«اشتباك».. فيلم عن مصر التي تمزقت بين «نجوى» و«عائشة» ولم تسع نساء الثورة .. حتى عربة الترحيلات نبذت من بينهما!
منذ أيام قليلة بدأ عرض الفيلم الأكثر إثارة للجدل منذ عرضه في مهرجان كان السينمائي الدولي في مايو الماضي، وهو “اشتباك” للمخرج محمد دياب، وقد استقبله عدد محدود من دور العرض المصرية، وسط اتهامات بالجملة من كافة الأطراف تقريبًا، سواء المعادي لثورة الـ25 من يناير أو حتى المؤيد لها، فكما جرت العادة، كارهي الثورة يتربصون بكل الأسماء المرتبطة في الأذهان بها، ولو حتى ابتعدوا عن تناول الثورة وما أحاط بها، اختلقت عقول الكارهين سيناريوهات عن رسائل مبطنة ومحرضة ضد الدولة والنظام السياسي، في المقابل هؤلاء المنتمين للثورة روحًا وعقلًا، وجسدًا، وحضورًا ودعمًا، يتطلعون إلى رؤية الحقيقة محكية على الشاشة بأقل تحريف ممكن، وهو حلم لدى كل من اَمن بالثورة وصدقها وشارك في كل موجاتها، لكن هل السينما في مصر تستوعب ذلك؟ أو بالأحرى هل الدولة المصرية ستقبل ذلك؟
بالقطع لا وليس ذلك في الوقت الراهن فحسب، فواقعيًا هناك تاريخ لصراع أبدي بين الرقابة والأمن من جهة وصناع السينما من جهة أخرى، وما برح هذا الصراع قائمًا، ومن يرنو إلى أحاديث المبدعين عن أزماتهم مع الرقابة يتأكد أن التنازل والاعتماد على النبضات في ثنايا الأحداث هو الحل للخروج إلى النور في ظل سطوة أمنية وقمع أخلاقي وهيمنة الصوت الواحد.
وهنا تجدر الإشارة إلى الموقف الذي رواه المخرج الراحل “محمد خان” في كتابه “مخرج على الطريق” عن التدخلات السافرة للرقابة والأجهزة الأمنية في فيلمه “زوجة رجل مهم” قبل إجازة عرضه، في عهد رُغمَ سواده لم يشهد الاستقطاب الذي نعيشه الاَن، وهو نفسه الذي قال قبل نحو شهرين في لقاء تلفزيوني على قناة النهار الفضائية أنه لو أراد أن يقدم نفس الفيلم الاَن، لُمنع من القيام بذلك.
الخلاف بشأن دعم ثورة يناير أو معاداتها أضحى يظهر في أي فيلم يقترب منها، وهو ما حدث قبل شهور قليلة مع فيلم “نوارة” للمخرجة هالة خليل، الذي اعتبره كارهي الثورة كاشفًا لكونها وهمًا ومصدر بؤس للغلابة، وعلى الجانب الاَخر راَه مؤيدي 25 يناير مناصرًا لها وأبان الأوهام التي صدقناها وتقيدنا بها، وهي من صناعة اللاعب بالخيوط من خلف الستار، حتى يحولها من ثورة عظيمة إلى هبة “شبابية” فمن ثم هوجة “خونة”.
“اشتباك” هو الفيلم الروائي الثاني في رصيد المخرج محمد دياب، بعد فيلمه “678” – إنتاج 2010، وكتب “دياب” سيناريو الفيلم بمساعدة شقيقه السيناريست خالد دياب، وهي ليست التجربة المشتركة الأولى لهما، فقد قدما من قبل فيلم “الجزيرة “2 ومعهما شقيقتهما “شيرين”، التي اشترك معها أيضًا في كتابة سناريو فيلم “ديكور”.
من يشتبك مع من؟
كلمة اشتباك توحي بأن تنازعًا أو تضاربًا يقع بين طرفين، وفي الفيلم التنازع بين مؤيدي 30 يونيو ورافضيها من الإخوان، ومن ناحية أخرى بين هؤلاء جميعًا ومعهم قلة ممن هم بين التيارين في مواجهة الشرطة.
الفيلم فنيًا لا يباريه اَخر من الأفلام التي عُرِضت خلال السنوات الخمس الأخيرة (على الأقل)، بشهادة المتخصصين، والجمهور الذي امتلأت به قاعات السينما رغم محدودية عدد الدور المعروض فيه خلال أول أيام العرض.
“اشتباك” تدور أحداثه في يوم قائظ من أيام يوليو عام 2013، عقب عزل “محمد مرسي” والإطاحة بحكم الإخوان.
طيلة الفيلم الكاميرا لم تخرج إلا قليلًا خارج عربة الترحيلات الضيقة التي لا تتجاوز مساحتها أمتارًا قليلة، وهي التي ترمز للمجتمع المصري المحبوس داخل حالة الاستقطاب الشديد، التي تنسج خيوطها القوى المتواجدة خارج العربة.
“نجوى” و عائشة”
بين 20 شخصًا دفعتهم القوات الشرطية إلى داخل عربة الترحيلات من انتماءات مختلفة ومرجعيات متباينة، لم يظهر سوى شخصيتين نسائيتين هما؛ “نجوى” و”عائشة”.
