ليس العمل بالجنس أول الطريق، بل هو نهاية طريق طويل مع القسوة، والإذلال والمهانة، ومعاناة الدم الذى ينفجر أنهارًا من شدة العنف، ينجرفن مرغمات، إلى عالم الدعارة، بعد أن تبلدت المشاعر، وأصبحت اللامبالاة سمة، وبات الاَلم والراحة سواء.
تجسد هذه الكلمات باختصار شديد، معاناة “منى فرخة”، الشخصية المحورية، فى فيلم “حدوتة من صاج”، لمخرجته “عائدة الكاشف”.
“منى فرخة”، شخصية حقيقية، وهى إحدى العاملات بالجنس، يكشف الفيلم فى 22 دقيقة هى مدته، جانبًا اَخرًا فى حياة الداعرات، يتعمد كثيرون عدم النظر إليه أو البحث عنه، ولو علموا به يتناسونه ويقولون الجملة الأكثر ترديدًا “الفقر مش مبرر”، أو يرددون المثل القائل “تجوع الحرة ولا تأكل بثدييها”.
الفيلم، سناريو “عمر خالد”، وبطولة “مريم صالح”، ومن انتاج مركز وسائل الاتصال الملائمة من أجل التنمية، موسيقى زين حمدان.
فيلم داخل فيلم
يقدم “حدوتة من صاج”، فيلمين داخل بعضهما البعض، نكتشف ذلك بنهايته، أما بدايته، تنتقل بنا الكاميرا خلال ثوانٍ بين حوائط من الصفيح متصدعة، التى يعيش بين أركانها قطاع من الشعب المصري المهمش، الذين أجبرهم الفقر والقهر على الاحتماء بها .. وليتها تحميه!
سرعان ما تأخذنا الكاميرا إلى حيث يجلس ضابط وأمامه فتاة تبدو من الطبقة الدنيا، ترتدى عباءة سوداء، وتغطى شعرها بطرحة بنفس اللون، يتوسط إحدى وجنتيها جرح غائر، على الرغم من قدامته إلا أنه بارز فى الوجه، ربما هو أول ما تلتقطه العين بين ملامحها بمجرد النظر إليها.

المشهد الأول حمل واقعية وجرأة فى الوقت ذاته، واقعية لمن يتطلعون لرؤية الواقع كما هو دون تجميل، فيمكنك أن تسمع مثل هذا الحوار المشتمل على ألفاظ خارجة بين ضابط الشرطة، والداعرة فى الواقع بل ربما ما أبرزته “عائدة الكاشف” أقل بكثير مما يقال بالفعل.
لكن هؤلاء المؤمنين بأن السينما هى فن تجميل الواقع، لن يرونه سوى “خدش للحياء”، وهذا بالفعل ما تعرض له الفيلم من انتقاد خلال مشاركته فى مهرجان طنجة السينمائي للفيلم المتوسطي القصير، حيث أثار بعد عرضه هناك حالة من الجدل، واتهمه البعض بأنه محمول بكم مبالغ فيه من الألفاظ الخادشة للحياء.
“يا باشا أنا شرموطة”، بهذه الجملة ينتهى الاستجواب القصير جدًا بين الضابط و”منى”، ليقتادها مجموعة من المخبرين بعنف، وتذوب فى دائرة الظلام.
“إلى كل من لم نعرف عنهم شيئًا
إلى كل من تناسينا وجوده إليكم”
بهذه الكلمات التى سُطرِت على الظلام الذى تغيم به المشهد، نبدأ رحلةً قصيرةً، نتعرف فيها على “منى”، العاملة بالجنس.
سيدة ورجل هما مخرجة وكاتب سناريو، يدخلان إلى شقة بسيطة الحال، حيث تنتظرهما “منى” وفق معاد مسبق، تتجه نحو الكرسي، وتجلس قرفصاء، لنرى أمامنا فتاة يكسو ملامحها الشقاء، لا تظهر منها أى مفاتن، حتى شعرها تغطي أغلبه بطرحة، لتكشف لنا عن قليل من شعر مجعد، السيجارة ترافقها فى حديثها، تبدو مجترأةً، لا تخشى أن تروى ما عاشته وتعيشه، فى عالم الجنس مقابل المال بتفاصيله، فقط يعنيها ما ستتقاضاه عن روايتها تلك، فالمال هو عنوان الحديث؛ ثم تقطع الجرأة بتعبير عن خوف من جلادها، فتطلب من صانعي الفيلم، ألا يتم تصويرها خوفًا من الوقوع فى مشاكل مع الشرطة.
حتى هذه اللحظة، لم تكشف لنا “منى” عن جديد لا نعرفه عن حياة الفئة التى تنتمى لها، وحتى بعد أن بدأت سرد حكايتها، واستهلتها بسبب تسميتها بـ”منى فرخة”، ودون كثير من التفاصيل أعلمتنا أن الاسم التصق بها بعد أن أطلقته عليها رفيقتها التى كانت تعمل معها، عند نفس “الفرارجى”بائع دجاج ، كل ذلك لم يغير دفة النظرة التقليدية لبائعات الهوى.

