ثلاثة نماذج نسائية يكشفن عبر تجاربهن لماذا يصمد “تشويه الأعضاء التناسلية”فى مصر؟
الطهارة فى الأصل، هى التخلص من الأقذار المادية والمعنوية، لكن فى مصر يطلق هذا اللفظ على عملية التخلص من بعض الأعضاء فى جسد الأنثى أو بالأحرى تشويهها، والغريب أن الذهاب إلى تسمية اقتطاع جزء مثل البظر من جسدها بـــ”الــطهارة”، يربطه قطاع عريض من المصريين بالدين الإسلامى ويرجعونه إلى أمر من الخالق ورسوله على حد الإدعاء المنتشر، وذلك على الرغم من أن الفعل نفسه يتعارض مع الإيمان الراسخ بالاَية القراَنية “ولقد خلقنا الإنسان فى أحسن تقويم”، والتى تتجه تفاسيرها إلى تناسب أجزاء جسم الإنسان بعضها مع بعض، وجميعها فى غاية الانسجام والتكامل.
فى مصر، ما يقارب الـ 27.2 مليون امرأة خضعن لممارسة تشويه الأعضاء التناسلية أو عادة قطع البظر أو ختان الإناث أو الاسم الأكثر تداولًا “الطهارة” وبهذا الرقم نالت مصر المرتبة الأولى بين دول العالم فى ارتكاب هذا الجرم نظرًا لأنها البلد الذى يضم أكبر تجمع نسائي مورس بحقه هذا النوع من التشويه بحسب ما أعلنت هيئة يونسيف مصر UNICEF Egypt، فى فبراير الماضي، بالتزامن مع احتفالات اليوم الدولى للقضاء على ختان الإناث الموافق 6 فبراير من كل عام.
وقد انتهكت أجساد الملايين من المصريات بسبب عادات متوارثة من جيل إلى جيل صُبِغت بصبغة دينية، حتى يطول عمر هذه الممارسات وتصمد لزمن أطول أمام حديث العلم الذى يدحض الأكاذيب المحيطة بأهميته، خاصة فى مجتمع تصل فيه نسبة الأمية إلى نحو 40%.
وبحسب تقرير صادر عن هيئة يونسيف الدولية UNICEF فى يوليو 2013، تتركز ممارسة “ختان الإناث” بنسب مرتفعة فى 29 دولة أفريقية، ونصف من تعرضن لهذا التشويه يتركزن فى 3 دول فقط هم: مصر وأثيوبيا ونيجيريا.
وعن مصر تحديدًا يبدو الأمر عصيًا على التغيير، فكل محاولات وقف تنامى الظاهرة باءت بالفشل، سواء على الصعيد الديني بفتوى تحريم ختان الإناث التى صدرت عام 2008 عن دار الإفتاء المصرية، أو على الصعيد الطبي بقرار وزارة الصحة بحظر إجراء هذه العمليات من قبل أى طبيب أو ممرض عام 2007، أو على النحو التشريعي بتجريم الممارسة عبر تعديلات على قانون العقوبات المصري فى عام 2008، وجاء التجريم فى المواد 241، 242، 242 مكرر، ومع ذلك فالقانون لم نر أثره متحققًا إلا فى يناير 2015، عندما حكمت المحكمة على طبيب بالحبس لمدة سنتين وغرامة 500 جنيهًا، على خلفية مقتل طفلة تدعى “سهير” فى محافظة الدقهلية إبان إجرائه لعملية ختان لها فى عيادته الخاصة.
فى السطور التالية، تكشف ثلاث نساء يعشن على أرض مصر، وينتمين لفئات عمرية وثقافية مختلفة، عبر تجاربهن لماذا يظل تشويه الأعضاء التناسلية قويًا، طويل العمر، بلا بوادر فى الخلاص منه قريبًا.
“شيرين“، صحافية تخصصت فى ملف “المرأة” بإحدى الصحف المطبوعة، والمفارقة أنها من هؤلاء اللواتى خضعن لجريمة “الختان”، تبلغ من العمر 30 عامًا، وقد أجريت لها تلك الممارسة قبل 19 عامًا، لم تأتِ الفتاة من الصعيد، أو من إحدى القرى الريفية، بل من سكان القاهرة منذ الطفولة، وتمت عملية تشويه أعضائها التناسلية، بمنزلها وتحديدًا فى غرفتها الصغيرة.
