في العاصمة السودانية الخرطوم، يعلو الهتاف المطالب بإسقاط النظام، تقترب الجموع من القوات الشرطية التي بدورها تستخدم الغاز المُسيّل للدموع كوسيلة للرد على مطالب المحتجين والمحتجات الذين سئموا تدهور الأوضاع الاقتصادية والقبضة الأمنية. هذا المشهد يعاد يوميًا في أنحاء شتى في السودان لما يقترب من الشهرين.

منذ أن انطلقت المظاهرات الشعبية في السودان احتجاجًا على رفع أسعار الخبز، كانت النساء أحد ركائز هذه الحركة الاحتجاجية، وظهرت الناشطات في الصفوف الأمامية يصدحن بالهتاف الأقوى الاَن في السودان “تسقط بس”. وتعد الاحتجاجات التي اندلعت في الـ19 من ديسمبر الماضي، هي الأقوى منذ أن اعتلى عمر البشير سدة الحكم في العام 1989، وتواجه الشرطة المتظاهرين بعنف مفرط مما أسفر عن سقوط العشرات. وترجح قوى المعارضة ومنظمة هيومن رايتس ووتش أن أعدادهم تزيد عن الخمسين، بينما تقول لجنة تقصي الحقائق التي شكلّها البشير في بيان أصدرته في الـ 6 من فبراير الجاري، أن العدد لم يتجاوز الـ31. وبشأن الاعتقالات المستمرة، فحسب منظمات حقوقية غير حكومية، فإن الأجهزة الأمنية اعتقلت ما يزيد عن الـ1000 متظاهر ومتظاهرة، فضلًا عن 18 صحافيًا وصحافية.

السودان يستعيد هتاف «الشعب يريد»

منذ أن جلس البشير على مقعد الرئاسة إثر انقلاب عسكري في الـ30 من يونيو من العام 1989، لم تنعقد أي انتخابات رئاسية على مدار 21 سنة، حتى أجريت أول انتخابات تعددية في إبريل من العام 2010، التزامًا بما انتهت إليه اتفاقية نيفاشا التي أنهت الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب، وقد قوبلت هذه الانتخابات بانسحاب كبير من قبل المعارضة، بعد أن وصفها رموزها بـ”الصورية”.

فاز البشير في انتخابات 2010، ثم في انتخابات 2015 رغم إعلانه قبل سنوات من عقدها عدم الترشح مجددًا للرئاسة، ويتطلع الاَن إلى الترشح في انتخابات 2020 إلا أن الاحتجاجات الحالية قد تطيح باَماله في مزيد من سنوات الحكم.

كان قرار الحكومة السودانية برفع أسعار الخبز بثلاثة أضعاف، هو القشة التي قسمت ظهر البعير، بعد شهور قليلة من رفع أسعار الوقود وارتفاع التضخم إلى ما يقرب من 70 في المئة. تضافرت العوامل التي دفعت بالمواطنات والمواطنين إلى الخروج في شوارع الخرطوم وعطبرة وأم درمان وغيرها من المدن السودانية، مطالبين بإسقاط النظام مرددين هتاف الثورات العربية الشهير “الشعب يريد إسقاط النظام”.

في هذه الانتفاضة الشعبية الواسعة، تشارك النساء ببسالة وما يحمّلنه على عاتقهن أبعد من كونه احتجاجًا لإسقاط نظام قمعي أو إنهاء وضع اقتصادي في أحلك حالاته، فهو احتجاج ضد نظام أبوي ينتهك حقوقهن لما يقارب الثلاثين عامًا حتى الاَن.

