أحد أبرز الأحداث التي ارتبطت بأولمبياد باريس التي انعقدت في صيف العام ۲۰۲٤، كانت حملة الكراهية والتضليل ضد الملاكمة الجزائرية إيمان خليف، التي ازدادت حدتها مع دخول الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورجل الأعمال إيلون ماسك على الخط، إذ وجّه كلاهما اتهامات باطلة لإيمان خليف واللجنة الأولمبية الدولية (IOC)، زاعمين أن اللاعبة الجزائرية ليست امرأة بل رجلًا متذرعين بقرار إيقاف سابق صدر بحقها من الاتحاد الدولي للملاكمة بعلة الإخفاق في تجاوز بعض اختبارات الأهلية (من دون تحديد ماهية الاختبارات)، وقد روّج ترامب وماسك إلى أن موافقة اللجنة الأولمبية الدولية على مشاركة إيمان خليف في ألعاب النساء تمثل ظلمًا لبقية اللاعبات لأنهن لا يتمتعن بالقوة البدنية التي تمتلكها اللاعبة الجزائرية.

قوبل الهجوم الإلكتروني الواسع على إيمان خليف بحملة مساندة وتضامن أطلقتها نساء من الجزائر ودول الجوار الناطقة بالعربية للاحتجاج على حملة عدائية يتقاطع فيها التحيز الذكوري مع الاستعلاء العرقي. وقد توجّه عشرات الداعمات والداعمين لإيمان خليف إلى الملعب الذي احتضن المباراة النهائية في مسابقة الملاكمة عن وزن ٦٦ كجم للنساء من أجل مؤازرتها، ووسط التضامن الذي ضجت له أرجاء الملعب أنهت إيمان الجولات الثلاث لصالحها وصعدت إلى منصة التتويج لتحصد الميدالية الذهبية.

مع انتهاء الحدث الرياضي الكبير خفت الهجوم كثيرًا لكن مساعي الإقصاء لم تتراجع قط، إذ لم تتمكن اللاعبة الجزائرية من خوض أي منافسات لما يزيد عن العام بسبب اختبارات الأهلية الجندرية التي قرر الاتحاد الدولي للملاكمة فرضها، وهو ما احتجت عليه إيمان معتبرةً إياه انتهاكًا للخصوصية والكرامية الجسدية.

إيمان خليف لن تكون الأخيرة ولم تكن كذلك الأولى، بل إن قصتها حلقة في سلسلة طويلة من التمييز والإيذاء الذي تتعرض له الرياضيات اللاتي لا يتجاوزن ما يسمى باختبارات أهلية النوع الاجتماعي (Gender Eligibility Tests) التي تفرضها العديد من اتحادات وروابط الرياضات الدولية المختلفة.

قبل خمسة عشر عامًا من حادثة إيمان خليف، واجهت العداءة الجنوب إفريقية كاستر سيمينيا حملة مشابهة بعد أن حطمت الرقم القياسي العالمي لسباق ٨۰۰ متر في بطولة العالم لألعاب القوى، وبدلًا من الاحتفال بالإنجاز الكبير الذي حققته وجدت اللاعبة نفسها في مواجهة حملة تشكيك في هويتها كامرأة بعد أن تسربت نتائج فحص الهرمونات الذي أجرته قبيل انطلاق البطولة، والتي أظهرت ارتفاعًا في مستوى هرمون التستوستيرون بالقياس إلى النسبة الشائعة بين اللاعبات.

على خلفية هذا الجدل، أوقف الاتحاد الدولي لألعاب القوى (IAAF) كاستر سيمينيا لمدة عام، وبعد عودتها استمر التشكيك في كونها امرأة وباتت هويتها الجندرية عقبة في مشوارها الرياضي الذي صار مشحونًا بالقضايا والأحكام والاستئنافات، إلى أن أدخل الاتحاد الدولي لألعاب القوى تعديلات على لوائحه في العام ۲۰۱٨ لتنص على أن الرياضيات ممن لديهن مستوى هرمون التستوستيرون أعلى من خمسة نانومل يتعين عليهن تقليل مستواه (عن طريق العمليات الطبية أو تناول أدوية بعينها) إذا أردن خوض سباقات الجري من ٤۰۰ متر إلى ميل واحد.

