باسم القيم والثوابت: حكومات وأحزاب اليمين تصعِّد حربها على الدراسات النسوية وبرامج النوع الاجتماعي في الجامعات
بدأ اعتماد دراسات النساء والدراسات النسوية كبرامج أكاديمية في ستينيات القرن الماضي، وتشير كثير من المصادر إلى أن البداية كانت في الولايات المتحدة الأمريكية حيث اعتمدت جامعة كورنيل في العام ۱٩٦٩ أول مادة دراسية تحمل اسم تطور الشخصية الأنثوية (The Evolution of Female Personality) التي مهدت الطريق لتدشين برنامج تجريبي في العام التالي باسم دراسات الأنثى (Female Studies)، قبل أن تدشن الجامعة برنامجًا متكاملًا باسم دراسات النساء (Women’s Studies).
في البداية كانت المناهج الخاصة ببرامج دراسات النساء تُصَاغ بأيدي أكاديميات من تخصصات مختلفة كعلم الاجتماع والتاريخ والعلوم السياسية يجمعهنّ الانخراط في الحراك النسوي أو يتفقن مع مبادئ الفكر والتنظير النسوي، وقد سعين إلى أن تعرّف المناهج الطالبات والطلاب إلى التاريخ الوطني السياسي والاجتماعي والثقافي من زاوية غير تقليدية تعترف وتستعرض مساهمات النساء وتحلل تداعيات الأحداث المحورية عليهن.
البرامج التي عُرِفَت باسم دراسات النساء لازمتها إشكالية الاستبعاد والتهميش لتاريخ وتجارب ومساهمات النساء الملونات، ونساء الشعوب الأصلية، ونساء الأقليات الدينية والجندرية، وبالقطع نساء الجنوب العالمي والحركات الاجتماعية والسياسية التي شكّلنها وقدنها لتحقيق الكثير لصالحهن ولصالح مجتمعهن وبيئتهن. لكن المراجعة المستمرة والنقد الذاتي الذين رافقا هذا التخصص على مدى العقود الخمسة الماضية أسفر عن بعض التغيير الذي أدى إلى تطوير المناهج لتنطلق من منظور نسوي تقاطعي أكثر شمولًا يدمج بين النظريات النسوية والنظريات السياسية والاجتماعية والفلسفية مثل نظرية العرق النقدية، ونظرية مناهضة الاستعمار، ونظريات التحليل النفسي، ونظريات التحليل الثقافي. وفي هذا الإطار غيرت العديد من الجامعات حول العالم الاسم الشائع لهذه البرنامج من دراسات النساء إلى دراسات النوع الاجتماعي والجنسانية (Studies in Gender and Sexuality).
في الثمانينيات، تمددت البرامج الأكاديمية للدراسات النسوية ودراسات النوع الاجتماعي والجنسانية نحو أمريكا اللاتينية وإفريقيا وآسيا، إلا أن العقدين الأخيرين على وجه التحديد شهدا زيادة في تدشين برامج دراسات النوع الاجتماعي الأكاديمية في دول الجنوب العالمي، مع الأخذ في الاعتبار أن معظمها كان ولا يزال برامج للدراسات العليا فقط لا تتصل ببرامج تمهيدية في التخصص ذاته لمرحلة البكالوريوس، على عكس الحال السائدة في دول الشمال.
ورغم تزايد أعداد برامج دراسات النوع الاجتماعي الأكاديمية في دول الجنوب، لا سيما دول أمريكا اللاتينية وإفريقيا، تظل البرامج المماثلة في الجامعات الأوروبية وجامعات أمريكا الشمالية سواء كانت برامج بكالوريوس أو برامج للدراسات العليا أكثر جذبًا للطالبات والطلاب من كل الأرجاء، لأنها ذات تاريخ أطول وترتكز إلى مناهج أكثر انفتاحًا تجاه دراسة وتحليل التقاطعات القائمة بين النوع الاجتماعي والجنسانية من ناحية والسلطات القمعية بما فيها السلطة السياسية والدينية والمجتمعية من ناحية أخرى. ومع ذلك فإن هذا الامتياز الذي تتمتع به برامج النوع الاجتماعي في جامعات دول الشمال يواجه تهديد الزوال في ظل تصعيد الخطاب المعادي لهذه البرامج الأكاديمية من جانب جماعات اليمين المتطرف التي تحقق مكاسب لافتة خلال السنوات الأخيرة في مختلف أنحاء العالم إما بالفوز في الاستحقاقات الانتخابية وإما بتحقيق مراكز متقدمة في استطلاعات الرأي.
