تطوقهن السموم ويحاصرهن العنف الجنسي: أثمان تتكبدها العاملات بمناجم الذهب في إفريقيا
تستحوذ القارة الإفريقية على ما يصل إلى ۲۵% من إجمالي الإنتاج العالمي للذهب، الذي يتركز في إقليمها الغربي، وتهيمن مجموعة من الشركات الأجنبية على عمليات التعدين الجارية هناك مستغلةً هشاشة المنظومة القانونية في دول هذه المنطقة وضعف حكوماتها التي غالبًا ما تُعلِي مصالحها الخاصة على مصالح شعوبها، فضلًا عن النزاعات الداخلية المسلحة التي يرتبط بعضها بالذهب والصراع من أجل الاستحواذ على مصادره، وهي الحالة التي تستفيد منها حكومات الدول الكبرى المسيطرة أو الحامية لشركات التعدين الأجنبية العاملة في إفريقيا.
تشهد معظم دول منطقة إفريقيا جنوب الصحراء عمليات تنقيب عن الذهب تديرها بشكل مباشر وغير مباشر شركات تعدين الذهب الكبرى في العالم، ومعظمها أمريكي وكندي وبعضها بريطاني وفرنسي، إلا أن شركات روسية الجنسية بدأت مؤخرًا في الدخول على الخط وعلى رأسها شركة لوباي إنفست سارلو (Lobaye Invest Sarlu) التابعة لمجموعة فاغنر العسكرية.
وتتعامل هذه الشركات مع حركات محلية مسلحة لحماية مصالحها والمناجم التي تنقب فيها، بينما تغيب رقابة الحكومات الوطنية عن المشهد بدرجة كبيرة، مما يترتب عليه خروج معظم إنتاج هذه المناجم من الذهب إلى دول في أوروبا وأمريكا الشمالية، بينما تظل الدول المنتجة أقل استفادة من الموارد التي تحتضنها أراضيها.
يأتي ۲۰% من إنتاج الذهب العالمي من مناجم صغيرة الحجم، يعمل بها ما يصل إلى ۱۵مليون شخص، خمس ملايين منهم من النساء والطفلات والأطفال الذين يعملون في ظروف شديدة الخطورة، علمًا بأن هذا العمل في غالب الأحايين يكون خارج قطاع العمل المنظم ولا يخضع لقوانين العمل الوطنية. لكن تظل مناجم الذهب صغيرة الحجم مصدر الدخل الرئيس وفي بعض الأوقات الوحيد لعشرات الآلاف من النساء في منطقة إفريقيا جنوب الصحراء، ففي دولة مثل مالي التي تعد الأكثر إنتاجًا للذهب في القارة الإفريقية تشكل النساء نصف العاملين بهذا المجال.
ورغم أن آلاف النساء يسهمن بشكل يومي في استدامة اقتصاد مناجم الذهب، فإن عملهن يجري في ظروف غير آدمية مع انعدام وجود سياسات لحمايتهن من التحرش الجنسي أو المواد السامة الشائع استخدامها في المناجم صغيرة الحجم، فضلًا عن غياب أي تشريعات تضمن لهن المساواة في الأجور مع نظرائهن الرجال أو تحول دون استغلالهن.
علاقة رواسب الاستعمار والخطاب الذكوري بتأبيد معانتهن
من دون استخدام عدسة نسوية لفحص أزمة مناجم الذهب الصغيرة وما تواجهه النساء العاملات فيها، قد يبدو تأثير القوى المتداخلة على جميع العاملات والعاملين متساويًا أو متقاربًا، مما يؤدي ببعض المهتمين والمهتمات بهذه القضية إلى إغفال تباين الآثار والتبعات التي تلحق بمن يعملون في هذا المجال تبعًا للجنس وأدوار النوع الاجتماعي.