ما تثيره قصة كاستر سيمينيا عن تعريف المرأة ومن بيده وضع الشروط التي تحدد من هي المرأة في عالم الرياضة، هو أحد المحاور الرئيسة التي يدور حولها وثائقي «التصنيف: امرأة» للمخرجة الكندية فيليس إليس الذي صدر في العام ۲۰۲۲، وتعرضه حاليًا منصتا (Peacock) و(Vimeo).

يناقش الفيلم على مدى ساعة وست عشرة دقيقة قضيـة التمييز الممنهج الذي تتعرض له الرياضيات العداءات، لا سيما أولئك اللاتي ينتمين إلى دول الجنوب العالمي، من جراء اختزال تاريخي لـــ «المرأة» فيمن تمتلك جسمًا يستوفي معايير الأنوثة التي كرست إليها الثقافتين الاستعمارية والذكورية.

يسلط الفيلم الوثائقي الضوء على قصص خمس رياضيات تعرّضن لظلم مركب بسبب أجسامهن التي تخالف المعايير النمطية للجسم الأنثوي واختبارات التحقق من الجنس أو الأهلية الجندرية التي يفرضها الاتحاد الدولي لألعاب القوى، وهن: كاستر سيمينيا من جنوب إفريقيا، وديوتي تشاند من الهند، وأنيت نيغيسا من أوغندا، ومارغريت وامبوي وإيفانجلين ماكينا من كينيا.

خلال الدقائق الأولى من الفيلم تستعرض المخرجة فيليس إليس ما تعرضت له كاستر سيمينيا من وصم اجتماعي واتهامات بالاحتيال والتضليل، لأن مستواها ونتائجها كانا باهرين إلى حدٍ رفض كثيرون في عالم الرياضة أن يصدقوا أن امرأة سوداء يمكنها بلوغه.

التحقق من الجنس والرقابة العنصريـة في ألعاب القوى

تكثف المخرجة فيليس إليس تركيزها على الأبعاد العرقية لمسألة التشكيك في جنس الرياضيات المتميزات، ويبرز هذا في تعليقات الخبيرات والخبراء ومن بينهن موديتامبي رافيلي، مؤسسة ورئيسة منظمة النساء والرياضة في جنوب إفريقيا (SAWASF) التي تعتقد أنه لو كانت كاستر سيمينيا امرأة أوروبية لما واجهت تشكيكًا في هويتها، مشددةً على أن الهدف من ذلك هو إلغاء ما حققته اللاعبة الجنوب إفريقية من إنجازات وحرمانها من أن تكون بطلة رياضية.

في السياق ذاته، تعلق بايوشني ميترا لاعبة تنس الريشة الهندية السابقة وإحدى أبرز الناشطات الرياضيات اللاتي يسعين إلى إلغاء اختبارات التحقق من الجنس والأهلية الجندرية، إذ تلخص الجدل الذي أحاط بكاستر قائلة «عندما تكون رجلاً وتلعب بشكلٍ استثنائي، تُصبح الرجل الخارق (Superman)، أما المرأة التي تلعب على نحو استثنائي، فيجب أن تكون رجلًا.»

“أثناء مشاركتي في السباقات، كان دائمًا في ذهني أنني قد أتعرض للإيقاف.”

مارغريت وامبوي

تعرفنا المخرجة فيليس إليس إلى العداءة الكينية مارغريت وامبوي التي حصدت عددًا من الميداليات الذهبية والفضية بين العامين ۲۰۱٤ و۲۰۱٧، قبل أن يتوقف مشوارها في العام ۲۰۱٩ حين استبعدها الاتحاد الكيني لألعاب القوى من الفريق الوطني استجابة للوائح التي أقرها الاتحاد الدولي بشأن حتمية خفض مستوى هرمون التستوستيرون لدى اللاعبات اللاتي يعانين من فرط الأندروجين.

تكشف مارغريت أنها حتى خلال سنوات نشاطها كانت تعيش تحت تهديد مستمر بالإيقاف، وتستعيد واقعة إخبارها على لسان مسؤول رياضي كيني بأن الاتحاد الدولي لألعاب القوى قد يمنعها من المشاركة في مسابقات الجري بسبب مظهرها الجسدي، ومن ثم صار الإيقاف هاجسًا يطاردها في كل وقت.

الاتحاد الكيني لألعاب القوى فعل الأمر ذاته مع العداءة إيفانجلين ماكينا بعد أن أظهرت اختبارات الأهلية الجندرية التي ألزمها بالخضوع إليها ثمة ارتفاع في مستوى هرمون التستوستيرون.

“أعتقد أنني هنا فقط كشيء. لقد دمروا حياتي.”