وقد برز إلغاء برامج النوع الاجتماعي الأكاديمية كأحد الوعود الانتخابية ذات الأولوية لأحزاب اليمين المتطرف، وشرع من استطاع منها تحقيق الفوز في تنفيذ وعده مثل حزب فيدس القومي اليميني في المجر الذي فاز بالانتخابات التشريعية في العام ۲۰۱٨، وأصدرت حكومته في العام ذاته قرارًا بحظر منح درجتي الماجستير والدكتوراة في دراسات النوع الاجتماعي وإلغاء اعتماد جميع برامج دراسات النوع الاجتماعي في اثنتين من أكبر الجامعات في المجر وهما جامعة إيتفوس لوراند وجامعة أوروبا الوسطى، وقد تعرضت الأخيرة بسبب احتجاجها الحاد على القرار الحكومي إلى حملة هجوم واسعة عبر وسائل الإعلام الوطنية وتطبيقات التواصل الاجتماعي دفعتها في النهاية إلى نقل مقرها إلى دولة أوروبية أخرى وهي النمسـا.
ومع أن هذه الخطوة قوبلت باستهجان من جامعات عديدة في شتى أنحاء أوروبا، إلا أن ثمة مخاوف داخل الأوساط الأكاديمية من أن تحذو حذو المجر دول أخرى في المنطقة، ومن أبرزها ألمانيا التي تواجه فيها برامج دراسات النوع الاجتماعي والدراسات النسوية الأكاديمية هجومًا متصاعدًا من حزب البديل من أجل ألمانيا (AFD) المنتمي إلى تيار اليمين المتشدد والذي حل في المرتبة الثانية في نتائج الانتخابات الفيدرالية التي انعقدت خلال الربع الأول من العام الجاري رغم حداثته إذ لم يتجاوز وجوده في الساحة السياسية الألمانية ۱۲عامًا.
وكانت رئيسة الحزب أليس فايدل قد صرحت قبيل الانتخابات الأخيرة بمعارضتها التامة لبرامج النوع الاجتماعي الأكاديمية متعهدةً بإغلاق أي مركز لدراسات النوع الاجتماعي والجنسانية في حال تمكّن حِزبها من الفوز بالانتخابات وقيادة الحكومة، كما كشفت رئيسة حزب البديل من أجل ألمانيا عن نيتها في طرد جميع الأكاديميات والأكاديميين المتخصصين في هذا المجال.
الحرب على برامج الدراسات النسوية ودراسات النوع الاجتماعي والجنسانية تبدو أكثر حدة في الولايات المتحدة الأمريكية التي أضحت نظرية النوع الاجتماعي ودراستها في المدارس والجامعات أحد القضايا الجوهرية في الصراع السياسي بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري. وبيد أن الحزب الجمهوري معروف بمناهضته لتخصيص مساحات دراسية للنوع الاجتماعي والمفاهيم والقضايا المرتبطة به، لكن العداء تحول إلى حرب شعواء نتيجة التقارب المتزايد بين الحزب وجماعات اليمين المتشدد التي تعتبر أن دراسات النوع الاجتماعي هي جزء من عملية إفساد للمجتمع وزعزعة لثوابت الدين والأسرة يقودها التيار الليبرالي.
أدت هذه الحرب إلى إلغاء برامج النوع الاجتماعي في عدد من الجامعات والكليات الأمريكية مثل كلية فلوريدا الجديدة التي أعلنت في العام ۲۰۲۳ وقف برنامجها لدراسات النوع الاجتماعي، ولم يقتصر القرار على وقف التسجيل وإلغاء المحاضرات، بل شمل إزالة جميع الكتب والمواد ذات الصلة بالبرنامج من مكتبة الكلية والساحات المفتوحة للطالبات والطلاب. وقد جاءت هذه الخطوة ضمن تغييرات أوسع تجري في ولاية فلوريدا تحت قيادة حاكم الولاية الجمهوري رون ديسانتيس المعروف بميوله اليمينية المتشددة والذي ساند بقوة تشريعًا محليًا يحظر التخصصات الجامعية الخاصة بدراسات النوع الاجتماعي ودراسات العرق.
وفي ولايات كانساس وأيوا ووايومنغ المعروفة بدعمها الصلب للحزب الجمهوري وأيديولوجية التيار اليميني، تعمل الجامعات في الوقت الحالي على تقليص برامج دراسات النوع الاجتماعي والجنسانية، إذ صوتت جامعة وايومنغ لصالح إلغاء تخصص البكالوريوس في دراسات النساء والنوع الاجتماعي، بينما تقترب جامعة أيوا من الحصول على موافقة مجلس الأمينات/الأمناء على حل برنامجها للدراسات النسوية الذي يعد واحدًا من أقدم البرامج في هذا التخصص على مستوى العالم، فقد امتدت سنوات نشاطه الأكاديمي إلى خمسين عامًا.
تواجه كذلك برامج النوع الاجتماعي الأكاديمية في كندا تهديدات الإغلاق أكثر من أي وقت مضى، وقد تحول التهديد إلى حقيقة واقعة في جامعة يورك التي أعلنت في فبراير الماضي إيقافًا مؤقتًا للتسجيل في 18 برنامجًا جامعيًا، أبرزها برنامج دراسات النوع الاجتماعي، بدعوى انخفاض معدلات التسجيل بها والحاجة إلى تحقيق الاستدامة المالية في ظل تراجع ميزانيات الجامعات، إلا أن هناك شواهد تشي بأن أسباب الإيقاف لا تخلو من الدوافع السياسية، فقرار الإيقاف لم يطل سوى التخصصات الثقافية خاصةً تلك التي يعارضها التيار اليميني كبرامج دراسات الشعوب الأصلية ودراسات التاريخ والعدالة العالمية.
