بمرور الوقت يزداد قبول المجتمع لأمر واقع تفرضه الفتيات، وهو الاستقلال بمفهومه المعنوي والمادي عن الأسر والعائلات، وحتى إن كان ذلك يحدث بوتيرة بطيئة، فإن إقدام الفتيات على قيادة حياتهن بأنفسهن، بإصرار على ألا يتراجعن مهما اشتدت الإساءة والملاحقة والانتهاك، يساهم في تحقيق التأثير التراكمي الذي يحوّل الممنوع إلى مرفوض ثم مقبول بشروط، ليصبح أمرًا واقعًا ومن بعده ينتقل إلى خانة الطبيعي.

خلود البالغة من العمر 23 عامًا، واحدة من هؤلاء اللاتي يخضن معركة يومية مع المجتمع، دفاعًا عن حقهن في الاستقلال وتمسكًا بحقهن في الخصوصية.

«عشت مع أسرتي في مدينة طنطا حتى جاء موعد الالتحاق بالجامعة، وكنت قد تحصلت على مجموع عالٍ بالثانوية العامة، يؤهلني إلى الالتحاق بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. ونظرًا لبُعد المسافة بين العاصمة ومدينتي، قررت الانتقال للعيش في القاهرة بالقرب من الجامعة على أن أعود إلى طنطا في الإجازات،» تقول خلود.

لم توافق أسرة خلود حينها على إقامتها بشقة في القاهرة، لكنهم سمحوا لها بالبقاء في المدينة الجامعية، والحجة أنها أكثر اَمنًا وأمانًا، وبالطبع لأنها لن تعيش وحدها وإنما بصحبة فتيات أخريات.

تحكي خلود «بعد التخرج، اضطر عدد من صديقاتي اللاتي عشت معهن خلال فترة الدراسة إلى العودة إلى محافظاتهن، تلبية لرغبة أسرهن التي لم تقبل باستمرارهن في القاهرة، حتى لو كانت فرص العمل في العاصمة أكثر. لم يكن أمامهن اختيار ولم يكن بوسعهن تحديد مستقبلهن.»

في المقابل، عزمت خلود على البقاء في القاهرة مع ثلاث أخريات من صديقاتها، واستأجرن شقة للعيش فيها، ولم يكن ذلك مستساغًا من قبل أسرتها، لكن قبولهم بقرارها جاء بعد أن قطعت شوطًا طويلًا في عملية إقناعهم.

«اكتشفت أن إقناع أسرتي بالأمر حل لجزء من المشكلة، لأن المجتمع لم يقتنع بعد.»

تستطرد خلود «بعد استقلالي، بدأت المعاناة اليومية مع المجتمع المحيط، واعتدت على أن يعترض طريقي يوميًا صاحب محل البقالة المجاور للعقار الذي أسكن فيه، حتى يوجه لي اللوم في صورة نصائح من عينة: مينفعش ترجعي متأخر كده أنتِ وأصحابك، وميصحش أنتم عايشين لوحدكم، وكلام الناس كتير.»

بعد مرور أقل من عام، قرر شقيق خلود أن يشتري شقة في القاهرة لينتقل للعيش فيها، وحينها أصر على أن تقيم معه وتتخلى عن فكرة الاستقلال والمَعيش مع صديقاتها.

«لكنني رفضت، وصممت على البقاء مع صديقاتي، فنشب بيننا خلاف حاد، ونهرني حينها قائلًا: البنات اللي مش محترمة هي اللي بيبقى عندها بيت وبردو عايزه تبات بره.. أنا ما عرفش الناس اللي أنتِ عايشة معاهم دول عاملين إزاي. الغريب أنهم نفس الأشخاص الذين عشت معهم لأربع سنوات كاملة خلال فترة الدراسة الجامعية، ولم يعترض وقتها أو يرغمني على الابتعاد عنهن.»

موقف الأم لم يكن مختلفًا، فهي دائمًا ما تبدي امتعاضها مما تصفه بتغير شخصية ابنتها إلى الأسوأ بسبب الاستقلال، فضلًا عن انزعاجها من «تحررها» الذي جعل أقاربها يروّنها «متبرجة».

«إلى متى يظل المجتمع ينظر إلى تقرير المرأة لمصيرها واعتمادها على نفسها باعتباره تخليًا عن الأخلاق؟»

أما هبة البالغة من العمر 35 عامًا، فقد قرر شقيقها الهجرة إلى كندا بعد وفاة والديهما، بينما قررت هي البقاء في مصر «لم أسافر معه لأنني كنت أحب عملي، وكنت قد حققت تقدمًا في مجالي. أنا أعمل محاسبة في شركة كبرى ولذلك لم تقنعني فكرة الهجرة والبدء من نقطة الصفر في بلد أخرى، وبالتالي اخترت العيش هنا بمفردي، ولم يعارض أخي القرار مطلقًا.»

