«روز اليوسف» التى نزلت من على خشبة المسرح لتصعد سلم الصحافة وتبلغ قمته
شخصية جمعت بين النقضيين، هادئة ورقيقة وتذوب خجلاً كلما سمعت كلمة ثناء، وفى الوقت ذاته هى عنيفة كالعاصفة ويزلزل صوتها مكاتب المحررين وعنابر المطبعة إذا طرأ ما يعكر أهم ما فى حياتها “عملها”.. إنها “روز اليوسف” التي يقول عنها ابنها الأديب إحسان عبد القدوس:
“لا أدري كيف استطاعت أن تحملني تسعة أشهر وهي واقفة على خشبة المسرح، تعتصر الفن من دمها وأعصابها لتكون يومها أعظم ممثلة في الشرق.. هي التي دخلت مجال الصحافة وفي يديها خمسة جنيهات وأنشأت مجلة تحمل اسما أجنبيًا، فاستطاعت أن تجعل من هذا الاسم علمًا يضم تحته أعظم الكتاب و أنضج الاَراء ”
طرقت “روز اليوسف” أبواب الدروب الثلاثة الفن والصحافة والسياسة، سلكت كل درب والاجتهاد والاتقان والموهبة ما يضيئ مسلكها.
كانت ترى السياسة خدمة الوطن والمجتمع، وهي صراع حول حريات الناس وحقوقهم أما الصحافة فهي سلاح السياسة الأول.
“لماذا لا أصدر مجلة فنية ؟!”
الخاطر الذى تسبب فى تأسيس أهم مؤسسة صحفية مصرية
خلدت “روز اليوسف” اسمها بتأسيس مؤسسة صحفية عملاقة تحمل اسمها بمعاونة الصحافي الكبير “محمد التابعي” ثم تولي ابنها الأديب إحسان عبد القدوس وضع الثوابت الرئيسية لاستمرارها وتطورها ، ثم تحولت إلى مؤسسة قومية عقب قرار تأميم الصحف الكبري 1960 .
جاءتها فكرة إصدار مجلة فنية بالصدفة البحتة كما تروي في مذاكراتها قائلة “نبتت فكرة المجلة في محل حلواني اسمه «كساب» كان يوجد في المكان الذي تشغله سينما ديانا، وكنت جالسة ساعة العصر (في أحد أيام شهر أغسطس 1925) مع الأصدقاء محمود عزمي وأحمد حسن وإبراهيم خليل، نتحدث عن الفن، وتطرق الحديث إلى حاجتنا الشديدة إلى صحافة فنية ونقد فني سليم يساهم في النهوض بالحياة الفنية ويقف في وجه موجة المجلات التي تعيش على حساب الفن كالنباتات الطفيلية، ولمع في رأسي خاطر وقفت عنده برهة قصيرة، ثم قلت للزملاء بعد صمت قصير: لماذا لا أصدر مجلة فنية؟”
بدأت “روز اليوسف” الشابة التى لم تتجاوز ال28 عاماً وقتها، الإعداد لإصدار مجلتها الفنية وأجرت اتصالاتها ووقع اختيارها على “محمد التابعي” – الذى لقب بأبو الصحافة المصرية الحديثة – ليكون أول من يشاركها في إدارة المجلة وكان “التابعى” يكتب باباً نسائياً بالمجلة بتوقيع ” الاَنسة حكمت”.
“حقيقة واقعة.. وكائنًا حيًا أحرص عليه.. وأقسم على أن يعيش وينمو بأي ثمن”
روز اليوسف .. من الفن إلى السياسة
خرج العدد الأول من المجلة إلى النور في 26 أكتوبر 1925، وبصدوره أصبحت
“روز اليوسف” الصحيفة كما تقول عنها مؤسستها: “حقيقة واقعة.. وكائنًا حيًا أحرص عليه.. وأقسم على أن يعيش وينمو بأي ثمن” .
في بدايتها كانت مجلة أسبوعية فنية مصورة، في ورق أسمر ساتانيه، مكونة من ست عشرة صفحة تتنوع موضوعاتها حول المسرح والتمثيل إلى جانب قصة قصيرة مترجمة، بالإضافة إلى مواد أخرى مترجمة عن قصص تاريخية أوروبية أو مقتطفات من الصحف، ومقالات مصرية في النقد الفني وعلى غلافها صورة فنية.
كانت السنة الثالثة من حياة “روز اليوسف” مرحلة انتقالية في تحولها من صحيفة فنية إلى صحيفة سياسية، وشهدت أقلامًا جديدة ملهمة،وأخذت في التطور وإضافة الملاحق واستحداث أبواب جديدة.
روز اليوسف وحزب الوفد .. تقارب فانضمام فطلاق بائن
ولعل ما ميز روز اليوسف أنذاك هو أنها أول مجلة يتولى أمرها كتاب مصريون، في وقت كان الشائع فيه سيطرة الشوام على الصحافة المصرية.
فى فترة ما حدث تقارب بين “روز اليوسف” وحزب الوفد بقيادة النحاس باشا فضم الوفد روز اليوسف عضوة فيه وأيضاً مجلتها ولكن سرعان ما انهارت العلاقات الوثيقة بسبب حملة قادتها “روز” عبر مجلتها ضد رئيس الوزراء الوفدى وقتذاك نسيم باشا انتهت بفصل روز اليوسف ومجلتها من حزب الوفد.
