أولمبياد باريس: أول نسخة تتحقق فيها المناصفة الجندرية.. أما بيئة المنافسات وقوانينها فتظل متحيزةً ضد النساء
قبل انطلاق دورة الألعاب الأولمبية المنعقدة حاليًا في باريس، صرحت لورا فيسيل كولوفيتش لاعبة المبارزة ووزيرة الرياضة الفرنسية السابقة بأن «أولمبياد العام ۲۰۲٤ ستقدم صورة جديدة ومغايرة عن الرياضيات والرياضة النسائية.»
خرجت أيضًا الأمم المتحدة للنساء (UN Women) ببيان تعلن فيه أن عهدًا جديدًا للنساء في الرياضة ينطلق مع هذه النسخة، استنادًا إلى أنها أول دورة للألعاب الأولمبية تشهد تناصفًا في المشاركة بين الرياضيات والرياضيين، وتوازنًا في برنامج الألعاب الذي يضم ۲ہ۱ اختصاصًا رياضيًا للنساء، و٧ہ۱ اختصاصًا للرجال، و۲۰ اختصاصًا مختلطًا.
أشادت كذلك المنظمة الأممية بجدول المسابقات، معتبرةً أنه يراعي التوازن في مواعيد وأماكن المنافسات مما يعطي الصحافيات والصحافيين فرصة إنتاج تغطيات متوازنة للاختصاصات النسائية والاختصاصات الرجالية، وهو ما تعده الأمم المتحدة للنساء أمرًا مهمًا لتحفيز الجيل الجديد من الرياضيات على أن يحذين حذو النماذج التي يشاهدنها وهي تتنافس في أهم محفل رياضي دولي.
اتصالًا بذلك، قررت اللجنة الأولمبية الدولية (IOC) أن يكون الحدث الافتتاحي لليوم الختامي لأولمبياد باريس هو مارثون النساء، على غير المستقر عليه في برامج الألعاب الأولمبية منذ العام ۱٩٨٤، التي كانت تستهل منافسات اليوم الأخير بمارثون الرجال.
المناصفة الجندرية في المشاركة قادت العديد من المؤسسات والهيئات الدولية ومنها المنتدى الاقتصادي العالمي، والبرلمان الأوروبي، وهيئة الرياضات النسائية، بالإضافة إلى الحكومة الأسترالية، إلى وصف هذه الدورة للألعاب الأولمبية بــ«دورة تمكين النساء.»
ولكن منذ أن انطلقت المنافسات وحتى وقت كتابة هذه السطور، حققت هذه الإجراءات تغييرًا شكليًا فحسب، فلم تأتِ بالإنصاف أو تحقق للاعبات المشاركات أجواء المنافسة العادلة، غير أن اللجنة الأولمبية الدولية التي تباهي في تصريحاتها المتلاحقة بالوصول إلى المساواة الجندرية على مستوى الأرقام في هذه الدورة، قررت أن تنحاز إلى معتدٍ جنسي وتسمح له بالمنافسة وسط اللاعبات واللاعبين الذين يحظون على مدى أيام الدورة بمتابعة إعلامية هائلة واهتمام جماهيري ضخم.
منعطفات:
عام ۱٨٩٦: لم تشارك النساء في أول دورة للألعاب الأولمبية الصيفية
عام ۱٩۰۰: الرياضيات يشاركن لأول مرة في بعض مسابقات الأولمبياد الصيفية
عام ۲۰۱۲: لأول مرة تحضر الرياضيات في جميع بعثات الدول المشاركة في أولمبياد لندن
عام ۲۰۲۰: أكثر من ٩۰% من بعثات الدول المشاركة في أولمبياد طوكيو تلتزم بقرار اللجنة الأولمبية الدولية بتمكين رياضية ورياضي من رفع علم كل بلد خلال حفل الافتتاح، بعد أن كان السائد هو أن يتقدم البعثة رياضيـ/ة واحد/ة (عادةً رجل) لرفع العلم.