“ايش تعملى يا بنية، أميرة بنت ملوك وبيحرموك المية”

منذ اللحظة التى تغمض فيها ” منى” عينيها فى محبسها، نعود معها سنوات للوراء، نتعرف على تلك الصغيرة البريئة، التى تسكن مع والديها، ببيت متهالك، حوائطه من الصاج أو الصفيح المتصدع، لا يظهر به الملامح التقليدية للبيت، فهو مجرد مساحة ضيقة تجمع “منى” وأبويها، تحممها أمها باستخدام كوب وسطلٍ، وتغنى لها “ايش تعملى يا بنية، أميرة بنت ملوك وبيحرموك المية”، تلك الكلمات التى تعكس حالة الفقر، وقلة الحيلة التى تعيشها “منى” فى كنف بيت الصفيح، فهى ابنة لأب “غلبان” تُسرَق أمواله ويُعتَدى عليه من قبل أخوته أمام عينيها هى وأمها، ولا راد لهم.

“الفستان الجديد اتملى دم وطين”
بيت الصفيح بما يحمله من معاناة، كان الدرجة الأولى فى الدركات التى نزلت بها لأسفل، بينما الدرجة الثانية، كان تعرضها للاغتصاب وهى ابنة الــ13 عامًا، عندما ذهبت الصغيرة للقاء خطيبها “سيد”، السائق، فما وجدت سوى أصدقائه الذين رأوا فيها وعاءً يفرغوا فيها شهوتهم الحيوانية، التى أشعلتها داخلهم المخدرات، أخذوها تحت التهديد بعيدًا، حيث تناوبوا اغتصابها.
بين لقطات للفتاة الصغيرة ترقص وحيدة بفستانها القصيرة، ولقطات تعنيفها واغتصابها، وكأنه صراع بين البراءة والوحشية، وهل تصمد البراءة أمام الوحوش!
الوجه فقد براءته بعد أن طبعوا عليه علامة، لن تفارقه مدى الحياة، وسيبقى حدًا فاصلًا بين حياتين عاشتهما.

179403033573180

تذوب تدريجيًا صورة الفتاة التى تلهو بعفوية، وعيونها تنضح طهارةً، حتى تختفى الصورة نهائيًا، ونراها طريحة الأرض وحيدة، الدماء تسيل على فستانها، بعد أن فروا هاربين بعد فعلتهم.
الشرف أهم .. أهم من اَلم الفتاة ودمائها السائلة على فستانها، هكذا تبدو لنا الصورة بوضوح، فى ذلك المشهد الذى تصر فيه الأم باكية أن تعرف من الفاعل، وفى وسط بكائها تقذفها لومًا بـ”عملنا فيكِ إيه عشان تعملى فى نفسك كدا؟!” ..”ردى يا شرموطة”، فى المقابل تتمسك الفتاة بالسكوت، بعد أن أضحت كالجماد لا يحركها شئ ولا يؤلمها قول أو فعل.

“مش كل حاجة هنقعد نقول الظروف والفقر”

711296546971425يُظهِر كاتب السناريو صلابة فى وجه قصة “منى”، ويصر على عدم الاعتراف أو القبول بأن الظروف والفقر هما السبب فيما اَلت إليه أمورها.
ولأن “منى” منذ اليوم المشؤوم أضحت جمادًا لم تبكيها كلماته بل قابلتها بضحكة، تعبر عن استسلام لأفكار وكلمات تحفظها الألسنة وتلتصق بالأذهان، وعلى الرغم من قناعاته التى عبر عنها بلسانه، كتاباته عنها أظهرتها ضعيفة، مغلوبة على أمرها، قادها الظلم إلى حيث هى الاَن.

“مراتى مين يا جدع أنت اتجنيت!”
الدرجة الثالثة فى سقوطها فى هوة الدعارة، كان تزويجها من رجل يكبرها بنحو 30 عامًا، لــ”ستر الفضيحة” والذى كان يدمن تعذيبها، وإهانتها، تعويضًا لنقص الرجولة الذى يعانيه.
ذلك النقص الذى دفعه، أن يقبل بتقديم زوجته فريسةً لأحد أصدقائه مقابل 30 حنيهًا، وشرطه الوحيد أن يشاهد ما سيجرى، لم ير “الديوث” فى ذلك عيبًا لأنها مجرد فتاة مطعون فى شرفها، فما هى إلا وليمة رخصية الثمن يتمتع بها وقتما شاء ويُمتِع أصحابه بها ولو بثمن بخس، وعندما سأله صاحبه إن كانت تلك زوجته، رد بغضب “مراتى مين يا جدع أنت اتجنيت!”