“نجوى” التي أدت دورها “نيللي كريم”، واحدة من هؤلاء الذين نزلوا في تظاهرات تؤيد قرارات 3 يوليو ضد الإخوان، وعلى الرغم من أنها في أغلب الأحيان لم تجنح إلى العنف في مواجهة من يتملكها غضب تجاههم، إلا أنها تظل غير مقتنعة بإمكانية التعايش مع التيار المختلف.
نزلت في هذا اليوم مع زوجها “حسام” وابنها”فارس” للتظاهر دعمًا للسلطة الجديدة بعد 30 يونيو، وكان من الممكن أن تفلت من قبضة عربة الترحيلات، إلا أنها اختارت أن تبقى إلى جوار ابنها وزوجها، فراحت تستفز القوات الشرطية حتى تلحق بهما، وعلى الرغم من دخولها العربة طواعية إلا أن همها الأول والأخير طوال الوقت هو النجاة بنفسها وبهما من هذا الضيق والبؤس.
“نجوى” ممرضة بسيطة الحال، صوتها عالٍ في أغلب المحاورات، نظراتها حادة، وعلاقتها بزوجها تتسم بالغلظة، وعلى الرغم من القوة التي تعمد أن تظهرها في تعاملها مع الموقف ككل، إلا أنه بمرور الوقت يتكشف أنها غطاء لخوف وتربص بالاَخر يذوب كلما زادت المعاناة والغمة داخل العربة.
لم يكشف الفيلم عن كثير من ملامح الشخصيات النسائية تحديدًا، لكنه إجمالًا قصد أن يجعل “نجوى” شبيهة بنساء كثيرات كادحات، انتمائهن الأول لأسرهن الصغيرة ومن ثم ما يعتقدونه أصلح وأفضل لهن ولأولادهن.
“نجوى” مثلها مثل “عائشة” التي أدت دورها “مي الغيطي”، مؤمنتان بثورة يناير وشاركتا فيها، لكن الدروب فرقتهما، والانتماءات السياسية باعدت المسافات، حتى جاءت عربة الترحيلات بضيقها لتجمعهما في نفس الطريق.
تزج قوات الأمن بالصغيرة “عائشة” ووالدها العجوز إلى العربة، وهما من المتظاهرين ضد الإطاحة بحكم الإخوان.
“عائشة” فتاة مؤيدة لحكم “الدين” قبل أن يكون حكم “الإخوان”، وقبل أن تكون ضحية من ضحايا الوهم هي ضحية التبعية، فهي نموذج صارخ للمتعاطفين والمتعايشين مع النظام الأبوي.
فتاة في مقتبل العقد الثاني من عمرها، ترتدي خمارًا يخفي ملامح طفولتها، معتقدةً أن في ذلك الفلاح، وتتمسك بحكم تيار يهين بنات جنسها ليلًا نهارًا، لأنه في مخيلتها بيده الخير للأمة ككل.
“نجوى” و”عائشة” نقيضين موجودين بالفعل في واقعنا وما أكثرهما، ولكن من بينهما لم يظهرن ولو بمرور عابر، فلا يمكنك أن تجد هؤلاء اللواتي فقدن أبنائهن منذ اشتعال الثورة في 2011 وحتى 30 يونيو 2013، ولن تجد هؤلاء الذين أغلقت عليهن أبواب المعتقلات، على الرغم من أنهن لسن مع هذا أو ذاك، ولا اللواتي دفعن ثمنًا غاليًا من أجسادهن لأنهن هتفن “يسقط”.
أظهر المخرج نوعًا من التعاطف من قبل رجالات الشرطة تجاههما، وهو أمر قد يكون عصي على التقبل بأريحية في ظل ما ينشر عن انتهاكات شرطية بالجملة تُمارس ضد النساء.
الفيلم غاب عنه التأثير النسائي القوي، والمعهود في أفلام “محمد دياب” السابقة سواء إخراجًا أو كتابةً، مثل 678، أو ديكور وحتى الجزيرة2، وغلب تركيزه على حالة الاستقطاب وكيفية تذويبها نحو التعايش، على كل التفاصيل التي أحكمها كثيرًا في عدد من أعماله السابقة.
في النهاية يبقى فيلم “اشتباك” فيلمًا استثنائيًا على الصعيد الفني تحديدًا، لكن صناعه جنحوا إلى إعلاء قيمة التعايش وتغليب الإنسانية فتحقق العكس تمامًا وذاع الانقسام، فالجمهور تفرق بين رافض للفيلم، وفي هذا الجانب اجتمع الجناح المعادي للثورة والإخوان معًا، بالإضافة إلى جانب من مؤيدي الثورة، واَخرين يدعمون الفيلم، ويدافعون عنه باستخدام وسائل مختلفة، عبر تدوينات ومقالات وإعادة مشاهدة الفيلم مرتين وثلاثة بدور العرض.
لكن الاستقطاب يبقى قائمًا وقد أعاد الفيلم الاشتباك بين الفرقاء مجددًا بدلًا من جمع الشتات.