في إطار دراستها الميدانية بشأن ديناميكيات النوع الاجتماعي في مناجم الذهب صغيرة النطاق في عدد من دول إفريقيا جنوب الصحراء، تكشف سارة كاتز لافين الباحثة في جامعة خرونينجن الهولندية، إن مناجم تعدين الذهب الصغيرة في كينيا تمثل بيئات عمل بالغة الخطورة للنساء اللاتي يتركز عملهن في سحق الصخور المستخرجة من المناجم واستخدام سائل الزئبق شديد السمية لاستخلاص الذهب، وهي المهام التي لاحظت الباحثة أن عمل النساء بها يقف وراءه الثقافة الاجتماعية القروية التي تحصر فرصهن في تلك الأقل ربحًا والأكثر خطورة.
التركيبة الثقافية لهذه المجتمعات تخلق نظامًا اقتصاديًا يسمح باستغلال النساء في إطار نظام اجتماعي يحول دون استقلاليتهن، فالأنشطة الأكثر رواجًا في المناطق الريفية تتركز في مجالي الزراعة وتعدين الذهب وهما مجالان تتعرض فيهما النساء لاستبعاد منهجي من الأعمال ذات الأجور العالية لأسباب تاريخية واجتماعية، إذ تعزز ثقافة حرمان النساء من تملك الأراضي في دول إفريقيا جنوب الصحراء تهميشهن المنهجي في مجالي الزراعة والتعدين حيث تدفعهن إلى الاعتماد على الرجال والقبول بالمهام الأقل أجرًا واستقرارًا، غير أن استئثار الرجال بحق تملك الأراضي وميراثها المحمي بالقوانين العرفية يمكّنهم من الحصول على رخص التعدين وبيع وتأجير الأراضي لأغراض التعدين، وهو حق لا تدركه معظم النساء في هذه المجتمعات.
في قرية كينيبا الكينية المشهورة بثراء أراضيها بالذهب يمتلك اثنان في المئة فقط من نسائها أراضي التعدين بينما يمتلك ٤٤ في المئة من رجالها أراضي تعدينية، وهي نموذج لكثير من القرى في إفريقيا جنوب الصحراء، ولهذا يظل الرجال هم أصحاب اليد الطولى في مناجم الذهب صغيرة الحجم، هم من يقرر من يعمل وأين يعمل في هذه الساحات.
الاستعمار الأوروبي للقارة الإفريقية لعب كذلك دورًا جوهريًا في تعضيد الثقافة الإقصائية للنساء، لا سيما في مجال التعدين، فقد عمدت الإمبراطورية البريطانية إلى استحداث تشريعات موازية لتشريعاتها في مختلف مستعمراتها في القارة الإفريقية، ومن بينها تلك التي صدرت في منتصف القرن التاسع عشر لتمنع النساء من العمل في المناجم، انطلاقًا من القناعة الذكورية بضعف المرأة جسمانيًا ومن ثم عدم أهليتها للمهام الشاقة التي يتطلبها هذا العمل، فضلًا عن الذعر المجتمعي وثيق الصلة بيوريتانية العصر الفيكتوري إزاء وجود النساء والرجال معًا في أماكن معزولة لساعات طويلة.
ومثلما جاءت هذه القوانين تجليًا لثقافة ذكورية فقد ساهمت بصدورها وتطبيقها في التكريس إليها على مدى قرون، وصار العمل داخل المناجم في الوعي الجمعي عملًا ذكوريًا خالصًا، ثم جاءت منظمة العمل الدولية في القرن العشرين لتعتمد اتفاقيات توشح القيود المفروضة على عمل المرأة في المناجم بوشاح «الحمائية»، مما مكّن الرجال الذين يهيمنون على هذه الساحة من دفع النساء إلى المراتب الأدنى في تسلسل المهام المطلوبة في عمليات تعدين الذهب، واستغلالهن ماديًا، وجسديًا، وجنسيًا.