على ما يعوّل الحراك المعادي لبرامج النوع الاجتماعي في حربه؟
تسعى الحركات المناهضة للبرامج الأكاديمية المختصة بالدراسات النسوية ودراسات النوع الاجتماعي والجنسانية إلى التشكيك في الشرعية السياسية والعلمية لها، ويمكن فهم الأبعاد الأكبر لهذه المساعي بالتدقيق في الإطار السياسي المحيط بها، إذ ترتبط الحرب الحالية على هذه البرامج بتنامي الشعبوية اليمينية التي تعتبر المعرفة المُنتَجة في مجال دراسات النوع الاجتماعي تهديدًا لسلطة العائلة والدين والقومية البيضاء، وقد تجسد ذلك بوضوح في إعلان الحكومة المجرية على لسان وزيرها للشؤون البرلمانية في وزارة الموارد البشرية بينس ريتفاري أن برامج النوع الاجتماعي الأكاديمية تشكل تهديدًا للقيم المسيحية والعائلية التقليدية التي تدعمها الحكومة وتعمل من أجل حمايتها.
في كل الوقائع المشار إليها آنفًا، اعتمدت الحكومات على التمويل كسلاح حاسم في حربها على برامج النوع الاجتماعي، فقد كان الحرمان من التمويل أداة رئيسة أو تكميلية لإرغام الجامعات على إيقاف برامج دراسات النوع الاجتماعي، وفي كندا على وجه التحديد مثّل خفض ميزانيات الجامعات في العديد من المقاطعات بالتوازي مع زيادة الدعم الحكومي للتخصصات الجامعية الأكثر طلبًا في سوق العمل على حساب التخصصات ذات البعد السياسي والثقافي عاملين حاسمين في إلغاء العديد من البرامج الأكاديمية لدراسات النوع الاجتماعي.
لا تستند الجماعات التي تقف وراء الحرب المستعرة على برامج النوع الاجتماعي الأكاديمية إلى آلة الدولة وقوة السلطة فقط، وإنما تعتمد كذلك على التعبئة الفكرية من خلال التسويق عبر بعض المساحات الإعلامية التقليدية والإلكترونية إلى أن الدراسات النسوية ودراسات النوع الاجتماعي جزء من أيديولوجية أوسع تهدف إلى فرض قيم متطرفة على المجتمع، إلا أن الخطاب الديني يظل أقوى وسيلة بالنسبة لهذه الجماعات للهيمنة فكريًا وعقائديًا على بقية المجتمع، وقد أسهمت ولا تزال المؤسسات الدينية بسردياتها العدائية إزاء المساواة بين الجنسين والتعددية الجندرية في إضفاء شرعية على الحرب ضد برامج النوع الاجتماعي، ويعد تصريح البابا فرانسيس قبل تسع سنوات بأن ما يسمّى بأيديولوجية النوع الاجتماعي هو أخطر أشكال الاستعمار الأيديولوجي أحد أبرز المسوغات التي تعتمد عليها الحركات المناهضة لدراسات النوع الاجتماعي.
مع تحقيق اليمين المتطرف نجاحات في معاركه الأخيرة الرامية إلى إنهاء وجود برامج دراسات النوع الاجتماعي، بدأت الرقابة الذاتية تشق طريقها إلى المؤسسات الأكاديمية التي لم يطلها التهديد المباشر، ومن ثم قررت العديد من الجامعات والكليات إعادة تقييم برامجها لدراسات النوع الاجتماعي وحذف بعض الموضوعات من مناهجها خاصةً المرتبطة بقضايا الإجهاض والعبور الجندري، بينما دمجت جامعات أخرى برامج دراسات النوع الاجتماعي في برامج أخرى مثل علم الاجتماع، والسياسة العامة، والسياسات الدولية، والتاريخ، وعلم الإنسان (الأنثروبولوجيا)، والأدب.
لا مراء في أن هذه الاستراتيجيات تُعبّر عن حالة من التراجع بعد سنوات من النشاط والنضال من أجل إدخال تخصص أكاديمي لدراسة النظريات النسوية ونظريات النوع الاجتماعي ليكون رافدًا من روافد التغيير، من خلال مساعدة الطالبات والطلاب الجامعيين على فهم أبعاد وجذور العنف الذي يستهدف الأفراد بناء على الهوية الجندرية، وإدراك التفاصيل اليومية التي تعكس الثقافة التمييزية والعنصرية وتكرس إليها، والتعرف إلى سبل مقاومة التمييز على أساس النوع وكيف يتأثر تطبيقها باختلاف المكان والزمن والطبقة والبيئة ونظم الحكم السياسية والاقتصادية. ولكن برغم تلك الحالة التي لا يمكن إنكارها فإن مثل هذه الإجراءات تجسد في الوقت ذاته التحدي والممانعة وتؤكد رفض الاستسلام.
*الصورة الرئيسـة حاصلة على رخصة المشاع الإبداعي