النساء يقدن ثورتهن

تشارك النساء من جميع الفئات والأعمار في المظاهرات المطالبة بإسقاط النظام السوداني، ومنهن الطالبات وربات البيوت والنساء العاملات والأكاديميات. خرجت النساء يهتفن باسم الحرية والعدالة، لتكون انتفاضتهن أعظم رد على نظام ظن أنه نجح في تهميشهن وتنحيتهن عن المجال العام، بكل ما مارسه من إجراءات وكل ما صاغه من قوانين لتكبيلهن وعزلهن. وربما كانت هذه الصدمة التي أحدثتها مشاركة النساء القوية والشجاعة، السبب في تصعيد النظام لحملات الاعتقالات التي استهدفت الناشطات الحقوقيات السودانيات، حيث اعتقلت السلطات الأمنية عشرات الناشطات، وحسب بيان للتحالف الإقليمي للمدافعات عن حقوق الإنسان في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا فإن السلطات اعتقلت 60 ناشطة حتى يوم 22 يناير الماضي. وقد استهدفت الدفعة الأولى من الاعتقالات الناشطات اللاتي شاركن في مظاهرة احتجاجية دعت إليها مبادرة “لا لقهر النساء” وهي مبادرة تعني بمناهضة العنف ضد المرأة، وتجمع “محاميات بلا حدود” الذي يقود حملات مستمرة للتصدي إلى القوانين المنتهكة لحقوق الإنسان عامة وحقوق النساء خاصة؛ وفي مقدمة المستهدفات كانت الدكتورة إحسان فقيري، منسقة المبادرة التي أفادت مصادر مقربة منها بأن أفراد من جهاز الأمن اقتحموا منزلها واقتادوها إلى مكان غير معلوم، كما اعتقلت القوات الأمنية الناشطات: حنان محمد نور، ونجلاء نورين، ورشيدة شمس الدين، وإحسان كزام. وعلى الرغم من أن توقيفهن لم يتجاوز الساعات، فقد ألزمتهن الشرطة باستدعاء يومي من الصباح وحتى المساء حتى تحول دون مشاركتهن في المظاهرات أو تنظيمهن لوقفات احتجاجية.

كما طال الاعتقال الناشطة والصحافية السودانية أمل هباني الحاصلة على جائزة “قنيتا ساقان” من منظمة العفو الدولية، التي سبق أن اعتقلتها السلطات 15 مرة قبل ذلك بسبب نشاطها السياسي، وكتاباتها المنتقدة لسياسات النظام السوداني.

أما اَسيل عبده الناشطة في مجال حقوق الأطفال، التي تركز قدرًا كبيرًا من نشاطها على مناهضة ختان الإناث (تشويه الأعضاء التناسلية) والتحرش الجنسي، فقد تعرضت للتوقيف أثناء مشاركتها في مظاهرات “موكب 17 يناير” التي قصدت القصر الجمهوري، وبعد إطلاق سراحها نشرت عبر حسابها على موقع فيسبوك، صورًا مصحوبة بروايتها عما تعرضت له من اعتداء جسدي فضلًا عن إهانتها وتهديدها بالاغتصاب.

وفي نهاية الشهر الماضي، أوقفت السلطات كلًا من الناشطة والكاتبة اَمال جبر الله سيد أحمد، عضوة الحزب الشيوعي السوداني، والمحامية الحقوقية حنان حسن خليفة، المعروفة بدفاعها عن حقوق السجناء وحرية التعبير.

وفي الأول من فبراير الجاري، اعتقلت قوات الأمن الناشطة والكاتبة النسوية هادية حسب الله، وتحفظت عليها لعدة ساعات حتى أطلقت سراحها، ثم أوقفتها مجددًا بعد بضعة أيام. وكانت حسب الله قد نشرت مقطعًا مصورًا في يناير الماضي، تدعو فيه السودانيات والسودانيين للمشاركة في الاحتجاجات المناوءة لنظام البشير.

كاميراتهن تثير الذعر

شاركت الصحافيات السودانيات في المظاهرات، والهدف الرئيس هو توثيق وتغطية ما يجري امتثالًا لما تفرضه مهنتهن من مبادئ ومسؤوليات، إلا أن السلطات لا تعترف بأحقية الصحافة في تغطية هذه الاحتجاجات التي تسعى إلى إخمادها أو على الأقل إخفائها عن العالم، ولذلك فقد صادرت الشرطة معدات مجموعة من الصحافيات، كما أوقفت بعضهن وسحبت منهن تراخيص مزاولة المهنة، ومن بينهن؛ رشان أوشي وإيمان حمد النيل، وأمنيات محمد علي.

ورغم كل ما ترتكبه السلطات السودانية من انتهاكات بحق النساء، بموجب الدستور السوداني والاتفاقيات الدولية، لتقويض مشاركتهن في الاحتجاجات، فإن حضورهن في الشارع يظل قويًا، ويمتد حِراكهن ويتسع دون أن تنال منه الهراوات والغاز المسيل للدموع والاعتقالات الشعواء، وهو ما يعبر عن حجم الغضب داخل نفوسهن، الذي تراكم على مدار ثلاثين عامًا، عانين خلالها تحت وطأة نظام أبوي قنن استباحة أجسادهن وانتهاك اَدميتهن.