الصمت عن الاستغلال الجنسي مقابل فرصة العمل
والاستمرار فيها شريطة التعامي عن التحرش الجنسي
تشمل عملية تعدين الذهب بالمناجم صغيرة الحجم مراحل عديدة، تبدأ باستخراج الخام داخل المنجم وعادةً ما تنتهي عند الأثرياء في دول الشمال، ورغم أن معظم المراحل يسطو عليها الرجال إلا أن المرحلة الأهم والأكثر خطورة تضطلع بها النساء وهي عملية طحن الصخور المستخرجة، وتصفية الذهب من المسحوق المطحون باستخدام سائل الزئبق المصنف كمادة عالية السمية، التي يصر كثير من أصحاب المناجم على الاعتماد عليها بسبب ثمنها البخس وقدرتها على استخلاص الذهب في وقت أقصر.
وبيد أن المهام التي تقوم بها النساء هي الأقل أجرًا بين مختلف المهام، يظل الحصول على فرصة العمل في المناجم أمرًا صعبًا بالنسبة لهن، خاصةً أن الرجال الذين يسيطرون على الأراضي يعلمون أن الأجر الزهيد الذي سيتحصلن عليه من العمل بالمناجم يبقى أفضل من ذلك الذي يحصلن عليه من العمل في الزراعة، مما يجعل الطريق ميسرًا أمامهم لاستغلال النساء اللاتي يرين في هذا العمل طوق نجاة لهن ولأسرهن، ومن أبرز صور الاستغلال هي الاستغلال الجنسي الذي غالبًا ما يمارسه أصحاب الأراضي أو منسقو المهام بالمناجم من دون خوف من عقاب، بسبب ضعف احتمالية إبلاغ النساء عن مثل هذه الجرائم خوفًا من الانتقام أو فقدان فرصة العمل وبالـتأكيد خشية أن يلاحقهن العار.
في واحدة من الشهادات التي وثقها تحالف الموارد الطبيعية في كينيا (KeNRA) في لقاءاته مع العاملات في التنقيب عن الذهب في مقاطعة تايتا-تافيتا، تقول إحدى العاملات أن الحصول على فرصة عمل في المناجم التي يمتلك معظمها الرجال، يستلزم رشوة مالية وفي حال لم يكن قادرات على دفع الرشوة بسبب ظروف الفقر المدقع، يضطررن إلى تقديم خدمات جنسية لهؤلاء الرجال، لأن العمل بالتعدين قد يكون السبيل الوحيد لكسب الرزق للإنفاق على أنفسهن وأطفالهن.
وتفيد دراسة صادرة عن منظمة التعاون الدولي الألماني في العام ۲۰۲۰ أن العاملات بمناجم الذهب صغيرة الحجم الموجودة في الجزء الشرقي من الكونغو الديمقراطية يتعرضن باستمرار للعنف الجنسي، ووفقًا للدراسة فإن مناجم الذهب في شرق الكونغو طالما استقطبت الجماعات المسلحة التي اعتاد أفرادها ارتكاب جرائم الاغتصاب بحق النساء العاملات في هذه المناجم.
تقع جرائم العنف الجنسي أيضًا في المناجم كبيرة الحجم، إذ تكشف الدراسة ذاتها شيوعها في مناجم جنوب إفريقيا وتنزانيا، وتشمل الجرائم الإرغام على تقديم خدمات جنسية مقابل المساعدة والاغتصاب المتبوع بالقتل. وبيد أن هذه المناجم على عكس الصغيرة تكون محاطة بأفراد أمن لحراستها، فإن ذلك لا يجعلها أكثر أمنًا للنساء، إذ توثق تقارير لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي تكرر ارتكاب الحراس لجرائم الاغتصاب بحق العاملات في مناجم في أوغندا وتنزانيا. كما تجلي دراسة نشرتها مجلة «الصناعات الاستخراجية والمجتمع» في العام ۲۰۲۰ حول التدخلات الرامية إلى تعزيز المساواة بين الجنسين في قطاع التعدين في جنوب إفريقيا، أن ما يصل إلى ۳۱ في المئة من النساء العاملات في المناجم، ومن بينها مناجم الذهب، يتعرضن إلى التحرش الجنسي والتمييز على أساس النوع في أماكن عملهن.