اضطرتنا الظروف إلى بيع الشقة التي كنا نسكن فيها معًا، وبدأت في البحث عن شقة صغيرة للإيجار حتى أعيش فيها، إلا أنني واجهت صعوبات جمّة، واكتشفت أنه من العسير أن يقبل صاحب عقار بتأجير شقة لامرأة حتى تسكنها وحدها.

في إحدى المرات برر أحد ملاك العقارات رفضه بأن «البنت اللي بتعيش لوحدها بتبقى هربانة من حاجة، والناس هتبدأ تتكلم عنها وهيبقى فيه قيل وقال، فمعلش أنا مش عايز سمعة العمارة تتهز.»

بعد معاناة طويلة، وافق أحدهم مشترطًا أن يأتي أي فرد من أسرتها إليه، فطلبت هبة من شقيقها المجيء إلى مصر حتى تنقضي الأزمة، وبالفعل استجاب الأخ وجاء في إجازة قصيرة حتى تتمكن هبة من توقيع عقد الإيجار.

«لسوء حظي كان يسكن بالشقة المقابلة لشقتي، مجموعة من الشباب الجامعيين، الذين لاحقوني بالمضايقة والتحرش، وزاد الأمر سوءًا عندما علموا بأنني أعيش وحدي، فبدأت عروض التزاور والسهر، وعندما رفضت وقعت مشادة كلامية بيننا علِم بأمرها صاحب العقار، وعلى إثرها وبخني قائلًا: أنا كنت عارف أن قعدتك لوحدك دي هتجبلي مشاكل.»

«حتى يومنا هذا، كلما جاء ساكن جديد إلى العمارة، استنكر إقامتي وحيدة في شقة إيجار.»

سارة البالغة من العمر 28 عامًا، نجحت في إقناع أسرتها بالإقامة في القاهرة، ولم تجد عناءً في ذلك، خاصة أن أسرتها عاشت فترة في العاصمة وسبقتها أختها إلى الخطوة ذاتها.

«بدأت حياتي في القاهرة في منتصف العام الماضي (2018)، وبعد حصولي على وظيفة، كانت نصيحة أهلي: اوعي تقولي لأي حد في الشركة أنك قاعدة لوحدك، وذلك على الرغم من أنني أسكن في شقة مشتركة مع إحدى صديقاتي.»

تتابع «بمرور الوقت أدركت أن مخاوف أسرتي في محلها، فما من أحد يعرف أنني أعيش بمفردي إلا ويوجه إلي ثلاثة أسئلة: جيتي من إسكندرية ليه؟، وأنتِ بجد عايشة لوحدك؟، وأهلك وافقوا إزاي؟، وفي كل مرة تقفز إلى رأسي كلمتين: وأنتوا مالكوا؟»

تكشف سارة عن تعرضها للتحرش الجنسي على يد من كثير من الرجال بمجرد معرفتهم بـ«استقلالها»، وكلما صدر منها رد فعل عنيف إزاء ذلك، يشرعون في الإساءة إليها عبر تلميحات وإشارات إلى أنها «مشبوهة».

«أيقنت أن الفتاة المستقلة في مجتمعنا يحق لأي شخص أن يتدخل في حياتها الشخصية، فصار من الطبيعي أن يسألني حارس العقار كل صباح “هو حضرتك رايحة الشغل؟”، وفي المساء “هو حضرتك كل ده كنتِ في الشغل؟”، كما أنه لا يجد غضاضة في التحقيق مع كل شخص يأتي لزيارتي، ليعرّف من هو أو هي وما الصلة التي تربطني به أو بها، ويمنح لنفسه أيضًا حق التلصص علينا، حيث يقف خلف باب الشقة ليستمع إلى أحاديثنا ويعلم ما يجري بالضبط.»

«قراري بالاعتماد على نفسي والاستقلال عن أسرتي، كان ثمنه استباحة حياتي واستهداف سمعتي من كل شخص وأي شخص.»

هذه القصص تتشابه مع غيرها الكثير، وتفاصيلها تتكرر يوميًا مع فتيات أخريات، والمشترك أيضًا بين هذه الشهادات هو أن صاحباتها لا تهمد مقاومتهن، ولا شيء يخمد إصرارهن على انتزاع حقوقهن.