سينما موازية أم مضادة: كيف بدأ الحديث عن السينما النسوية؟
في نهاية الستينيات، كان الفكر والخطاب النسويان قد نجحا في أن يلقيا بظلالهما على المشهد الثقافي في أمريكا الشمالية وأوروبا، فظهر لأول مرة في هذه الفترة مصطلح «السينما النسوية»، ليشير إلى موجة الأفلام السينمائية المستقلة محدودة الميزانية التي تعكس صورًا مغايرة للمرأة عن السائدة في الأفلام السينمائية التجارية وقتئذٍ، وتعمد إلى تحطيم القوالب النمطية وإحباط التوقعات الاجتماعية الشائعة المرتبطة بالنوع الاجتماعي.
ومع دخول السبعينيات، برزت كتابات نقدية وتحليلية للسينما التجارية عبر منظار نسوي، لا سيما تلك المصنوعة في هوليوود التي تعد أضخم صناعة سينمائية في العالم؛ بعض هذه الكتابات صارت بما تضمنته من أطروحات لكسر الهيمنة الذكورية على السينما، القاعدة التي أسست لـ«نظرية الفيلم النسوي – Feminist Film Theory».
واحدة من أهم هذه الكتابات هي المقالة الأكاديمية «سينما النساء كسينما مقاومة – Women’s cinema as counter-cinema»، التي نشرتها المنظرة السينمائية النسوية كلير جونستون في العام 1973، وطرحت خلالها وجهة نظر مختلفة عن غالبية الرؤى الذائعة في ذلك الوقت، فيما يخص الأسلوب الفني المحبذ اتباعه في صناعة أفلام ذات توجه نسوي، فقد كانت كلير مؤيدة وداعمة لمقاومة السينما «الأبوية» التي تحقق أرباحًا ويلهث وراءها الجمهور بحثًا عن المتعة، بصناعة سينما «نسوية» مضادة تهدف إلى الربح والإمتاع كذلك، وليس عن طريق سينما طليعية تجذب فئة معينة من الجمهور.
أكدت كلير في مقالتها أن السينما النسوية لا بد أن تتبنى استراتيجية ثورية، لخلق تيار بديل للتيار الرئيس في السينما الهوليودية التي تضع الشخصية الذكورية في المركز بينما تقصر حضور الشخصية الأنثوية على المتعة البصرية، وتصور الرجل كشخصية فاعلة والمرأة كشخصية عاجزة ومستسلمة، وهو ما كانت كلير تراه انعكاسًا للأساطير التي ترسخت في الأذهان عن النساء تحت وطأة الفكر الأبوي.
تناولت كلير في المقالة مسألة صناعة أفلام نسوية تستثير العقول وتحقق المتعة في الوقت ذاته، بدلًا من الاعتماد على الأفلام التجريبية قسرًا، وأجملت ذلك قائلة «يجب علينا السعي إلى العمل على كل المستويات، داخل السينما التي يهيمن عليها الذكور وخارجها»، مشددةً على أن أي استراتيجية ثورية (لصناعة سينما نسوية)، ما لها أن تظهر إلا إذا تجنبت الطوعية والطوابوية (المثالية).
وقد قدمت كلير المخرجة الأمريكية دوروثي أرزنر والمخرجة الأمريكية-الإنجليزية إيدا لوبينو، بوصفهما نموذجين للمخرجات اللاتي استطعن كسر القوالب النمطية جزئيًا في السينما الهوليودية، على عكس صانعات أفلام أخريات مثل المخرجة الفرنسية آغنيس فاردا التي اتخذت من السينما التجريبية وسيطًا لصناعة أفلامٍ تعبر من خلالها عن قناعاتها النسوية.
كانت دوروثي أرزنر المرأة الوحيدة بين مخرجي هوليوود منذ العام 1927 وحتى نهاية الثلاثينيات، وتعتبر العديد من المراجعات النسوية للأفلام الكلاسيكية فيلمها «الرقص، يا فتاة، الرقص – Dance, Girl, Dance» الصادر في العام 1940، واحدًا من أفلام قليلة خرجت عن النسق المسيطر على هوليوود آنئذٍ، حيث اعتمدت دوروثي على معالجة غير نمطية لقصة كفاح فتاتين تهويان الرقص وتطمحان إلى التفوق في عالمه، وعلى عكس ما كان شائعًا في الأفلام حينها، لم يكن الحب أو الزواج هو شاغل الفتاتين الرئيس بل تحقيق أحلامهما المهنية.
أما إيدا لوبينو فقد شاركت في كتابة وإنتاج معظم الأفلام التي أخرجتها، ومنها فيلم «الغضب – Outrage» الصادر في العام 1950، الذي عرضت من خلاله معاناة ناجية من جريمة اغتصاب على المستويين النفسي والاجتماعي، وإذ يسترعي الانتباه اختيار إيدا لهذا الموضوع رغم الحساسية التي تكتنفه وصعوبة معالجته سينمائيًا في ظل قانون إنتاج الأفلام المتشدد، الذي وضعته جمعية الفيلم الأمريكي في العام 1930 واستمر العمل به حتى العام 1967، وكان يضع على الصناع كثيرًا من المحاذير على الموضوعات والمشاهد والمعالجات الدرامية، ومن ثم كان إنتاج فيلم عن قضية كهذه تحديًا فريدًا يتطلب الحذر والحنكة، حتى يصبح بالإمكان الحصول على رخصة بعرضه في دور العرض السينمائي.