وعن قصة طويلة عنوانها العريض مأساة الختان تتحدث “شيرين”: “مازلت أذكر ما حدث يومها، وأذكر الاَلم، لكننى فى الوقت نفسه لم أنس كلمات أمى قبل وبعد ما حدث، فقد أخذت تردد فى أذني أن هذه العملية تجريها جميع الفتيات ويجريها أيضًا الصبية، تؤلم قليلًا ولكن يذهب اَلمها بمرور الوقت، وأكدت مرارًا أنها لن تترك أثرًا”
وتشير “شيرين” إلى أن لفظ “عملية” الذى استخدمته أمها كان عن قناعة، لأن من أجرى لها الختان، كان طبيبًا متخصصًا فى أمراض النساء والتوليد، وهو نفسه الذى ختن شقيقتيها، وتقول أن أمها قالت لها ذات مرة “لو كان كلام بتاع حقوق المرأة صح والختان غلط ليه الدكاترة بيعملوه، كل بنات العيلة دكاترة اللى مختيننهم، ولو حرام ليه فى شيوخ بتأكد حديث الرسول بوجوبه على البنات”
تتابع “شيرين”: أثر “الختان” بقى معى حتى وقتنا هذا، ولا أقصد الاَثر الجسدى، وإنما الاَثر النفسي، أنا لا أعاني اَلامًا فى الحوض كما يتردد أو كما تعانى أخريات، لكن أشعر بأننى أقل من غيري من الفتيات، خاصة بعد أن اكتشفت أن أمى لم تكن تقول الحقيقة، وأن كثيرات حولى لم يخضعن للختان”
وتتذكر واقعة من سلسلة ذكرياتها بالمدرسة، عندما جلست معلمة مادة العلوم مع بنات الفصل فى المرحلة الإعدادية، وحدثتهن عن ضرورة إجراء عملية الختان، وعلى الرغم من أنهن قد تجاوزن سن الـ14، ومن المعروف أن أغلب عمليات الختان تتم فى الفترة العمرية من 5-10 سنوات، إلا أنها أصرت أنه مازال أمام من لم تخضع للختان الفرصة حتى تحمى نفسها من فرط الشهوة الذى يصيب البنات، وقالت “أنا عندى 34 سنة، مش متجوزة لكن عمر ما حد عرف يقرب لي ولا أنا استسلمت لشهوة، لأن الحمد لله أهلى ختنوني”
تواصل “شيرين”: عندما دخلت الجامعة، وكثر الكلام عن مثل هذه الموضوعات بين زميلاتى وصديقاتى، كان “الختان” محل خلاف بين صديقاتى فمنهن من أيدنه ومنهن من رفضنه، لكنى كنت التزم الصمت، بمرور الوقت بدت الفتيات اللواتى أجرين هذه العملية رجعيات وأهلهن كذلك، لذا أخفيت أمري ولم أكشف أبدًا أننى خضعت للختان، حتى تمت خطبتى وفوجئت بخطيبى يسألنى ذات مرة عما إذا كنت قد أجريته أم لا، ولم يكن هناك مناص من قول الحقيقة هذه المرة، فصارحته بالأمر وقبل أن أوضح له أننى ضد هذا الفعل، وأننى مثل أى فتاة خضعت له بسبب سطوة أهلها، وجدت وجنتيه توردتا ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة، وقال لي “ومن قال لكِ أننى من هؤلاء المخابيل المعادين للختان أنا كنت أخشى أن تفاجئيني بأنك لست كذلك .. أهلك صح وعملوا الصح.”
