ساندرا بيم أخبرتنا عن قلب معضلة «الثنائية الجندرية»: مخططات ترسمها أذهاننا تجعل الجيد للذكور معيبًا للإناث
قبل نحو خمسين عامًا، بدأ باحثات وباحثون في علم النفس دراسة وتحليل جذور الثنائية التقليدية للذكورة والأنوثة، وإيضاح الآثار النفسية السلبية للأدوار النمطية التي تحددها مؤسسات المجتمع للأفراد بناء على جنسهم، ولعل أبرز الإسهامات في هذا الصدد، هو ما قدمته عالمة النفس النسوية ساندرا بيم (1944-2014)، خاصةً نظريتها الخاصة بـ«مخططات النوع الاجتماعي» التي تعني بتحليل القوالب النمطية الجندرية وتشكّلها لدى الأطفال، من خلال مخططات ذهنية تخلقها تجاربهم وتفاعلاتهم مع البيئة المحيطة.
«المخططات» هو أحد المصطلحات الشائع استخدامها في علم النفس المعرفي، ويشير إلى ما أشبه بخرائط ذهنية، تحتفظ بمفاهيم ومعاني وأشكال حول كل ما هو محسوس أو مُجرد بما يعزز إدراكنا لهذه الأشياء. ومن جانبه يُعرّف عالم النفس الأمريكي ديفيد روملهارت المخططات الذهنية بأنها وحدات تختزن معارفنا ومعطياتنا الثقافية، ولدينا من هذه المخططات ما يمثل جميع مستويات تجاربنا، ويقول روملهارت «مخططاتنا هي معرفتنا. كل معرفتنا العامة مُضمّنة في مخطط.»
وقبل أن نستفيض في الحديث عن مخططات النوع الاجتماعي والنظرية التي صاغتها عالمة النفس الأمريكية ساندرا بيم، لا بد أن نفرّق بين الجنس والنوع الاجتماعي، إذ أنه لا يزال ذائعًا استخدامهما بالتبادل رغم عمق الاختلاف بينهما، فالجنس يشير إلى الاختلافات البيولوجية التي يولد بها الأفراد، وعلى أساسها يصبح بعضهم ذكورًا والبعض الآخر إناثًا، وفقًا لتباين الأعضاء التناسلية، والهرمونات، والكروموسومات. أما النوع الاجتماعي أو الجندر (Gender) يشير إلى الأدوار والمشاعر والسلوكيات التي يتم تصنيفها بحسب ملائمتها لكل جنس من منظور المجتمع.
«لطالما كان شغفي المركزي هو تحدي الاعتقاد الثقافي طويل الأمد، بشأن وجود نوع ما من الارتباط الطبيعي بين جنس الفرد وخصائصه النفسية وجنسانيته.»
ساندرا بيم
«مقالة: العمل على الجندر كغير متوافقـ(ة) جندريًا | المجلة النسوية: النسـاء والعلاج النفسي | 1995»
في بداية السبعينيات، بدأت ساندرا بيم في جمع بيانات حول التمييز الوظيفي على أساس الجنس، من خلال الإعلانات التي تشترط جنسًا بعينه لشغل الوظيفة الشاغرة، أو تستخدم عبارات موّجهة للرجال أو للنسـاء على وجه التحديد. بفضل بحثها في هذا الاتجاه، تفتق ذهنها عن ابتكار اختبار لقياس مدى التزام الأفراد بالأدوار الجندرية المحددة لهم أو تحررهم منها، عُرِف باسم «جرد بيم لدور الجنس -Bem Sex Role Inventory» واختصارًا بـ«BSRI».
من أجل تطوير الاختبار، صنّفت ساندرا 60 صفة إنسانية ما بين ذكورية وأنثوية ومحايدة، اعتمادًا على اختيارات عينة مكوّنة من 100 طالبة وطالب جامعي. وقد جاء بين الصفات المتوّقع من الذكور أن يتصفوا بها القيادة، والطموح، والحزم، والتنافسية، والاستقلالية، واتخاذ القرار بسهولة، وقوة الشخصية، بينما شملت الصفات المنظور إليها كصفات أنثوية العطف، والبهجة، والخجل، والحساسية، والطاعة، وتجنب استخدام لهجة قاسية، وحب الأطفال، والرقة، والمرونة. وضمّت المجموعة المحايدة صفات مثل الود، والثقة، والصدق، واللباقة، ومساعدة الغير.
بعد أن أجرت ساندرا سلسلة من الاستطلاعات مرتكزة على الاختبار الذي ابتكرته، انتهت إلى أن الأشخاص الذين تتداخل لديهم بشكل كبير الصفات المُحبّذة للذكور ونظيرتها المُستحسنة للإناث، يتمتعون بصحة نفسية أفضل من غيرهم، لما لديهم من مرونة في التفكير والتصرف. وقد استندت ساندرا بيم إلى ذلك في دفاعها عن الـ«Androgyny» أو «الزنمردة»، وهو مصطلح يشير إلى من يتسمون بالصفات ويمارسون السلوكيات، المقبولة مجتمعيًا لكل جنس، بشكل متوازن من دون تغليب صفات أو سلوكيات أو مظهر جنس على الآخر.
لكن بعد أربعين عامًا، يعتقد بعض العلماء النفسيين والباحثين في علم النوع الاجتماعي أن اختبار (BSRI) لم يعد صالحًا للاعتماد عليه، لأن تقسيم الصفات على النحو الذي خرجت به قائمة الاختبار أكل عليه الدهر وشرب، وتغير بمرور الزمن بالتوازي مع تطور الحِراك النسوي وتوغل تأثيره في المجتمع، مما جعل العديد من الصفات تنتقل من تصنيف إلى آخر، إذ يرى المنتقدون أن العديد من الصفات المدرجة في الخانة الذكورية بقائمة الاختبار، أضحت في الوقت الراهن صفات محايدة، ومنها على سبيل المثال: الطموح، والنشاط، والاعتماد على النفس.
