قائلة “وسرعان ما انقض عليّ صاحب الخمارة انقضاض ذئب مفترس على نعجة صغيرة، لا تقوى على حماية نفسها، فأخذت أبكي وأستغيث من دون جدوى.”
عندما عادت الطفلة إلى بيتها، وعلمت أمها بما حدث، أصرت على أن تقاضي المغتصب، وعندها ثارت الثائرة، واعتبرها المحيطون فضيحة كان يجب إخفاؤها، والأسوأ أن هناك من برر ما وقع، معتبرًا أن اللوم الأول والأخير يقع على الأم وابنتها، وبدلًا من التعاطف معها، وجدت الطفلة نفسها عرضة للسخرية والشماتة. انتهت القضية بالحكم على المتهم بالسجن لمدة سنة واحدة وبغرامة قدرها مئتي ليرا، وإن كانت الإدانة الضعيفة هذه لم تكف لتغيير موقف الناس.
تشرذمت الأسرة فيما بعد؛ ولم يتبق مع “بديعة” سوى أمها وشقيقة واحدة، وهاجر الثلاث إلى أمريكا الجنوبية، هربًا من الإساءات والاتهامات التي أصبحت تلاحقهن في كل خطوة.
التحقت “بديعة” بمدرسة داخلية، تعلمت فيها العديد من الفنون واللغات، واكتشفت الراهبات موهبتها في الغناء والتمثيل والرقص الإيقاعي، وفن الإلقاء فقدمت عددًا من الأدوار على خشبة مسرح المدرسة، لكن سرعان ما قررت أمها إخراجها من المدرسة، بسبب صعوبة المعيش هناك.
إلى القاهرة.. الطريق إلى ريادة الفن
في العام 1912، ذهبت مع أمها إلى القاهرة، بحثًا عن خالها الثري، وبعد رحلة بحث طويلة، اكتشفتا أنه قد توفي، فتبددت أحلامهما في أن يعيشا حياة أخرى أفضل حالًا.
في القاهرة، بدأت”بديعة” تتحسس خطواتها الأولى في طريق الفن، وانضمت إلى فرقة المسرحي الكبير “جورج أبيض”، وتوهجت كممثلة وراقصة تجيد الغناء أيضًا، وخصص لها راتبًا شهريًا قدره خمسة جنيهات.
في حديقة الأزبكية حيث كانت تقضي “بديعة” أوقاتًا طويلة، التقت بشخص يدعى “مصطفى الشامي” وهو شقيق “أحمد الشامي” صاحب فرقة “الشامي” المسرحية المعروفة وقتذاك، وعرض عليها الانضمام إلى فرقته، وهو ما حدث لكن بعد أن دبرَّت خطة لإعادة أمها إلى الشام.
كانت “بديعة” ترى في إبعاد أمها عنها الحل الوحيد، لتستمر في الطريق الذي اختارته، خاصة أنها أخفت عنها اشتغالها بالفن، وأدعت أنها تعمل بالخياطة، لأن أمها كانت ترفض أن تعمل ابنتها في هذا المجال، أما الاَن فرصتها أكبر وستجوب مع الفرقة الجديدة المحافظات المصرية، فلن تمر كذبة الخياطة ولن تقبل أمها بعملها كذلك، فاقترحت “بديعة” على الأم أن يرحلا إلى بيروت فوافقت، وذهبا سويًا إلى محطة القطار، واشترت تذكرة واحدة، وبعد أن استقلتا القطار، تركتها بحجة البحث عن طعام، وخرجت من القطار ركضًا، لتترك أمها تعود وحيدةً، وتبدأ رحلتها مع فرقة “الشامي” وتحقق نجاحات كبيرة، جعلتها تنتقل من أدوار ثانوية إلى أدوار البطولة في العروض.
بعد فترة، التقت “مصابني” بالصحافي اللبناني “يوسف شمعون”، الذي أقنعه بالعودة إلى لبنان، حيث وعدها بأن يكون لها شأن عظيم هناك، خاصة بعد أن سمع صوتها وهي تغني وعلم بأنها تجيد الرقص أيضًا، وبالفعل فعلت، وحققت نجاحًا كبيرًا هناك، لكن نداء القاهرة بلغها مجددًا، فأجابته.
خطوتان إلى الأمام.. البطولة في مسرحيات الريحاني
في لبنان، جمعتها الصدفة بالممثل “نجيب الريحاني” في لبنان، واتفقنا على التعاون في عمل مشترك وهو مسرحية”الليالي الملاح”، التي حققت نجاحًا جماهيريًا حينذاك، وبعدها أدت أدوار البطولة في عددًا من مسريحات فرقة “الريحاني”، مثل؛ “الشاطر حسن” و”أيام العز” و”ريا وسكينة” و”البرنسيسة”.