309901740867645

“السجن كان أرحم”
بعد الهروب من هذا الرجل .. نجد “منى” تقرر الدخول فى عالم الظالم، وتختار “الحبس” على أن تستمر حياتها مع هذا الشخص، خاصة مع ظلم أهلها لها بالرضا والسكوت والوهن، ولأول مرة تفكر فى الانتقام من أحد ظلمها، وكأن “منى” أصابتها متلازمة ستوكهولم، لجأت لمن اغتصبوها لمساعدتها فى الإتيان بالرجل فريسة تُنزِل به العقاب.

تنتقل بنا “منى” لمرحلة أخرى فى حياتها، حينما دخلت عالم الملاهى الليلية، وهناك تتحول من مفعول به لفاعل، هى القوية التى تتحكم فى البنات العاملات بالملهى، ومن يتعدى حدوده مع إحداهن، تبطش به، وإن فعلت إحداهن ما يغضبها، غرزت فى وجهها الموس لتترك علامة كالتى طُبِعَت على وجهها، ثم نعرف منها أنها عملت راقصة، والتقت وقتذاك بموزع مخدرات يدعى “أحمد”، كانت تساعده فى عمله مقابل أن يحميها، ومن هنا نشأت قصة حب، ظنت حينها أنه الخلاص من كل ما تقاسيه.

“أنا مش عارفة حياتى هتنتهى إزاى”
أصرت “منى” على الزواج من موزع المخدرات على الرغم من المشاكل الجنسية التى يعانيها، وقامت بتوفير نفقات الزواج، حتى الشقة قامت بتأجيرها وفرشها مما تحصلت عليه من عملها بالملهى، وعاشت معه حتى رزقت بابنتها”حياة”، إلا أن إزدواجية المعايير لدى “أحمد” دفعته لتطليقها، والتشهير بها فى المحاكم كونها عاملة بالجنس، ليحرمها من حضانة ابنتها، ويتركها للشارع مجددًا.

تختتم “منى” روايتها بجملة ” أنا مش عارفة حياتى هتنتهى إزاى ..بس المهم بنتي”
ينتهى الحديث ويكتفى كاتب السناريو والمخرجة بهذا القدر من قصة “منى”، لكنها ليست النهاية بعد، تظهر “منى” مرة أخرى حائرة، تائهة، تحاول الهروب بين حوائط الصفيح، فلا تتمكن، حتى تفاجأ بالضابط إياه يقيدها، ويلقى بها حبيسة فى مكانٍ أشبه بالعشة، فنراها أمامنا فى نفس المكان، اثنتين، واحدة فاض بها من وجع الحياة ومرارها فتقرر الخروج منها عبر بوابة الانتحار، والأخرى تحاول الهروب من هذا المصير، تطرق الباب بعنف وتصرخ “خرجونى من هنا” لعلها تجد من ينجدها.. فما من منجدٍ.
يسقط حائط الطوب الأحمر الذى تسند عليه “منى” وهى تردد كلمات الأغنية التى كانت تغنيها أمها، “ايش تعملى يا بنية، أميرة بنت ملوك وبيحرموك المية”.. لتسقط أمامنا مغشيًا عليها فنتمكن أخيرًا من رؤية النور، حيث يظهر صناع الفيلم الحقيقيين وهم يختتمون عملهم… لنكتشف أننا كنا نشاهد فيلمًا داخل فيلم.
ينتهى الفيلم، بإشارة من فريق العمل، إلى أن “منى” الحقيقية قد دخلت السجن وخرجت، مؤكدين أنهم لا يعلموا عنها سوى ما قدموه، ولذلك اختتموا بجملة “تستمر حياتها وحياتنا كما كانت”.

تفاصيل أخرى
حصد الفيلم الكثير من التفاصيل الصغيرة، الموجودة فى محلها، مثل لزمة “منى”، “أنتِ فهمانى”، والتى استخدمتها كثيرًا خلال حديثها، خاصة عند النقاط التى لا تود الاستفاضة في شرحها.
موسيقى “زيد حمدان” جاءت متوافقة تمامًا مع السياق العام، ففى البداية تأخذنا تدريجيًا مع الظلام تنبأنا بأن شيئًا ما قادم، وفى محل اَخر نسمع الموسيقى فى الخلفية، تضيف حيوية لصوت “منى” وهو يحكى لنا مراحل متفرقة فى حياتها.
المشاهد تحمل الكثير من المشاعر، على الرغم من قصرها، وعدم الإطالة فى الكلام مما أضفى مزيدًا من المصداقية على الفيلم ككل، والعنصر الأهم والأساسي طوال الفيلم، وهو الحوائط المتصدعة وقطع الصاج التى بدأت وانتهت القصة فى كنفها.