«ديكور»: عن تمزق بين سلطة وتسلط.. وهروب افتراضي من واقع فيه الحب يُسَيِّر أو الأسرة تقرر
حائرة بين طريقين ليس لها فيهما اختيار، مستسلمة للظروف على الرغم من رفضها لها، لا تملك سلاحًا لمجابهة قيود الواقع إلا الهروب إلى الخيال. صورة مشابهة للعديد من النساء في المجتمع الأبوي. «مها» الشخصية المحورية فى فيلم «ديكــور»، الذي تدور أحداثه في فكلها، بين خيال وواقع يصعب عليك طوال الفيلم عدا في مشاهده الأخيرة، أن تفسر أي منهما الحقيقي وأي منهما الافتراضي.
تبدأ أحداث الفيلم مع «مها»، وتؤدي دورها «حورية فرغلي»، وهي مهندسة ديكور، تعشق السينما وتعمل داخل أروقتها، تبدو في هذا العالم شخصية دقيقة، تهتم بجل التفاصيل، وتتسم بالجدية والتطلع إلى المثالية، بعكس طابع الفيلم الذى تعمل على تصميمات ديكوراته بالتعاون مع زوجها. تخبرنا الدقائق الأولى عن اضطرارها للعمل في هذا الفيلم «التجاري» على عكس هواها، والإشارات تتجه نحو زوجها «شريف» ويؤدي دوره «خالد أبو النجا»، الذي يبدو متقبلًا للواقع أكثر منها ومتماشيًا مع ظروف «العيشة ومتطلباتها» بعكس شخصيتها.
بعد قليل وعلى غير توقع، تتحول «مها» مهندسة الديكور إلى ربة منزل، وزوجة لرجل، يدعى «مصطفى»، يؤدي دوره «ماجد الكدواني»، ولديها ابنة صغيرة في المرحلة الإبتدائية تدعى «هيا»، وهنا تتشابه شخصية «مها» مع «شهيرة»، بطلة الفيلم الذى تعمل فيه «مها» في عالمها الاَخر.
تنقل لنا «مها» إحساسًا بالاغتراب في هذا العالم، كالسجين يحاول البحث عن مفر، بينما لا أنيس ولا ملاذ في هذا العالم، سوى الأفلام «الأبيض والأسود»، وهي الشيء المشترك في العالمين.
تتنقل «مها» بين عالميها، وفي عالمها الذي سيتبين تباعًا أنه الحقيقي، تعيش مع زوجها «شريف» – خالد أبو النجا، الذي جمعتها به قصة حب قبل الزواج، ومع ذلك تبدو حياتهما رتيبةً بعد سنوات، لا سيما في ظل اختلاف واضح بين تعامل كل منهما مع الحياة، فهي امرأة حالمة، ترنو إلى المثالية، بينما يتعايش هو مع متغيرات الحياة كما هي، ويطوع نفسه وفق ما يستجد عليها، فضلًا عن ملامح سيطرة غير معلنة، تتضح تدريجيًا في علاقتهما، سواء في توجيه دفة حياتهما المهنية أو حياتهما الخاصة، فهو الذي لا يريد أطفالًا، بينما تتملكها الرغبة في الإنجاب، لكنها تذعن لما يريد وتزعم وتحاول أن تقنع نفسها والاَخرين، أنه اختيارها الشخصي، ربما خشية خسارته أو خوفًا من أي تغيير قد يحدث في حياتها.
في المقابل، فإن عالمها مع «مصطفى»، فيه ابنة ولا تزال والدتها على قيد الحياة، وتهنأ بوجودها إلى جوارها. في هذا العالم أسرة تفتقدها في عالمها الاَخر مع «شريف»، وعلى الرغم من أن ذلك هو العالم الخيالي، فإنه يحمل تفاصيلًا ترتبط بأجواء حظر التجوال والثورة، وهي التفاصيل الأقرب لواقع المشاهدين.
تبدو الأسرة في هذا العالم هي حلم «مها»، الذي لم تستطع تحقيقه في حياتها الحقيقية، لكن ثمة أشياء أخرى فيه، تكشف ما يمكن أن تخسره، فهي فيه امرأة غير طموحة، تعمل مدرسة رسم، على عكس رغبتها في العلم كمهندسة ديكور للأفلام السينمائية، فضلًا عن أنها تعيش مع رجل لا تحبه.
هل نختار أم نجبر على قبول ما يختاره لنا الاَخرون؟
عند نقطة ما، تقف «مها» معلقة بين ماضٍ تخطاها وحاضر لم تعد تطيقه، لتصبح نهايتها في العالم الموجود فيه «مصطفى»، هي الموت بطريقة مماثلة لنهاية شخصية «نوال» في فيلم «نهر الحب» وتؤدي دورها «فاتن حمامة»، ليبقى تأثير أفلام «الأبيض والأسود» حاضرًا ليس فقط من خلال المشاهد العابرة، وإنما حتى في مسيرة «مها».
تكتشف «مها» أنها راضخة وخاضعة لـ«شريف» في عالمها الفعلي تمامًا كما كانت في العالم الاَخر، فأمها التي كانت سببًا في إنهاء علاقتها بـ«شريف» عندما كان خطيبها، يناظرها في حياتها الحقيقية «شريف»، الذي وأد أحلامها في أن تكون أمًا، وهي في الحالتين متقبلةً لما يقرره لها الاَخرون.
القسم الأخير من الفيلم، هو الذي تقرر فيه «مها» التمرد على واقعها، وبعد أن تكتشف أنها فقدت طفلًا، سكن أحشائها دون أن تعلم، تصطدم مجددًا برفض «شريف» القاطع لفكرة الإنجاب، فتذهب لتبحث عن «مصطفى»، لعلها تجد شيئًا مما كان في خيالها حقيقيًا، ويا ليته يكون «هيا».