بالإضافة إلى ذلك، ترى مجموعة أخرى من منتقدي الاختبار أنه لا يجسد الطبيعة المُعقدة ومتعددة الأبعاد للأنوثة والذكورة، كالباحثين ديل فوكوا وناموك تشوي الذين تناولا هذه القضية تفصيلًا في دراستهما المنشورة في العام 2003 بعنوان «هيكل جرد بيم لدور الجنس: تقرير موجز عن 23 دراسة تحقق من الصلاحية».
ركزت ساندرا بيم في العديد من مقالاتها العلمية على إشكالية تقسيم المجتمع للصفات الإنسانية إلى مجموعتين متباعدتين، إحداها للذكور والأخرى للإناث، ووصفت حرمان المجتمع للأفراد من تنمية صفات بعينها بذريعة عدم توافقها مع الجنس البيولوجي بـالأمر المأساوي، بعد أن توّصلت عبر بحثها إلى أن الاعتماد المفرط على مجموعة من السمات دون غيرها إرضاءً لتوقعات المجتمع من كل جنس، يؤدي إلى مضاعفات تؤثر سلبًا على الصحة النفسيـة.
تمخض جدال وبحث ساندرا في هذا المجال عن صياغتها لمصطلح «الاستقطاب الجندري – Gender Polarization»، لتُعرّف به ميل المجتمعات إلى تعريف الأنوثة والذكورة بوصفهما قطبين متعاكسين، والمرتبط بالنظرة الأزلية إلى الجنسين (الأنثى والذكر) باعتبارهما نقيضين، بما يجعل المظهر والسلوكيات والمواقف المقبولة للرجال غير مناسبة للنساء والعكس صحيح، مشددةً على أن هذا الاستقطاب الجندري هو أحد ركائز اضطهاد النساء والأقليات الجنسية.
واصلت ساندرا بيم بحثها حول الأدوار الجندرية، إلى أن خرجت بورقة بحثية شديدة الأهمية في العام 1981، حملت عنوان «نظرية مخططات الجندر: حساب معرفي للتنميط الجنسي» نشرتها في «المجلة النفسيـة – Psychological Review»، ومن خلالها تناولت الصلة بين تشكيل وتطوير الأدوار الجندرية في أذهان الأطفال والتنشئة الاجتماعية، واستفاضت في شرح عملية تمرير المعلومات المتعلقة بالجندر أو النوع الاجتماعي من جيل إلى آخر في شكل مخططات ذهنية، أطلقت عليها «مخططات النوع الاجتماعي» موضحةً أنها أنماط فكرية تتكوّن في الأدمغة، فتدفع الأطفال (في عمر خمس سنوات أو أكثر) إلى تصنيف وتنظيم سلوكياتهم وتصرفاتهم استجابة للبيئة، وما تخبرهم به عن جنسهم وما يفرضه عليهم.
مخططات الجندر أو مخططات الجنوسة هي وحدات معرفية مجردة ومنظمة تشمل كل شيء يتفاعل معه الأفراد، وهي المسؤولة عن توجيه سلوكياتهم بناءً على جنسهم.
تعد نظرية مخططات الجندر أو النوع الاجتماعي أو الجنوسة التي صاغتها ساندرا بيم، واحدة من نظريات الإدراك الاجتماعي التي تُرجع اكتساب الأطفال للمعرفة، وقيامهم بأي سلوك، وتفضيل أشياء عن أخرى (كالألوان والألعاب)، واتخاذهم لمواقف محددة (كتفضيل مصادقة بني جنسهم ومرافقة الأب أو الأم)، إلى استجابتهم إلى التفاعلات الاجتماعية والتأثيرات الخارجية، وجنوحهم إلى المحاكاة استنادًا إلى ما لاحظوه من مكافآت أو عقوبات معنوية ومادية إزاء ما يقومون به، إذ تتشكل مخططات الجندر في أذهان الأطفال عبر عدة مراحل تبدأ بملاحظتهم لتصرفات وسلوكيات الرجال والنساء حولهم، ثم تقليد الأفعال التي يشاهدونها وتكرار الأقوال التي يسمعونها، وبناءً على ما يتلقونه من ثواب أو عقاب تتخلق الهوية الجندرية، فيشرعون في تعديل سلوكهم بما يتناسب معها.
في العام 1983، أرادت ساندرا بيم الوصول بنظريتها إلى الأوساط النسوية والباحثين في علم النوع الاجتماعي، فنشرت في إحدى الدوريات التي تصدر عن جامعة شيكاغو، مقالة بعنوان «نظرية مخطط النوع الاجتماعي وآثارها على نمو الطفل: تربية الأطفال بدون تخطيط جندري في مجتمع مخطط جندريًا»، تناولت فيها الصلة بين التحرر من القوالب الجندرية النمطية التي تقمع النسـاء وتقيّدهن من ناحية، والصحة النفسية للإناث والذكور على حد سواء من ناحية أخرى.
«شكلت ساندرا بيم الطرق التي استطاعت من خلالها أجيال من العلماء فهم ماهية النوع الاجتماعي، وأدوار النوع الاجتماعي، وتطور النوع الاجتماعي، وتأثيره على السلوك البشري.»
عالمتا النفس ريبيكا بيغلر ولين إس ليبين
مقالة «فهم وتقويض تطور ثنائيات النوع الاجتماعي: إرث ساندرا ليبسيتز بيم» | مجلة «أدوار الجنس-Sex Role » | 2015