جدل الدورة الشهرية يكشف افتقار قواعد الألعاب إلى الحساسية الجندرية
عقب استبعاد اللاعبة المصرية يمنى عياد من منافسات الملاكمة في فئة ٤ہ كيلوغرام على خلفية تسجيل زيادة مفاجئة في وزنها عن الوزن المحدد للفئة التي تنافس فيها، انفتح نقاش واسع على مواقع التواصل الاجتماعي حول الدورة الشهرية وكيفية تعامل اللاعبات معها في أثناء المسابقات، بعد أن أرجعت اللجنة الأولمبية المصرية الإقصاء إلى ما أسماه مسؤولوها بــ «التغيرات الفسيولوجية» في جملة من التصريحات والتعليقات التي تكرس إلى ثقافة الوصم وتجعل الدورة الشهرية وزرًا تتحمله اللاعبة أمام محكمة اجتماعية ذكورية تتخذ الواقعة ذريعة لتبرير المزاعم التي أكل الدهر عليها وشرب عن أن الاختلافات البيولوجية بين الجنسين والطبيعة الفسيولوجية للمرأة لن يُمكّناها مهما بلغت مساعيها من مقارعة الرجال في المحافل الرياضية.
وبيد أن هذا النقاش طفى على سطحه كثير من العدائية والكراهية للنساء، فثمة أمور إيجابية في الحديث العلني عن واحد من أكبر التابوهات المرتبطة بأجسام النساء، وذكر مستخدمات مواقع التواصل الاجتماعي لــ «الدورة الشهرية» باسمها من دون مواربة كما فعلت اللجنة الأولمبية المصرية، بالإضافة إلى الخوض في تفاصيل الحيض وأعراضه من خلال مشاركة النساء تجاربهن الشخصية معه؛ إذ يدفع كل ذلك قدمًا بمقاومة خطاب الكراهية المتجذر في الثقافة العربية، وتغيير الواقع الذي تعاني فيه النساء والفتيات في صمت من جراء عدم الاعتداد باحتياجاتهن المرتبطة بالدورة الشهرية، فضلًا عن تكبدهن خسارات مادية نتيجة الوصم الاجتماعي الذي يمنع النساء من الحديث عن أي شيء يتعلق بأجسامهن لا سيما الحيض، وإن حدث وفعلن كان الإيذاء والإساءة مصيرهن.
تؤشر هذه الواقعة على أن قواعد الألعاب الرياضية النسائية مشبعة بالعمى الجندري، ويتبدَّى في هذه الحالة أن قواعد الملاكمة النسائية لا تتعاطى مع الحيض وتبعاته المتعلقة بزيادة الوزن التي تثبتها دراسات عديدة مثل دراسة «تغيرات في وزن الجسم وتركيبه أثناء الدورة الشهرية» الصادرة في يوليو من العام ۲۰۲۳، التي توصلت إلى حدوث زيادة قدرها نصف كيلوغرام في وزن المرأة في أثناء الحيض بسبب احتباس السوائل داخل الجسم.
ما تجليه هذه الحادثة هو أن قوانين لعبة الملاكمة «النسائية» لا تراعي الخصائص البيولوجية للجسم الأنثوي أو تستجيب للاحتياجات المترتبة عليها، إذ يظل جسم الرجل هو المقياس الذي تصاغ قواعد الألعاب وفقًا لطبيعته واحتياجاته، ولهذا فإن تقلبات الوزن المصاحبة للدورة الشهرية ليست مرئية بين العوامل التي تدفع الاتحادات الدولية لتعديل قوانين الألعاب أو تحديثها.
التماهي في حالة العمى الجندري والتطبيع مع التحيز ظهر أيضًا في تعليقات وتصريحات عدد من المسؤولين الرياضيين المصريين الذين حمّلوا اللاعبة يمنى عياد مسؤولية استبعادها لأنها لم تتخذ الاحتياطات اللازمة لتفادي حدوث المشكلة، في إشارة مبطنة إلى عدم قيامها بتأخير موعد الحيض من خلال الحل الشائع اتباعه بين الرياضيات وهو استخدام حبوب منع الحمل، رغم أن هذه الممارسة ليست آمنة كليًا وتزداد مخاطرها في حال تواصل تناولها على مدى فترات طويلة، خاصةً في ظل وجود دلالات على علاقتها بحدوث نزيف مهبلي اختراقي (Breakthrough bleeding) في بعض الأحيان وتأثيرها السلبي على الحالة المزاجية.
