دم الحيض: من سائل فاسد لا فائدة منه إلى فرصة فريدة وقليلة التكلفة للكشف عن الأمراض
أسفر الوصم والاشمئزاز الاجتماعيين الذين اقترنا بالحيض في العقل الجمعي إلى ربط دمائه بالفساد وانعدام الجدوى، وتلاقت هذه الفكرة الاجتماعية المُؤيّدَة بمعتقدات دينية مع المزاعم التي تسيَّدت لقرون البحث الطبي عن أن جسم الرجل هو معيار الجسم البشري. وعلى خلفية هذا التشابك، صار الدم الوريدي هو الأساس في التجارب السريرية التي تهدف إلى تطوير آليات الكشف عن الأمراض وتوّقعها واختبار فعالية طرق العلاج أو تطوير علاجات بديلة.
لكن ثمة انفتاح على التعاطي مع دم الحيض باعتباره دمًا ذا قيمة يمكن الاستفادة منه لا مجرد سائل فاسد يجب التخلص منه، بدأت تظهر تجلياته في خلال العقد الأخير حينما بادرت مؤسسات بحثية بإجراء دراسات تستهدف تحديد مدى إمكانية الاعتماد على دم الحيض في التشخيص المبكر لمروحة واسعة من الأمراض مثل سرطان عنق الرحم، وبطانة الرحم المهاجرة، والتهابات الغدد الصماء، والاضطرابات الأيضية وعلى رأسها داء السكري.
ومما لا شك فيه، فقد ساهم الخطاب النسوي الذي أعطى أولوية لقضية العدالة الحيضية وإزالة الوصم عن دم الحيض والمنتجات المرتبطة به على مدى الخمسين عامًا الماضية في تشجيع العديد من العلماء على إعادة النظر في الجدوى الطبية لدم الحيض والبدء في فحصه للتعرف إلى كوامنه. وفي تفسيرهم لموقفهم، يستند العلماء المؤديون لاستخدام دم الحيض في التجارب السريرية إلى مسألة احتوائه على خلايا جذعية قادرة على إنتاج نسخ مطابقة لها وكذلك التحوُّل إلى أنواع أخرى من الخلايا تؤدي وظائف مختلفة، مما يؤهله إلى أن يكون وسيلة للكشف عن الأمراض وتقييم فعالية العلاجات المحددة لها. كما أن دم الحيض يحظى بميزة إضافية على الدم الوريدي وهي توفره شهريًا من دون الحاجة إلى الوخز بالإبر الطبية التي تحتاج إلى متخصصات ومتخصصين مدربين على سحب الدم باستخدامها.
دمُ الحيض أيضًا قد يكون وسيلةً لتشخيص التهابات بطانة الرحم المهاجرة التي تعاني منها واحدة من كل عشر نساء في الفئة العمرية بين ۱۵ و٤٩ عامًا، مما يعني أن الخضوع إلى عمليات جراحية مرهقة ومؤلمة ومكلفة ماديًا لن يكون هو السبيل الوحيد أمام المرأة للتحقق من الإصابة ببطانة الرحم المهاجرة، وهذا ما ترجحه النتائج الأولية لتجارب تجريها كريستين ميتز الباحثة في مجال الطب الحيوي في معاهد فينشتاين للأبحاث الطبية في نيويورك على عينات دم جمعتها من كؤوس حيض واسفنج استخدمتها نحو ۲۰۰۰ امرأة وفتاة.
في السياق ذاته، كشفت الصحافية الاستقصائية مادي عثمان في أحد تحقيقاتها لمجلة ماذر جونز (Mother Jones) الأمريكية عن اتجاه بعض العالمات والعلماء لاستخدام دم الحيض في تجاربهم على الجهاز التناسلي الأنثوي، بغية الحصول على تصور كامل لما يحدث في داخل الرحم وحالته الصحية بعيدًا عن المناظير والخزعات الباضعة التي تشمل إدخال أدوات عبر الجلد لأخذ عينة من الأنسجة أو الخلايا لفحصها تحت المجهر. وبحسب الصحافية مادي عثمان، فإن جمع عينات دم الحيض لإجراء هذه التحاليل سيتم في المستقبل عن طريق تسليم المرأة فوطة صحية استخدمتها خلال الحيض إلى المختبر على غرار العينات البيولوجية التي يجلبها الأفراد إلى المعامل كالبول أو خصلات الشعر أو الأظافر.