نهايتان.. كل منهما ترجمت «الأبيض والأسود» بشكل مختلف
في النهاية يتبين أن «مها» مهندسة الديكور، كانت تعاني «الفصــام»، وقد عمد الفيلم من خلال هذه الفكرة، إلى استخلاص فكرة الصراع الذي تعيشه المرأة المُستلبة في مجتمعنا، والتشتت بين ما تريده وما يحدث، وبين ما تحلم به وما تُرغَم عليه، بفعل سلطة مجتمعات تتحكم في حيوات نسائها.
النهاية الأولى، كانت التمرد على الأبيض والأسود أو الخيال والواقع، والخلاص من هذا التمزق الذي عاشته، واختيار طريق ثالث غيرهما، هي فيه التي تقرر كيف ستمضي حياتها.
بعد نزول كلمة النهاية على الشاشة نفاجأ بأنها لم تكن نهاية الفيلم، وإنما نهاية فيلم داخل الفيلم، والنهاية مجرد كلمة على شاشة داخل قاعة عرض سينمائي، يظهر فيها أبطال قصة «مها»، ولكن بهيئاتهم الحقيقية، في عرض خاص، وتتحرك الكاميرا خارج قاعة سينما زاوية – المختصة بعرض الأفلام المستقلة، وتستمر الصورة بالأبيض والأسود حتى تخرج الكاميرا من دار العرض السينمائي، وتعود إلى الحاضر كما نعرفه؛ حيث الزحام، وضجيج ومزامير السيارات،وبمجرد اصطدام سيارتين ببعضهما البعض، تتلون الصورة لنرى حاضرنا كما هو بالألوان.
«نوستالجيا»..أفلام الأبيض والأسود: هي قصصنا أم نغير دفة الواقع من أجل محاكاتها؟
ليست فقط صورة الفيلم التي لم تتلون سوى بالأبيض والأسود، وإنما في جوفه انتقل بين الفينة والأخرى إلى عالم أفلام «الأبيض والأسود»، من خلال مشاهد من أفلام، «الليلة الأخيرة» و«نهر الحب» و«أيامنا الحلوة»، كانت تتخلل الأحداث، بإطلالة لــ «فاتن حمامة»، لنرى فى كل شخصية لها جانبًا من شخصية «مها». في «نهر الحب» هي المرأة الحائرة بين زوج مرغمة على العيش معه وحبيب لو اختارته ضاع منها ابنها، وفيلم «الليلة الأخيرة»، حينما تستقيظ يومًا، لتجد نفسها شخصية أخرى غير شخصيتها وتعيش إنسانة فى ثوب أخرى، أما «أيامنا الحلوة»، حيث تنتهي قصة الفيلم بإسدال «فاتن حمامة» الستار على النافذة، وعينيها تودع رجلين أحباها، كما أن الفيلم اتسم بنفس الإيقاع الهادئ والكلاسيكي المرتبط بتلك الأفلام وزمنها.
الحضور النسائي:
«مها»
نقلت حقيقة حياتية تعيشها الكثير من الفتيات والسيدات في المجتمعات العربية، فكثير منهن لا يخترن بقدر ما يقبلن باختيارات الأهل تارة، والظروف تارة أخرى، إلى جانب خيارات العادات والتقاليد، وقد يسلكن طريق التعايش مع الأمر الواقع دون معافرة.
«هيا»:
الابنة في عالم «مها» مع زوجها «مصطفى»؛ لم نر الكثير من تفاصيل شخصيتها أو نعرف الكثير عن دواخلها. كل ما وصلنا هو أنها تكاد تكون نسخة مصغرة من «مها»، التى لا تجد نفسها، وتعاني حالة من التيه بين أبويها.
«الأم»
في عالم «مها» مع «مصطفى» و«هيا»، تتواجد الأم معها، التي تمتلك شخصيةً قوية، ويتضح أن داخلها جرح غائر تسبب فيه زوجها الذى تزوج عليها.
«شهيرة»
بطلة الفيلم الذي تصمم وتنفذ «مها» ديكوراته، وتمثل نموذجًا لممثلة من اللواتي يتعاملن مع السينما بالمنطق التجاري، وباعتبارها بوابة لإبراز أناقتهن وجمالهن ليس أكثر، وهى النقيض التام لــ«مها» ، التي تبحث عن الدقة فى التفاصيل من أجل محتوى وصورة متناغمة وليس الإثارة فى الصورة على حساب المضمون، ونكاد نرى التناقض بينهما، كما التناقض بين سينما الأبيض والأسود وسينما الألوان ذات الصفة «التجارية».
صديقة «مها»
«مها» فى عالمها مع «مصطفى»، لها صديقة مقربة تبادلها أسرارها، معلمة في نفس المدرسة التي تعمل بها، وتقدم نموذجًا لسيدة مغلوب على أمرها، يعتدى عليها زوجها بالضرب، ولا تجد من ينصفها حتى أسرتها، ورغم شكايتها المتكررة من يفعله بها، تبدو بعيدة عن مقاومة هذا العنف بشكل حاسم.
نساء خلف الكاميرا
من أبرز العناصر النسائية بين صانعي هذا العمل، السيناريست «شيرين دياب»، التي شاركت أخيها «محمد دياب» في كتابة سناريو الفيلم، والمونتيرة «سارة عبد الله»، التي نقلت عبر الإيقاع الهادئ الذى اتبعته، حالة تنسجم مع لوني الأبيض والأسود الذين لازما أعين المشاهدين، حتى نهاية الفيلم لتبقى الأجواء العامة مفعمة بالكلاسيكية.