إلى جانب مجلة “روز اليوسف” أصدرت المؤسسة العديد من الإصدارات الصحفية، منها صحف مثل الرقيب، صدي الحق، الشرق الأدنى، مصر الحرة، الصرخة، ومنها إصدارات مستقلة بذاتها مثل “روز اليوسف” اليومية، مجلة صباح الخير، الكتاب الذهبي.
“لو لم أكن امرأة لوددت أن أكون امرأة”
كغيرها من النساء العاملات بالمجال العام ، تحملت “روز” أو “فاطمة” اليوسف (اسمها الحقيقي) السجن والاعتقال في سبيل إعلاء كلمة الحق والصمود في وجه الظلم .. ولما طلبت استكتاب عباس محمود العقاد رفض أن يعمل معها لأنها امرأة، فردت على ذلك بثقة وقالت : “لو لم أكن سيدة لوددت أن أكون سيدة” (فى قول مشابه لقول الزعيم مصطفى كامل ” لو لم أكن مصريًا لوددت أن أكون مصريًا”)
النزول من على خشبة المسرح من أجل صعود سلم الصحافة
قبل دخولها الصحافة ، امتهنت “روز” الفن والمسرح تحديداً، بدايتها الحقيقية فى هذا المجال كانت على يد “عزيز عيد” الذى أعطاها دور “الجدة” في رواية “عواطف البنين”، وهنا تفجرت موهبة الفتاة ذات الستة عشر عاماً وقتذاك، انتقلت بعد ذلك بين الفرق الفنية حتى التحقت بعد ذلك بفرقة “جورج أبيض “وحينما شكل “يوسف وهبي” فرقة رمسيس، أصبحت روزاليوسف بطلة الفرقة الأولى، وقامت بدور البطولة في مسرحية “غادة الكاميليا”؛ مما جعل النقاد يكتبون أن روز اليوسف قدّمت الدور بأداء تفوقت فيه على الممثلة البريطانية سارة برنارد.. لهذا أطُلق عليها “سارة برنار الشرق”
إلا أن “روز” تركت الفن نهائياً بعد خلافات مستمرة أصابت علاقتها بيوسف وهبي انتهت بها إلى الخروج من الفرقة ومن ثم انتقالها إلى فرقة الريحانى التى لم تجد فيها ما تحلم به فما كان أمامها إلا أن تقرر تغيير دفة السفينة والانتقال إلى الأدب ومن ثم الصحافة.
من فاطمة إلى روز
ولدت ” فاطمة اليوسف” بلبنان، وعاشت طفولتها المبكرة وسط أسرة مسيحية تركها أبوها بينهم بعد وفاة والدتها عقب ولادتها بأيام معدودة، إذ كان يقدم لهم أجراً شهرياً مقابل رعايتها وتربيتها
غيرت الأسرة اسمها من “فاطمة” إلى “روز” لكي يتوافق مع دين الأسرة.
وبعد سنوات على هذا الحال، ذهبت فى رحلة للبرازيل، وخلال هذه الرحلة علمت حقيقة نشأتها، عندها قررت أن تلقى بالماضى المرير والمبعثر بعيداً وتبدأ مرحلة جديدة عنوانها “القاهرة”.
ثلاث زيجات وحرمان من الابن
تزوجت “فاطمة اليوسف” ثلاث مرات، الأولى من المهندس محمد عبد القدوس عام 1917، وكان قد ترك وقتها العمل الحكومي واتجه إلى الفن لكنه طلقها بعد عامين، فى الوقت الذى كانت فيه حاملاً في ابنهما “إحسان “، والذى لم تنعم حتى بوجوده إلى جوارها، تأنس به وتقوى بقربه منها إذ أصر والد طليقها الشيخ ” أحمد رضوان” أن يعيش الصبى معه ليتربى بعيدًا عن تلك الفتاة اللبنانية التى أفسدت “محمد عبد القدوس” (كما يرى هو).
الزيجة الثانية كانت من المخرج زكي طليمات، و روزقا بابنتهما “اَمال “، تزوجت بعد ذلك من قاسم أمين و هو حفيد المفكر و والكاتب “قاسم أمين” والمعروف بكونه نصيراً للمرأة.
الوداع الأخير
في خاتمة مذكراتها قالت “العمل السياسي لذيذ، ونبيل.. لذيذ لأنه حافل بالتقلبات والتطورات بل والدراسات.. فأنت فيه تدرس الأشخاص والأشياء والموضوعات، تدرس الأفراد والمجموعات، تدرسهم نفسياً وفكرياً واجتماعياً، لتستطيع أن تتأثر بهم وأن تؤثر فيهم”.
كانت أمنياتها بسيطة أن تموت حين يحين الأجل في لحظة خاطفة.. وأن يكون الموت في بيتها وعلى فراشها، دون أن تدركها علة.. حتى لا يقعدها ذلك عن الحركة و العمل وحقق الله لها أملها، ولفظت أنفاسها الأخيرة في ابريل عام 1958.
لم تحمل “روز اليوسف” شهادة مدرسية ولا مؤهلًا علميًا، ولكنها أخرجت جيلًا كاملًا من الكتاب السياسيين والصحافيين، وخلدت اسمها بين كبار الصحافيين والكتاب وبقت من بعدها روز اليوسف ترفرف باسمها عاليًا بين أعلام الصحافة وصدق قولها الذى قالته ذات مرة ولم تد أنه سيصير حقيقةً من بعدها “كلنا سنموت، ولكن هناك فرق بين شخص يموت وينتهي وشخص مثلي يموت ولكن يظل حيًا بسيرته وتاريخه.