ومع أن هذه التجارب تنبئ بأننا على أعتاب مرحلة جديدة في التعاطي الطبي مع دم الحيض، قد يتحقق بفضلها تقدم كبير في إطار حقوق النساء الصحية، إلا أن مسألة تضييق الفجوة الصحية بين النساء خاصةً على صعيد فرصهن في الكشف المبكر عن الأمراض والحصول على العلاج ربما تظل بعيدة عن هذا التقدم في ظل الاعتماد على جمع عينات الفحص والتحليل عن طريق كؤوس الحيض أو السدادات القطنية والفوط الصحية، لأن ذلك يستدعي ذهاب النساء إلى المختبرات وهو الأمر الذي يتوقف على قدرتهن على الحركة والتنقل التي قد تعوقها ظروفهن الاقتصادية، فضلًا عن الوصم الاجتماعي الذي يحيط بالحيض وقد يكون سببًا في صرف كثير من النساء عن التوجه إلى المختبرات وبحوزتهن فوطة صحية أو سدادة قطنية عليها دمهن لكي يعطينها إلى أخصائي أو فني ليقوم بفحصها.
ومع ذلك، هناك بريق أمل قد بدأ يلوح في الأفق بشأن إمكانية تجاوز هذه الإشكاليات خلال السنوات المقبلة، وذلك عقب إعلان المعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا في زيورخ قبل أسابيع قليلة أن باحثات وباحثين فيه استطاعوا تطوير أول تقنية تعمل بالذكاء الاصطناعي بإمكانها رصد المؤشرات الحيوية في دم الحيض مباشرةً من فوط صحية مدمج فيها شرائط اختبار ذكية، وستزيل هذه التقنية عن كواهل النساء العبء المادي والمعنوي للذهاب إلى المختبرات لمعرفة النتائج إذ يمكنهن تحميل صورة للفوطة بعد امتصاصها للدم عبر تطبيق هاتف ذكي مدعوم بالذكاء الاصطناعي ومعد خصيصًا لتفسير البيانات الصحية التي تقرأها الشرائط الذكية.
وقد أزاح المعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا الستار عن تقنية (Menstrual AI) بالتزامن مع إصدار فريق البحث دراسته المعنونة بـ«جهاز تشخيصي مُدمَج في الفوط الصحية للكشف عن المؤشرات الحيوية للأمراض في دم الحيض» التي أظهرت نتائجها أن دم الحيض يتشابه كثيرًا مع الدم الجهازي (الدم الذي ينتقل من القلب إلى جميع أنحاء الجسم عبر الشريان الأورطي والأوعية الدموية الأصغر ثم يعود إليه عبر الأوردة) في محتوى البروتينات، ومن ثم يمكن إخضاعه لتحليل البروتينات الجزيئي الذي يشمل تحديد هوية البروتينات، وقياس كمياتها، وتحديد وظيفتها والتفاعلات فيما بينها، مما يساعد على تشخيص الأمراض وتطوير علاجات جديدة لها. وقد توصل فريق البحث إلى وجود ۳٨۵ بروتينًا فريدًا في دم الحيض مما يوّفر فرصة كبيرة لمتابعة صحة النساء بشكل دوري.
تحلل تقنية (Menstrual AI) البيانات الصحية عبر خطوتين؛ الأولى تحدث في الشرائط الذكية التي تشمل مؤشرات استشعار تحدد اتجاهات البروتين المتفاعل (CRP) ومستضد السرطان الجنيني (CEA) ومستضد السرطان ۱۲۵ (CA 125) بالإضافة إلى بطانة الرحم المهاجرة، أما الخطوة الثانية فتجري في تطبيق الهاتف الذكي بعد تحميل صورة للشرائح، حيث يقوم بعملية تحليل شبه كمي للمؤشرات باستخدام الخوارزميات التي تفسر بدقة ألوان الشرائط المتغيّرة، بناءً على ما تغذّى عليه نموذج التعلم الآلي من صور للشرائح الذكية يصل عددها إلى ۵٤٩ صورة تم التقاطها في ظروف إضاءة وزوايا مختلفة لضمان صحة النتائج بأكبر قدر ممكن.
يعتقد فريق البحث المسؤول عن تطوير تقنية (Menstrual AI) أنها ستغير حيوات النساء والفتيات إلى الأفضل، وستجعل متابعة المؤشرات الحيوية في الدم أمرًا سلسًا وبسيطًا وممارسة غير شاقة بغض النظر عن الفروق الاقتصادية والاجتماعية وتباين الموقع الجغرافي الذي يؤثر على إمكانية الوصول إلى المختبرات والمستشفيات. لكن يبقى أيضًا هذا التصور محل شك في ضوء استمرار الفجوة بين الجنسين في امتلاك الأجهزة الذكية واستخدام الإنترنت الخلوي، التي ترجع إلى التفاوتات في التعليم والدخل فضلًا عن القيود الأسرية، فوفقًا للتقديرات العالمية لا تزال النساء أقل امتلاكًا للهواتف النقالة من الرجال بنسبة ٨ في المئة وأقل استخدامًا للأجهزة الذكية والإنترنت الخلوي بنسبة تصل إلى ۲۰ في المئة، بينما تزداد الفجوة اتساعًا في الدول منخفضة ومتوسطة الدخل المتركزة في الجنوب العالمي.
الصور المرفقة مصممة بتقنية الذكاء الاصطناعي عبر MS AI Image Generator