قُتِلَت أصيلة فانتصر القانون لقاتلها: متى تتوقف اليمن عن الاستناد إلى «لا يُقتَل الوالد بولده»؟
في اليمن، تعاني أعداد كبيرة من الأطفال من التعنيف الجسدي، بما يصل إلى 85 في المئة، وفق دراسة لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة (UNICEF)، بعنوان «محجوب عن الأنظار»، وفي أغلب الوقائع يكون مرتكب العنف هو أحد أفراد الأسرة. كما ترتفع معدلات العنف الأسري ضد الأطفال الإناث تحديدًا، في ظل سيادة ثقافة المهادنة مع جرائم مثل: تزويج القاصرات، والضرب، والقتل بزعم الدفاع عن الشرف.
بالإضافة إلى ذلك، تبرر بعض القوانين في اليمن وقوع العنف وتسمح بإفلات مرتكبيه، ومنها قانون الطفل الذي ينص في الفقرة «ج» من المادة 146 على «حماية الأطفال من سوء المعاملة وتعرضهم للتعذيب البدني والنفسي، وتقديم من يُعرّضون الطفل لمثل هذه الأعمال إلى القضاء، مع مراعاة الحق الشرعي والقانوني للأبوين في تأديب أبنائهم.»
يبدو الجزء الأول من الفقرة داعمًا لحق الأطفال في الحياة والسلامة البدنية والنفسية، إلا أن الجزء الثاني منها يفتح المجال أمام إفلات الأبوين من العقاب في حالات الاعتداء على الطفل والطفلة، بدعوى الحق في التأديب.
يتعدى الأمر ذلك إلى تسويغ قتل الأطفال، إذ ينص قانون الجرائم والعقوبات اليمني في المادة 59 على «لا يُقتص من الأصل بفرعه وإنما يحكم بالدية أو الأرش على حسب الأحوال»، وتنص المادة 233 من القانون نفسه على «إذا اعتدى الأصل على فرعه بالقتل أو الجرح فلا قصاص وإنما يُحكَم بالدية أو الأرش ويجوز تعزير الجاني في هذه الحالة بالحبس مدة لا تزيد على ثلاث سنوات أو بالغرامة في القتل وبالحبس مدة لا تزيد على ثلاثة أشهر أو بالغرامة في الجرح ما لم يحصل عفو.»
وتستند القوانين في اليمن إلى أحكام الشريعة الإسلامية، ويأتي نص المادتين ارتكازًا على حديث نبوي يقول «لا يُقتَل الوالد بولده».
هاتان المادتان كانتا السبب في تضييع حق عشرات الطفلات اليمنيات اللاتي لقين حتفهن على أيدي آبائهن، والإبقاء عليهما يفتح الباب على مصراعيه أمام مزيد من هذه الجرائم شديدة البشاعة بل ويرسخ للتطبيع معها.
أب قتل ابنته وأمِنَ العقوبة
قبل عدة أشهر، قُتِلَت طفلة يمنية تدعى أصيلة النهمي في مديرية بني مطر، على يد والدها الذي أبرحها ضربًا حتى الموت. وتعود الواقعة إلى أغسطس الماضي، عندما وجد القاتل ابنته البالغة من العمر ثماني سنوات تلعب مع أبناء أخوالها، وهو أمر سبق أن منعها عنه بسبب عداء قائم بينه وبين آبائهم، فاندفع تجاه الطفلة وأنهال عليها ضربًا بوحشية، حتى كسر يديها وأحدث رضوضًا في رأسها أدت إلى غيابها عن الوعي.
وحسب إحدى الصحف اليمنية، فقد امتنع المجرم عن إسعاف الطفلة وتركها في حالتها تلك تنازع الموت، حتى تدّخل شابان ونقلاها على دراجة نارية إلى مستشفى القدس العسكري في العاصمة صنعاء، إلا أنها فارقت الحياة قبل الوصول.
في المستشفى، علم محامي يدعى جميل شرف سبب وفاة أصيلة، فالتقط لها صورة وأرسلها إلى الناشطة الحقوقية اليمنية هند الإرياني، بعد أن وضّح لها ملابسات الحادثة، وطلب منها نشر القصة عبر مواقع التواصل الاجتماعي، بهدف ممارسة ضغط شعبي ليتم القبض على القاتل ومحاكمته.