على طرف النقيض الآخر، كانت المنظرة السينمائية النسوية البريطانية لورا مولفي تتقدم صفوف الناقدات السينمائيات وصانعات الأفلام النسويات، اللاتي يرين أن الحل للقضاء على نظام هوليوود الأبوي هو التحدي الجذري لاستراتيجيات صناعة السينما الكلاسيكية واستحداث استراتيجيات نسوية بديلة عن طريق صناعة أفلام تجريبية تحمل أجندة نسوية واضحة.
وفي مقالتها «المتعة البصرية والسينما الروائية – Visual Pleasure and Narrative Cinema»، المنشورة بالمجلة العلمية «الشاشة – Screen» في العام 1975، أكدت لورا مولفي أن السينما الكلاسيكية استخدمت أجساد النساء كهدف إيروتيكي للشخصيات الذكورية في الأفلام وللمشاهدين الذكور على حد سواء، كما لو أن نظرة الفريقين تتوحد تجاه الجسد الأنثوي، وقد اعتبرت لورا أن المتعة البصرية في هذه الأفلام تحققها «لذة النظر – scopophilia» إلى الذكر الفاعل والأنثى المفعول بها.
ما تناولته لورا مولفي في مقالتها فتح الباب أمام عدد من الأكاديميات والناقدات والكاتبات النسويات ليتناولنّ إشكالية «تحديقة الذكر – Male Gaze» في الأفلام السينمائية، من خلال مقالات وأوراق بحثية شكّلت وعي أجيال من صانعات وصنّاع الأفلام، بشأن الأمور التي تجعل الأفلام ذكورية على صعيدي المضمون والصورة، ومنهن الأكاديمية الأسترالية باربرا كريد التي اختصت أفلام الرعب بالتحليل من منظور نسوي، وكان أحد أهم إسهاماتها في هذا الصدد هو كتاب «الأنوثة الوحشية: الفيلم، النسوية، التحليل النفسي – The Monstrous-Feminine: Film, Feminism, Psychoanalysis» الذي نشرته في العام 1993، واستفاضت خلاله في تحليل التصوير النمطي للوحوش الإناث في أفلام الرعب الأمريكية، لافتةً إلى أن صناع الأفلام كرسوا لوجود رابط بين تجسد الوحش في هيئة أنثى والنوع الاجتماعي، أو طبيعة الجسد الأنثوي، أو فرط الرغبة الجنسية، وقد أحالت باربرا هذا التوجه العريض إلى الأسطورة الذكورية التي راجت في العصور القديمة عن «المهبل المسنن – Vagina Dentata» الذي تمتلكه الوحوش الإناث وقد يكون سببًا في إخصاء الرجال، مما جعل الوحوش الإناث مصدر خوف أكبر من الوحوش الذكور في المخيلة الذكورية، وهو الأمر الذي بنت عليه باربرا تفسيرها لتوحد نظرة الشخصية الذكورية في الفيلم مع نظرة المشاهد الذكر في قاعة العرض تجاه الأنثى المصورة في هيئة وحش.
صارت هذه الكتابات مراجع لمن يتطلعون إلى صناعة أفلام لا تتبنى أجندة أبوية أو تكرس لصور نمطية عن النساء، إلا أن اعتبار فيلم بعينه نسويًا وفقًا لمواصفات أو شروط محددة هو أمر محل جدل حتى يومنا هذا، خاصة أن ثمة أفلام تكون الشخصية المركزية فيها هي المرأة وليس الرجل، ومع ذلك تبقى شخصيةً نمطية ومتماهية في المنظومة المجتمعية القائمة، وهناك أفلام تصنعها نساء أي أنها تحمل منظورًا نسائيًا إلا أنها لا تحض مشاهداتها ومشاهديها على إعادة النظر في حيواتهم اليومية ومدى تجذر اللا مساواة الجندرية فيها، بل إنها كثيرًا ما تضفي مقبولية على مظاهر التمييز والعنصرية. هذه النوعية من الأفلام يصفها أحيانًا بعض الأكاديميين أو النقاد بالأفلام النسوية، لأن الشخصية الرئيسة فيها امرأة، أو لأنها تدور حول مجموعة من النساء، أو لأن النساء هن من صنعنها، وهو الاتجاه الذي انتقدته قبل خمس سنوات المخرجة والمؤلفة الأمريكية آنا بيلر في مقالها «دعونا نتوقف عن تسمية الأفلام بالنسوية»، إذ قالت فيه إن الاستخدام المفرط والعشوائي لكلمة «نسوية» يؤدي إلى محو الخطاب النسوي، حيث يجعل النسوية بلا معنى كموضوع سياسي جاد، مؤكدةً أن ذلك يُسهّل على الجميع النظر إلى النسوية باعتبارها موضوعًا عصريًا أو كلمة طنانة وليس كونها البنية الأساسية لحياة النساء.
في المقال ذاته، أوجزت آنا رؤيتها لما يمكن اعتباره فيلمًا نسويًا قائلةً «لكي يكون الفيلم نسويًا، يجب أن يكون له هدف واضح يتمثل في تثقيف جمهوره حول عدم المساواة الاجتماعية بين الرجال والنساء.»