أنيت نيغيسا

تخصص المخرجة فيليس إليس مساحة أكبر لقصة العداءة الأوغندية أنيت نيغيسا التي تعد أول رياضية تخرج إلى العلن وتتحدث عن خضوعها لجراحة إزالة جزئية للبظر والغدد التناسلية بضغط من الاتحاد الوطني لألعاب القوى بدعوى أن ذلك سيخفض مستوى هرمون التستوستيرون لديها، ومن ثم تستطيع أن تشارك في أولمبياد لندن التي انعقدت في صيف العام ۲۰۱۲، إلا أن تداعيات العملية حرمتها من المشاركة في البطولة وأي بطولات تالية.

قبل العملية، استطاعت أنيت أن تحقق العديد من الألقاب في مسابقات الناشئات الوطنية والإقليمية والدولية، وكانت شتى المؤشرات تنبئ بمستقبل كبير لهذه اللاعبة على منصات التتويج الدولي، إلا أن اختبارات الأهلية الجندرية جاءت بمعاولها لتقطع الطريق أمامها بعد أن أبرزت النتائج ارتفاع مستوى هرمون التستوستيرون عن المعدل الذي تعتبره لوائح الاتحاد الدولي لألعاب القوى مقبولًا للجسم الأنثوي الذي يمكّنه المشاركة في المسابقات النسائية.

يكشف الفيلم أن البطلة الأوغندية السابقة تأثرت جسديًا ونفسيًا بسبب العملية، فقد انفض من حولها كل من كانوا يدفعونها نحو الخضوع إليها، بعد أن فقدت القدرة على الركض والمنافسـة في المسابقات كما كان في السابق، فضلًا عن اضطرارها إلى اللجوء إلى ألمانيا لخوفها من العودة إلى بلادها وقريتها حيث بات كثيرون يشككون في هويتها كامرأة، إذ تعتقد أنيت إلى حد اليقين أن الموت قتلًا سيكون مصيرها إذا عادت إلى أوغندا.

الأضرار الاجتماعية التي تلحق بالرياضيات بعد نشر معلومات وتفاصيل شديدة الخصوصية بشأن تاريخهن الطبي والبيولوجي تؤكدها الناشطة الرياضية بايوشني ميترا باعتبارها شاهدةً على ذلك من خلال مرافقتها لأنيت وغيرها من اللاعبات التي واجهن الأمر نفسه، فتقول «أنا أسافر معهن، أنا أسير معهن في الطرق، أنا أرى كيف يتصرف الناس حينما تصبح هويتهن الجندرية محل تشكيك ويتعرضن للإذلال في العلن. البشر لا ينسون.»

“الناس الذين اعتادوا أن يأكلوا معي بدأوا يسخرون مني، ويعلقون على هويتي. الناس أضحوا يظنون أن ديوتي ليست امرأة، بل رجلًا، وأنني اعتدت تزوير هويتي الجندرية لكي أتنافس مع النساء.”

ديوتي تشاند

لاعبة أخرى منعها مستوى هرمون التستوستيرون من خوض سباقات ألعاب القوى وهي الهندية ديوتي تشاند التي قرر الاتحاد الهندي لألعاب القوى إيقافها قبل السفر للمشاركة في ألعاب الكومنولث التي تنعقد كل أربع سنوات، بعد أن ألزمها بإجراء اختبارات الأهلية الجندرية على خلفية شكايات تقدمت بها لاعبات أخريات كان مضمونها أنها «تركض مثل الرجال.»

بعد أن أصدر الاتحاد الوطني قرارًا بإيقافها بذريعة الفشل في تجاوز اختبارات الأهلية الجندرية، رفضت ديوتي أن تمضي في مسار العمليات الجراحية وآثرت الطعن أمام محكمة التحكيم الرياضي الدولية على القرار بوصفه غير عادل وينطوي على تمييز وخرق للخصوصية، وقد جرى ذلك قبل تعديل لوائح الاتحاد الدولي لألعاب القوى ولهذا أوقفت المحكمة القرار ومكنت ديوتي من العودة إلى خوض المنافسات الرياضية، إلا أن ذلك استمر فقط حتى العام ۲۰۱٨ حينما أصبح خفض مستوى هرمون التستوستيرون لدى الرياضيات اللاتي لديهن أعراض فرط الأندروجين (Hyperandrogenism) إلزاميًا ولس اختياريًا بموجب اللوائح الجديدة.