نشرت الإرياني صورة أصيلة عبر حسابها على موقع تويتر، وكتبت تكشف تعرضها للتعذيب على يد والدها، لتفجر التغريدة غضبًا واسعًا، تبعها تدشين وسم بعنوان #قضية_الطفلة_أصيلة_النهمي، للمطالبة بحق الطفلة المغدورة.
تقدّمت والدة أصيلة ببلاغ ضد القاتل وسط تصاعد حدة السخط على مواقع التواصل الاجتماعي، فألقت الشرطة اليمنية القبض عليه واحتجزته في سجن إدارة أمن بني مطر، كما ركزت وسائل الإعلام على القضية، وتبيّن تباعًا أن الرجل اعتاد تعنيف الطفلة وشقيقتها الصغرى، فضلًا عن أمهما التي انفصلت عنه بعد معاناة تحت وطأة الاعتداء المتكرر.
في غضون ذلك، نشرت الناشطة الحقوقية اليمنية هند الإرياني صورتين لسارة، الشقيقة الصغرى لأصيلة، وقد أحاط بعينيها سواد قاتم نتيجة حرق أبيها لهما، عقابًا لها بعد أن كحّلتها خالتها، وناشدت الإرياني الأطباء المساعدة في علاج الطفلة، حتى جاءت الاستجابة من اتحاد نساء اليمن الذي تعهد بتحمل النفقات.
كانت صور سارة كفيلة بمضاعفة الغضب والتمسك بمطلب القصاص من المجرم، ورغم ذلك جاء قرار المحكمة في النهاية لينتصر إلى الأب القاتل كما لو كانت الطفلة قطعة أثاث يمتلكها وله كامل الحرية في التخلص منها بأكثر الطرق همجية، حيث أدرجت المحكمة في إبريل الماضي، الجريمة ضمن الجرائم غير الجسيمة استنادًا إلى الشريعة الإسلامية، والتزامًا بنص الحديث القائل «لا يُقتل الوالد بولده». وبموجب هذا النص فإن الأب سيقضي مدة لن تزيد عن ستة أشهر في السجن ليعود بعدها إلى الحياة حرًا يمارس عنفه مجددًا، وقد يقتل ببربريته ابنته الصغرى، وإن حدث ذلك سيحاكم بناءً إلى النص ذاته مرة أخرى.
ماَب: المصير نفسه
لم تكن حادثة مقتل أصيلة هي الأولى من نوعها التي تصل إلى الإعلام سواء الإلكتروني أو التقليدي في اليمن، فغيرها كثير إلا أن واقعة مقتل الطفلة مآب كانت واحدة من أشد جرائم قتل الطفلات اليمنيات قسوة، وتابعت وسائل الإعلام أخبارها بكثافة.
وكانت مآب ابنة العشر سنوات قد قضت على يد أبيها قبل أربع سنوات، بعد أن أطلق عليها الرصاص ثم ألقى بها من أعلى منحدر جبلي في منطقة نقيل سمارة في محافظة إب. وجاء القتل بعد عملية تعذيب همجية استمرت لنحو ست ساعات حسب ما أورده تقرير الطبيب الشرعي. وقد اعترف القاتل بجريمته وأقرها، مدعيًا أن جريمته كانت انتقامًا لــ«شرفه» بعد أن تعرضت الطفلة للاغتصاب، مما رفع وتيرة الغضب والاحتجاج الشعبي.
كما اجتمع حقوقيون وممثلون عن المجتمع المدني ووقعوا على وثيقة موّجهة إلى رئيس الجمهورية، ومجلس النواب، ورئيس الوزراء، ورئيس وأعضاء مجلس القضاء الأعلى، وقضاة اليمن كافة، يناشدونهم توقيع عقوبة الإعدام بحق القاتل حتى يكون عبرة لغيره من الاَباء قاتلي الأطفال، ويطالبون بتعديل المادة 233 من قانون الجرائم والعقوبات. لكن ما من استجابة تحققت، فما زالت المادة باقية على حالها حتى يومنا هذا، ويلوذ بها مجرمون كثيرون يقتلون بناتهم بدم بارد.
ما يزيد الأمر إحباطًا أن الحرب المستمرة في اليمن ترفع احتمالات قتل الطفلات وتقتل الأمل في إجراء تغيير على القوانين الحالية، ولذلك فإن أي مقترح أو طرح يظل بلا صدى أو فائدة في أتون هذه الحرب.