علاوة على ذلك، فإن المنطق المتصالح مع لجوء الرياضية إلى تناول حبوب منع الحمل بشكل متكرر كي تضمن مكانًا لها في المسابقات، وطنية كانت أو إقليمية ودولية، وهو منطق أفرزته ثقافة الوصم والحرمان المتصلة بالحيض، التي بات بمقتضاها يتعين على الرياضيات إخفاء أمره وطمس أي آثار جانبية له وإلا يُحرَمن من فرص، بل وحقوق.
على غرار الملاكمة تفتقر قواعد بقية الألعاب النسائية والمختلطة للحساسية الجندرية، وفيما يتعلق بمسألة الدورة الشهرية على وجه التحديد، تتجلى الإشكالية في لعبة الجودو التي يقتصر زي المتنافسين أو المتنافستين في نزالاتها على لونين وهما الأزرق والأبيض، إذ تسبب البدلة البيضاء في بعض الأوقات إحراجًا للاعبات عندما يرتدينها في أيام الحيض بسبب سهولة ظهور آثار الدم عليها في حال تسربه، وقد استدعت اللاعبة الفرنسية والبطلة الأولمبية كلاريس أغبينونو هذه المشكلة في حوار لها مع شبكة فرانس إنفو (France Info) قبل ثلاثة أعوام، وقالت إن التدريب ولعب المباريات بالبدلة البيضاء في أثناء فترة الحيض أمر المعقد، وذلك نتيجة قلق اللاعبة من أن تظهر بقعة دم على سروالها أثناء اللعب، فتنجذب الأنظار إليها وتتدافع التساؤلات حولها.
كشفت الرياضية الفرنسية أن عدم وجود حلول لهذه المشكلة شجعها على أن تصبح سفيرةً لأحد منتجات الملابس الداخلية المصنوعة خصيصًا لامتصاص دماء الحيض بقوة وتوفير راحة أكبر خلال ممارسة النشاط الرياضي.
كنس الماضي أسفل السجادة: مُدانٌ بالاغتصاب ينافس في الأولمبياد
أعلنت اللجنة الأولمبية الهولندية في شهر يونيو الماضي قائمة اللاعبات واللاعبين الذين سيمثلون هولندا في أولمبياد باريس، وقد اشتملت القائمة على ۲٨۰ اسمًا وبينها اسم لاعب الكرة الشاطئية ستيفن فان دي فيلدي البالغ من العمر ۲٩ عامًا.
استعر الغضب بسبب اختيار اللجنة لهذا اللاعب الذي عوقب بالسجن في العام ۲۰۱٦ بعد إدانته باغتصاب طفلة لم تتجاوز ۱۲ عامًا في إنجلترا، واحتجت على قرار اللجنة جماعات ضغط نسوية في داخل هولندا، ومن بينها نادي المساحة الآمنة (The Safe Space Club) الذي يقدم دعمًا للناجيات من العنف الجنسي، إلا أن القائمين على اللجنة الوطنية لم يلقوا بالًا لكل ذلك وأبقوا على اسمه بين لاعبات ولاعبي البعثة الأولمبية.
في إثر تشبث اللجنة بقرارها وجهت بعض المحتجات أنظارهن نحو اللجنة الأولمبية الدولية، مثل الرياضية البريطانية لورين مير التي أطلقت عريضة إلكترونية تطالب اللجنة الدولية بإقصاء ستيفن فان دي فيلدي من أولمبياد باريس، وقد حصدت العريضة ما يرنو على مئة ألف توقيع فيما بين إطلاقها في نهاية شهر يونيو وبدء المنافسات، ولا يزال الرقم يتصاعد بالآلاف حتى وقت كتابة هذه السطور.
