«فتاة المصنع».. عن الوجه القبيح للمجتمع الذي يتسلط على أجساد النساء ويشوههن بحجة الدفاع عن الشرف
بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، تراجع الإنتاج السينمائي وطفا على السطح نمطًا من الأفلام يقدم المرأة “جسدًا” و”وعاءً لإفراغ شهوة الرجل الجنسية”، وللاَسف حققت هذه الأفلام إيراداتٍ لتزداد وعورة مواجهة هذا التوجه خاصة من قبل تيار ما يسمى بالسينما المستقلة، الذي تقدم كثيرًا في أعقاب الثورة.
مسألة “تسليع النساء” في السينما، ليست أمرًا جديدًا في مصر، وقد انتعشت بشدة خلال سبعينيات القرن الماضي، لكن هناك دائمًا من يقفون في وجه هذا التنميط، سواء كان هؤلاء نساءً أم رجالًا، ولعل أفضل من قدم أفلامًا تنحاز للنساء، وتعكس مشكلاتهن بواقعية، هو المخرج الكبير “محمد خان”، الذي جسد المرأة في أفلامه، إنسانة لها مشاعرها، وتحكمها الظروف، تقدم على التحدي، وتتراجع خوفًا من المنظومة التي تستضعفها، تقاوم وتظل تقاوم حتى النهاية، وظهر ذلك في أفلام مثل؛ “ضربة شمس” مرورًا بــ”زوجة رجل مهم” و”أحلام هند وكاميليا” و من ثم “بنات وسط البلد” و”فى شقة مصر الجديدة” و أخيرًا “فتاة المصنع”.
فتاة المصنع.. المرأة بين قيود ذكورية متوارثة وأحلام أنثوية لا تنكسر
اسم الفيلم يكشف أننا أمام قصة لفتاة من تلك الفئة، التي تمر علينا مرور الكرام دون الوقوف على الصعوبات التي تواجههن أو معاناتهن اليومية أو حتى قصصهن التي تزخر بتفاصيل تكشف انتكاسة واضحة في حياة المرأة المصرية خاصة المنتمية للطبقة الفقيرة والأشد فقرًا.
يبدأ الفيلم من قلب مصنع نسيج ووجوه الفتيات العاملات به تطل من نوافذه، وترتسم عليها ملامح تمزج بين الكدح والبراءة، وتكسوها ابتسامات تعبر عن قناعة بما عليه حالهن.
خلال الفيلم الذي يقترب من الساعتين، تتكشف جوانب متعددة في شخصية “هيام” فتاة المصنع، في البداية خواء داخلي وطموح محدود، يكاد يقتصر على قصة حب بسيطة وزواج، ثن يتبين تباعًا أنها امرأة قوية لا يكسرها قهر الظروف، أو رجولة زائفة أو ظلم الرجعية التي تسيطر على مجتمعها.
الذكورية والفقر معًا.. ما أصعب حيواتهن!
شخصيات نسائية تشترك في العوز والفقر والتهميش، يعانين يوميًا، لا تتغير الحياة إلى الأفضل، تبقى بين الاستقرار أو الركود بمعنى أصح، أو التحول إلى الأسوأ.
أخت “هيام ” فتاة صغيرة السن، تعمل في نفس المصنع الذى تعمل فيه أختها (غير الشقيقة)، تجمع الصغيرة طلبات الغذاء لعاملات المصنع، لتذهب لشرائها، وتعود بها في حقائب بلاستيكية، بينما يعود بجانبها في الطريق نفسه، بنات في نفس السن من المدرسة، حاملات حقائب مدرسية، في مشهد يعكس حلم “التعليم” الذي ضاع وقتلته سكين الفقر.
تأتى شخصية ” خالة ” هيام لتبوح بسر هذه المرأة المطلقة التي تتألم يوميًا بسبب الكلمات التي تنطلق صوبها كالسهام في محيطها الأسري وحتى من ابنتها التي تتشكك فى سلوكها، خاصة بسبب تأخرها ليلًا، لتكون الابنة أول المعادين للأم المطلقة بدلًا من أن تكون أول من يدعمها على مواجهة المجتمع الذي يرجمها بكلامه ونظراته.
تلك السيدة المطلقة تقضي يومها بين العمل في سنترال تليفونات والعمل في المنازل، حتى تفي بأغراض ابنتها، وتصطدم برجل يعمل معها في السنترال نفسه، الذي يعتقد أنها ضعيفة يسهل النيل منها، لنتحرك من هذه الدوائر الصغيرة إلى الدائرة الكبرى التى تحيط بــ”هيام” التي تتمثل في أحلامها البسيطة بقصة الحب وزواج من الحبيب، لكن هذه الفتاة البسيطة التي لم تمكنها ظروفها من أن تتم تعليمها أو أن تعمل في مكان أفضل، تقع بين براثن الرجولة الزائفة التي تتجسد في المهندس المشرف عليها في المصنع، ويدعى “صلاح” وهو ببساطة الذكر الذي يروق له الاستمتاع بحب المرأة، ويستسيغ استغلالها وابتزازها، ثم يسمي ما جرى “نزوة عابرة” ليرفع عن نفسه أي تهمة.
“صلاح” الذى شيد داخل قلب ” هيام” قصرًا من أحلام الحب، سرعان ما يتركها بين ركام أحلامها ليلقي بها وسط الشائعات التي تنال منها ومن سمعتها، لتنقلب حياتها رأسًا على عقب ويحاوطها من كل جانب، وتنجلي أزمة المجتمع المسكون بالجنس، والمشوه بأفكار متحجرة عن “الشرف”، فتتحول “هيام” في نظره إلى جاني يستحق الإعدام.
تحاول الجدة العجوز طمس معالم أنوثتها، عقابًا على ما تظن أنه قد حدث بينها وبين “صلاح”، فتقص شعرها الطويل المنسدل في لحظة هى الأكثر قسوة على “هيام”، ومن بعدها الأم تريد الكشف والتأكد من عذريتها وزوج أم يكاد يقتلها، كل هذا في ظل صمت “هيام”، مكتفيةً بالدموع في مواجهة القهر.
بعد محاولة انتحار “هيام”، بعد أن تكالب عليها الجميع، ولم تجد بينهم سندًا، يتبين أنها ما زالت عذراء، ليرتاح كل هؤلاء.
على الرغم من الاَلم النفسي الذي ما زالت تقاومه، والخذلان الذي عايشته، تأبى “هيام” أن تنهي قصتها مغلوب على أمرها أو كاسفة البال، لتظهر فراشةً تتلون بألوان الحرية في فرح “صلاح”، ترقص بكل قوة وأنوثة أمامه وأمام كل من تخيلوا أنها سترضخ للحزن.
في النهاية، انتصرت “هيام” على المجتمع الذي حاول أن يكسرها، في مشهد هي الوحيدة بين كل الحاضرين فيه، تحلق في سماء الأمل، وكأنها تقر بتمسكها بسلاح المقاومة في مواجهة القهر والتسلط.
هذا الفيلم يستحق المشاهدة مرة بل مرات.