30 عامًا من انتهاك حقوق النساء بالقانون

في السودان، يخبرنا الواقع بأن أغلب القوانين تستند إلى مرجعيات متشددة،  وتشرعن أشكال وصور العنف ضد النساء المختلفة بدعوى التوافق مع أحكام الشريعة الإسلامية، مما يساهم – مع كونها جزءًا من الثقافة المجتمعية – في استمرارها بمعدلات مرتفعة، وتشير تقديرات صندوق الأمم المتحدة للطفولة (يونسيف) أن ثلث النساء السودانيات اللاتي تتراوح أعمارهن بين 20 و24 عامًا، تزوجن قبل عيد ميلادهن الثامن عشر، وهو أمر مشرّع بالقانون، إذ تبيح المادة 40 من قانون الأحوال الشخصية السوداني، زواج الفتيات اللاتي يبلغن من العمر 10 سنوات بإذن من قاضي المحكمة.

ووفق أرقام الجهاز المركزي للإحصاء الحكومي، فإن نسبة 86.6 في المئة من النساء السودانيات في الفئة العمرية ( 15-49) عامًا، أخضعن لممارسة تشويه الأعضاء التناسلية والمعروفة باسم ختان الإناث، ولا يجرم القانون السوداني هذه الممارسة، وكان مجلس الوزراء السوداني في العام 2009، قد أسقط المادة 13 من مشروع قانون الطفل لسنة 2010، وهي المادة التي نصت على منع وتجريم ختان الإناث بمختلف درجاته، وقد أرجع المجلس قراره إلى التزامه بالفتوى الصادرة من مجمع الفقه الإسلامي التي تميز بين الختان الفرعوني والسنة بإباحته وتسميته بالختان الشرعي.

جدير بالذكر أن منظمة الصحة العالمية تعتبر الختان الفرعوني أسوأ أنواع الختان، حيث يجري استئصال كل الأعضاء التناسلية الأنثوية الخارجية، بالإضافة إلى تضييق فتحة المهبل، عن طريق الخياطة، لتبقى فتحة صغيرة للبول والحيض. بينما يعرّف البتر جزئي للبظر بختان السنة.

وبحكم القانون السوداني لا تملك النساء حق ارتداء ما يروق لهن، إذ تنص المادة 152 من القانون الجنائي السوداني على أن للشرطة الحق في القبض على كل من تراه يرتدي ملابس فاضحة أو مخلة بالاّداب العامة، وبموجب هذه المادة تلاحق القوات الشرطية النساء في الشوارع، وتعتقل الاَلاف منهن استنادًا إلى نص فضفاض يسمح بانتهاك خصوصية النساء، وقد يعرضهن لعقوبة الجلد أو الغرامة أو الاثنين معًا، وتعد الناشطة النسوية ويني عمر واحدة من أبرز النساء اللاتي لاحقهن هذا الاتهام، بعد أن أوقفتها الشرطة في أحد الشوارع لأنها ترتدي تنورة. وبعد سجال قضائي، شطبت المحكمة التهم الموجهة إليها. وفي القانون الجنائي أيضًا، تأتي الفقرة الثانية من المادة 154 لتبيح اتهام النساء والرجال المجتمعين في مكان ما ولا تربطهم صلات زواج أو قرابة بممارسة “الدعارة”، وبموجب هذه المادة تواجه عشرات النساء عقوبة الجلد.

علاوة على ذلك، فإن القانون السوداني كسائر قوانين الدول العربية لا ينص على تجريم الاغتصاب الزوجي، ولذلك واجهت الشابة نورا حسين في العام 2017، تهمة القتل العمد بعد أن طعنت زوجها بالسكين دفاعًا عن نفسها، عندما حاول ممارسة الجنس معها بالقوة، بعد أن ارتكب الجرم نفسه في اليوم السابق للحادثة. وقد أصدرت المحكمة حكمها الأول بالإعدام، إلا أن الضغط الدولي والحملات التي قادها نشطاء ومنظمات حقوقية محلية ودولية تحت عنوان “العدالة لنورا” أدت إلى تخفيف الحكم، حيث ألغت محكمة الاستئناف في يونيو من العام 2018،  حكم الإعدام واستبدلته بالحبس لخمس سنوات.

هذه عينة من القوانين التي تقوم على منطق التمييز ضد النساء وتعزز العنف ضدهن في السودان، ويبدو جليًا أنه بدعوى تطبيق الشريعة تتبنى السلطة “تشييء المرأة” كأساس لتشريعاتها وإجراءاتها تجاههن، ورغم أن ذلك يأتي مدعومًا بثقافة مجتمعية، ومصحوبًا ببطش، لم تكف النساء عن مقاومة هذا القمع، وها هن في الميادين والشوارع يحاولن اجتثاث جذوره.