تاريخ اختبارات التحقق من الجنس في الرياضة الدولية

يستعرض فيلم «التصنيف: امرأة» تاريخ اختبارات التحقق من الجنس التي صارت فيما بعد اختبارات الأهلية الجندرية التي تخضع إليها كثير من الرياضيات قسـرًا كشرط لخوض المسابقات الدولية، ويعيدنا الفيلم إلى أول حادثة تشكيك في جنس لاعبة، التي وقعت في خلال فعاليات أولمبياد برلين في العام ۱٩۳٦، بعد أن خصصت الصحافة الرياضية الغربية جزءًا كبيرًا من تغطياتها للدورة الأولمبية لطرح تساؤلات حول هوية العداءة الأمريكية هيلين ستيفنز الفائزة بالميدالية الذهبية لسباق مئة متر بسبب مظهرها وسرعتها، وهو ما أسفر عن اتخاذ اللجنة الأولمبية الدولية قرارًا بإجراء فحص للاعبة للتأكد من جنسها ثم إعلام الرأي العام بالنتيجة.

في أعقاب الحرب العالمية الثانية والدخول إلى حقبة الحرب الباردة، صارت أجسام الرياضيات ساحة من ساحات المعارك السياسية، وتحوّل «التشكيك في جنس الرياضيات» إلى سلاح سياسي، إذ ازدادت حملات التشكيك في جنس لاعبات الاتحاد السوفيتي مع تواصل إنجازاتهن الرياضية وصعودهن المتكرر إلى منصات التتويج الدولي.

يتتبع الفيلم المسار الذي أدى إلى تحوّل اختبارات التحقق من الجنس إلى إجراء إلزامي منذ العام ۱٩٦٦، وتوضح أليسون كارلسون المؤسسة الشريكة لمجموعة العمل الدولي على اختبارات التحقق من الجنس في الرياضة، أن حضور اللاعبات في الدورات الأولمبية أضحى مشروطًا بالمشاركة فيما أشبه بالمواكب التي يسرن فيها عاريات أمام الأطباء الذين يمعنون النظر في أجسامهن ليتأكدوا من أنهن لا يمتلكن العضو الذكري (القضيب).

منذ العام ۲۰۰۰ صارت الاتحادات الدولية أكثر تركيزًا على مستويات هرمون التستوستيرون لدى النساء اللاتي يرغبن في المشاركة في المسابقات الدولية وفي مقدمتها الألعاب الأولمبية.

الطب والرياضة بوصفهما أدوات لتعزيز التراتبية الجندرية والعرقيــة

الميزة الأهم في فيلم «التصنيف: امرأة» هي جودة وعمق التحقيق الذي أجرته المخرجة فيليس إليس لسبر أغوار الدور الذي تلعبه العنصرية في جعل بعض الرياضيات أكثر عرضةً للتشكيك في هويتهن كنساء من غيرهن، واستكشاف ارتداداته على المواقف التي تتبناها مؤسسات دولية مثل الاتحاد الدولي لألعاب القوى في تعاملها مع الرياضيات في دول الجنوب العالمي، ومن بينها استهدافهن باختبارات الأهلية الجندرية وقواعد تنظيم مستوى هرمون التستوستيرون التي قلما تصيب سهامها الرياضيات في دول الشمال لا سيما ذوات البشرة البيضاء.

بالإضافة إلى ذلك، لا يقدم البناء السردي للفيلم العداءات الخمس ضحايا على طول الخط، وإنما يبرز مقاومتهن المتواصلة التي قد تتجلى في الإصرار على الدفاع عن حقهن في خوض السباقات، وقد تتجسد أيضًا في المثابرة من أجل كشف الانتهاكات الجسدية التي ترتكبها المؤسسات الرياضية الوطنية والدولية بحق الرياضيات تحت شعار «العدالة والنزاهة الرياضية.»

في المقابل، هناك مشكلة في تحليل الفيلم لأبعاد القضية تتمثل في تجنب الربط بين الانتهاكات الممنهجة التي تواجهها الرياضيات في دول الجنوب، والتاريخ الطويل للتمييز الطبي والتشريحي ضد صاحبات البشرة الملونة اللاتي عوملت أجسادهن على مدى قرون باعتبارها نسخًا مشوهة للجسد البشري أولًا والجسد الأنثوي ثانيًا، وهو إرث لا يمكن إغفاله إذا ما أردنا فهم جذور المعاناة التي تكابدها الرياضيات اللاتي يدور حولهن الفيلم.