وتردف قائلة: “بعد أن ساقتنى الظروف أن أعمل كصحفية على ملف المرأة، وفى جزء منه ما يتعلق بحقوق النساء، وفى قلبه بالقطع مناهضة ختان الإناث، صرت أعيش بوجهين، وجه منصاع لأهله وشريكه، وأعرف تمام المعرفة أننى لو رزقت طفلةً، سُأجبر على تختينها، فليس بيدى الاختيار، لا أسرتى ستقبل بعدم القيام بذلك ولا زوجي بالتأكيد، فى المقابل، أكتب تقاريرًا وأنقل أخبارًا، وأحضر مؤتمراتٍ عن مناهضة الختان، أسمع عن أضراره، بل أحفظها، ومع ذلك لم استطع أن أقنع والديا أو زوجي بأى منها، فصرت ممزقة بين وجهين، أكذب على نفسي وعلى الاَخرين ولن استطيع تغيير حياتى وكل ما أتمناه ألا يرزقني الله ببنت.”
“سعاد الصالحى“، فى الـ75 من العمر، خضعت فى صباها لممارسة تشويه الأعضاء التناسلية، ولم تكن وقتذاك من القاهريات، كانت بنت ريفية تعيش فى إحدى قرى محافظة القليوبية، حينما تتحدث “سعاد” عن واقعة ختانها، لا تجد لديها نفس الحساسية التى تستشعرها فى كلام من تعرضن لنفس الأمر ولكن من فئة عمرية أصغر، فهى تؤكد أن الختان كان سمة العصر وقتها، وخاصة فى الريف ولم يكن يرد بالعقل مجرد الفكرة بأن فتاة لن تمر على المشرط.
وتقول “سعاد”: “أجرى لى الختان فى أجواء احتفالية صاخبة، احتفلت أمي، وأخذت نقوط “الطهارة”، تربيت على أن ما تعرضت له اسمه “طهارة البنات” وهى توازي “طهارة الذكور” والاثنين واجبين فى الدين، فضلًا عن بعض الكلام المنسوب للضرورة الصحية، لم تتغير وجهة نظرى عندما جئت إلى القاهرة، فالعاصمة فى الستينات كانت تحتضن هذه العادة وتمارس فيها بشكل طبيعي، فقد أجريتها لابنتى المولودتين هنا فى هذه الفترة، واستجلبت قابلة للقيام بذلك.
وتتابع قائلة: “فى النصف الثاني من الثمنينات، صارت أذني تسمع كثيرًا عن مضار الختان للبنات، واكتمل الأمر عندما درست ابنتى الكبرى بكلية الطب، وتغيرت وجهة نظرها ووجهة نظرى عن الختان، لذلك لم تجرى الختان لحفيدتى وأيدتها فى ذلك، بعد أن بدا واضحًا أن الأمر لا يزيد عن عادة مثل عادات كثيرة لا أساس لها تُلصَق بعفة البنت.
أما “يسرا” ذات الـ27 عامًا، القادمة من الصعيد وتحديدًا أسيوط، أجري لها الختان فى صباها، ولم تفكر بالأمر ولم يشغلها، حتى انتقلت إلى القاهرة للدراسة الجامعية، وهنا تغيرت الكثير من الأفكار الساكنة بالعقل، من بينها القناعة بأن “ختان الأنثى” أمر طبيعي.
وتقول “يسرا”: “كنت أتمنى لو أننى استطيع مقاضاة الطبيب الذى أجرى لى الختان، لكن الأمر مر عليه سنوات، وأهلى حتى وقتنا هذا لديهم قناعة راسخة أن الختان “شر لابد منه” بحكم العادة والواجب الديني بحسب اعتقادهم”
وتضيف: “ما يمكننى أن أفعله لمحاربة هذه الجريمة فى الوقت الحالى، هو التدوين عنها من حين لاَخر، وفى المستقبل، سأقف فى وجه المجتمع بعاداته البالية وأمنع هذا الضرر عن بناتى لو رزقت ببنات يومًا ما، وعلى الرغم من أن ما أفعله قد يبدو ضئيلًا وغير مؤثر لكن لو تخيلنا أن كل الفتيات مصر فى صعيدها ودلتاها فعلن مثلما أفعل سينحصر الختان كثيرًا وقد نراه لا يتجاوز الـ10%.”
ملحوظة: تم تغيير اسم الشخصية الأولى بناءً على رغبتها