وراء بريق الذهب سم يقتل آلاف النساء في إفريقيا
بحسب تقرير صادر عن البنك الدولي، فإن النساء العاملات في مناجم الذهب صغيرة الحجم في إفريقيا جنوب الصحراء وشرق آسيا وأمريكا الجنوبية، معرضات لخطر الوفاة أكثر من الرجال بنحو ٩۰ مرة، بسبب ظروف العمل القاسية والعنف والمخاطر الصحية التي يتعرضن إليها.
وكما أشرنا آنفًا فإن معظم النساء العاملات بالمناجم صغيرة الحجم في إفريقيا جنوب الصحراء يعملن بمهام طحن الخام المستخرج وخلطه بالزئبق السام ثم تسخينه لاستخلاص الذهب، وتقضي النساء ساعات طويلة يوميًا يقمن بهذه المهمة من دون أن يرتدين قفازات أو يضعن أقنعة على وجوههن، وهو ما ينطبق عليه الوصف بــ «بيئة عمل مميتة»، إذ أن الاحتكاك المباشر مع الزئبق السام باللمس والاستنشاق يؤدي إلى تلف الجهاز العصبي والجهاز الهضمي وكذلك المناعي، بالإضافة إلى تسمم الرئتين واضطراب الرؤية والتوازن، وفي حال تعرضت إليه النساء في أثناء الحمل لفترات طويلة، تزداد احتمالية ولادة طفلات وأطفال يعانين من تشوهات وقصور في نمو المخ والأعصاب.
ويسترعي الانتباه في مسألة انتشار استخدام الزئبق في استخلاص الذهب، أنه محظور بالفعل في العديد من الدول المنتجة للذهب، وكثير منها صادق على اتفاقية ميناماتا بشأن الحد من استخدام الزئبق السام التي تلزم أطرافها باستحداث تشريعات وإدخال سياسات للقضاء على الاستخدام الضار للزئبق وتشجيع التعدين الخالي من استخدام هذه المادة الذي يعتمد على بدائل أكثر آمنًا للإنسانــ/ة والبيئة، إلا أن حكومات هذه الدول ما انفكت تصدر وعودًا وتعهدات لا يتحقق منها إلا النذر اليسير. أما الشركات الأجنبية المستفيدة من المناجم صغيرة الحجم، التي أحيانًا ما تكون أقوى وأكثر نفوذًا من حكومات الدول المنتجة، فلا تكترث إلى صحة العاملات وسلامتهن قدر ما تكترث إلى جني أكبر قدر من الأرباح، بينما تنفق أقل قدر من المال لخلق بيئة عمل آمنة.
أحد الأمثلة الدالة على ذلك هي دولة السينغال التي تعد واحدة من أكثر الدول إنتاجًا للذهب في إفريقيا، فقد صادقت على اتفاقية ميناماتا في العام ۲۰۱٦، وأتبعت ذلك بالإعلان عن إجراءات عديدة للحد من استخدام الزئبق في المناجم صغيرة الحجم، أبرزها تعهدها قبل خمس سنوات ببناء ٤۰۰ وحدة لمعالجة واستخلاص الذهب بتقنيات خالية من الزئبق، إلا أنها لم تبن حتى الآن سوى وحدة واحدة من هذا النوع.
كينيا كذلك التي حظرت استخدام الزئبق في قانونها بشأن التعدين الصادر في العام ۲۰۱٦، لا تزال معظم مواقع استخراج الذهب فيها لا سيما في الجزء الغربي تعتمد على الزئبق، وفي تقرير أجرته مؤسسة تومسون رويترز تكشف إحدى العاملات بمنجم ذهب في مقاطعة ميغوري جنوب غرب كينيا أنها تعاني من مشاكل صحية عديدة بعد عقد من العمل في مناجم الذهب، ومن بينها الوهن الشديد وفقدان الوزن وارتعاش اليدين، مشيرة إلى أن العديد من العاملات بالمناجم الصغيرة يدركن مخاطر التعامل المباشر مع الزئبق، لكنهن لا يعرفن ماذا يمكن أن يكون البديل إذا رفضن الاستمرار في هذا العمل.