كتبت لورين مير في مقدمة العريضة «صدر حكم ضده (ستيفن فان دي فيلدي) بالسجن أربع سنوات لكنه قضى اثني عشر شهرًا فقط، وفي الوقت نفسه يتعين على طفلة بريئة أن تعيش بقية حياتها مع صدمة شديدة. سجل فان دي فيلدي الملطخ لا ينبغي طمره تحت البساط، ويجب ألا يكون رمزًا للإنجاز في حدث مرموق مثل الألعاب الأولمبية.»
ومن جانبها طالبت سيارا بيرجمان، الرئيسة التنفيذية لمنظمة أزمة الاغتصاب التي تعمل في إنجلترا وويلز (Rape Crisis England & Wales)، اللجنة الأولمبية الدولية بإجراء تحقيق بشأن إدراج اسم ستيفن فان دي فيلدي ضمن الرياضيين المشاركين في الألعاب الأولمبية، لافتةً إلى أن هذا التصرف يخلق شعورًا هائلًا بإمكانية الإفلات من العقاب.
وقد ذكرت سيارا في تصريحات لصحيفة الجارديان البريطانية (The Guardian) أنه لأمر صادم أن يكون بإمكان شخص أن يغتصب طفلة ثم ينافس في الألعاب الأولمبية، رغم أن جميع الرياضيين والرياضيات يوقعون على تعهد بأن يكونوا نموذجًا يُحتذَى به.
زعمت اللجنة الأولمبية الدولية بعدم قدرتها على استبعاد اللاعب، باعتبار أن اختيار الرياضيين والرياضيات يقع على عاتق اللجان الأولمبية الوطنية، إلا أن اللجنة الدولية لم تذكر الحقيقة كاملة لأن بإمكانها أن تستبعد لاعبين إذا ارتأت ضرورة ذلك، وقد فعلت ذلك مع الرياضيين الذي يحملون الجنسيتين الروسية والبيلاروسية على خلفية الحرب على أوكرانيا، إذ أصدرت اللجنة لائحة شروط لتحديد أهلية الرياضيين الفرديين من هاتين الدولتين للمشاركة في الدورة الحالية، فصار لزامًا عليهم أن يقبلوا بالمشاركة كلاعبين محايدين لا يحق لهم رفع أعلام بلادهم، وغير مسموح بعزف النشيد الوطني لبلدانهم إذا فازوا بالميداليات الذهبية، كما فرضت عليهم الخضوع لفحص على مرحلتين، تجريه هيئة مختصة برياضتهم الفردية ثم لجنة مراجعة تختار اللجنة الأولمبية الدولية عضواتها وأعضاءها.
حرمت هذه العملية المُحمّلة بمواقف وتحيزات سياسية عشرات اللاعبات واللاعبين الروسيين والبيلاروسيين من المشاركة في دورة الألعاب الأولمبية المنعقدة حاليًا، وقد واجهت اللجنة الدولية انتقادات بسبب هذه الإجراءات نظرًا لتعارض غايتها مع نصوص الميثاق الأولمبي الذي يُلزِم اللجنة الدولية باتخاذ القرارات بشكل مستقل بعيدًا عن المصالح التجارية والسياسية والاعتبارات العرقية أو الدينية، والعمل على مجابهة جميع أشكال التمييز.
يكشف موقف اللجنة الدولية من مشاركة اللاعب المُدان بارتكاب جريمة اغتصاب عن مخالفة أخرى للميثاق الأولمبي الذي ينص على أن أحد أهم أهداف الألعاب الأولمبية هو خلق مناخ يعزز قيمة المثال الجيد، والمسؤولية الاجتماعية، واحترام حقوق الإنسان المعترف بها دوليًا. على النقيض من ذلك، لم تجد هذه اللجنة غضاضة في إعطاء معتدٍ جنسي فرصة ذهبية لطمس ماضيه والاتشاح بوشاح الأبطال عن طريق تمكينه من المشاركة في هذه النسخة للألعاب الأولمبية التي تصفها اللجنة ذاتها بأنها النسخة الأكثر إنصافًا ودعمًا للنساء.