تحدثت “مصابني” عن التعاون الأول مع “الريحاني” في لقاء تلفزيوني أجرته مع المذيعة” ليلى رستم، وقالت “نجيب عمل لي رواية اسمها “الليالي الملاح”، كان فيها مغنى وكان فيها رقص، وليا فيها دور حلو جدًا كان اسمي قوت القلوب، واشتغلناها سنة، وكانت الرواية ماتينيه وسواريه ليلاتي ويوماتي.”
لم تقتصر علاقتهما على التعاون الفني، فقد تزوجا في العام 1925، ثم انفصلا في العام 1943 بسبب طموحات “بديعة” البعيدة، فضلًا عن اختلاف طباع كل منهما.
كازينو “بديعة”.. أحد أهم معالم القاهرة الملكية
بعد الانفصال، اشترت “مصابني” صالة عماد الدين بخمسة آلاف جنيه، ليصبح “كازينو بديعة” – الاَن فندق شيراتون القاهرة – وكان يتكون من ثلاثة طوابق، ويضم؛ حديقة، مطعم، قهوة وكازينو، ثم كونت فرقة استعراضية تضم أكثر من 50 شابًا وفتاة، وبدأت المغامرة الأهم في مسارها الفني، وأصبحت الأستاذة التي تفتح الباب أمام المواهب الجديدة، ويعود إليها الفضل، في اكتشاف الراقصتين “تحية كاريوكا” و”سامية جمال”، والراقصة اللبنانية “ببا عز الدين” والمطرب “فريد الأطرش”، والفنان الكوميدي “إسماعيل ياسين”، والمونولوجيست “محمود شكوكو”،و غيرهم الكثير من نجوم السينما في فترة الخمسينيات والستينيات.
هذا المقطع صُوّر في العام 1934، وتظهر فيه “بديعة مصابني” وهي ترقص في المقدمة على مسرح كازينو “بديعة”، وتغني أغنية “يا كاويني”، وقد صورته بهدف الترويج للكازينو، ليُعرَض في دور العرض السينمائي قبل الأفلام.
اعتاد الأدباء والفنانين في الثلاثينيات والأربيعينيات، التردد على الكازينو، ومنهم من اتخذ من حديقته، مجلسًا لعقد الندوات واللقاءات، وأصبح “كازينو بديعة” من أهم معالم مدينة القاهرة الثقافية، وعرف بتقديم مسرحيات الفودفيل ( مسرحية هزلية غنائية)، والأغاني الخفيفة والمونولوجات، والرقصات الفردية والجماعية. حققت “مصابني” بفضل هذا الكازينو صيتًا لم يكن يباريه فيه أحد، وكانت أرباحها في الليلة الواحدة بعد توزيع المرتبات وتكاليف السهرات تصل إلى 50 جنيهًا، وكان هذا رقمًا كبيرًا في ذلك الوقت.
السينما والحرب ينهيان أسطورة كازينو “بديعة”
حين اندلعت الحرب العالمية الثانية في العام 1949، تحول الكازينو إلى مكان يقصده الجنود الإنجليز للترفيه عن أنفسهم، وفي ذلك الوقت بدأ نجوم الكازينو في الاتجاه إلى السينما.
أدت ظروف الحرب وتأثيرها الاقتصادي والاجتماعي بالتوازي مع صعود السينما، إلى أفول نجم الكازينو، وفوجئت “مصابني” بمطالبة مصلحة الضرائب لها بتسديد ديون كبيرة لم يكن بوسعها أن تدفعها، فحاولت أن تتفاوض مع المصلحة لتخفيف المبلغ، لكنها فشلت، واستمر تضييق الخناق عليها، وكادت مصلحة الضرائب أن تحجز على الكازينو.
لقبت “بديعة مصابني” بعميدة الرقص الشرقي، على الرغم من أنها لم تكن ترتدي بدلة الرقص عندما ترقص على المسرح وعادة ما كانت ترتدي الفساتين السواريه، لكن السبب وراء ذلك اللقب، كان اكتشافها لأهم الراقصات المصريات مثل؛ تحية كاريوكا وسامية جمال
وطويت صفحة ملكة “الفودفيل”
لم تجد “مصابني” مناصًا من الهروب من مصر، خوفًا مما سيلحق بها، فجمعت ما تملك، واتفقت مع طيار إنجليزي على تهريبها وتخفت في ملابس راهبة، واستقلت طائرة من ميناء روض الفرج الجوي قبل إلغائه، واستقرت في مدينة شتورة في لبنان في العام 1950، وأسست متجرًا تجاريًا بعد ذلك هناك، وبنت لنفسها منزلًا، وعاشت هناك لنحو 24 سنة، حتى توفيت في عامها السادس والثمانين.