لم يعد الاستماع إلى موسيقى وأغاني المهرجانات مقتصرًا على الوجود داخل “توك توك” أو أثناء حضور حفل زفاف في منطقة شعبية، فقد أضحى هذا النمط من الموسيقى هو الأشهر في شتى أنحاء مصر، وباتت أغانيه طقسًا أساسيًا من طقوس المناسبات على اختلافها وأينما كانت، في حي راق أو حي شعبي أو منطقة عشوائية، كما صار طبيعيًا أن تتصدر هذه الأغاني قوائم التفضيلات على الهواتف النقالة والأجهزة الإلكترونية. وعلى الرغم من اتساع رقعة مستمعي “المهرجانات” يومًا بعد الاَخر، فإن الجدل الدائر بشأنها يتجدد مع كل نجاح شعبي تحققه أغنية تنتمي إلى هذا التيار، وعادةً ما يتركز في إشكالية محددة ووحيدة وهي العلاقة بين هذا النمط من الموسيقى والذوق العام، وما إن كان ينحدر به إلى الهاوية أم يعبر بالفعل عنه بما طرأ عليه من متغيّرات بفعل التحولات الاقتصادية والسياسة، بينما لا يعني غالبية المثقفين والموسيقيين إن لم يكن جميعهم بزوايا أخرى في تحليلهم للظاهرة.

نتيجة طبيعية للمتغيرات الاجتماعية

“عادة ما يواجه هذا التطور تحفظات متباينة، قد تكون فنية أو أخلاقية وأحيانًا اجتماعية،” يقول سيد محمود وهو كاتب وصحافي وشاعر مصري، وسبق له أن ترأس قسم الأدب في عدد من الصحف المصرية.

ينظر الكاتب الصحافي إلى موسيقى المهرجانات باعتبارها جزءًا من تطور المجتمع، مشيرًا إلى أن التاريخ الموسيقي في مصر يحفل بنماذج مشابهة مثل الأغنيات التي غنتها أم كلثوم في العشرينات وكانت تعرف باسم “أغاني المقاهي”، ووصفها أبناء ذلك الزمن بالأغاني الخليعة، إلا أنها في الوقت نفسه كانت تتوافق والوضع العام الذي فرضه الظرف السياسي في أعقاب الحرب العالمية الأولى.

لم تكن أم كلثوم وحدها في هذه الساحة، فقد مضى سيد درويش في الاتجاه نفسه وقدم العديد من الأغاني التي وُصِمت بــ”الخلاعة”.

في سبعينيات القرن الماضي، ظهر المغني أحمد عدوية ليقدم شكلًا من الأغاني الشعبية لم يستسغه كثيرون وقتذاك، ورفضه كبار الموسيقين متهمين إياه بالتهمة نفسها التي تواجهها المهرجانات، وهي إفساد الذوق العام.  لكنه نجح في تطوير نفسه ومشروعه حتى أصبح منتجه هو أحد معايير القياس في تقييم الأغنية الشعبية في العالم العربي، حسب الكاتب الصحافي سيد محمود.

وبشأن أغاني المهرجانات، يرى محمود أن نجاحها يعود بشكل رئيس إلى تطور الوسيط وهو الحاسب الاَلي، بعد أن مكّن هذا الجهاز أي شاب من صناع هذه الأغاني من تسجيل ألبوم كامل وهو جالس في غرفته. ويشدد محمود على أن المثقف الحقيقي نادرًا ما يعلن رفضه لهذا الفن بل يحرص على قراءته وتقييمه في سياقه.

السمة الغالبة: احتفاء بالذكورية وحطٌ من قدر النساء

بمراجعة كلمات عدد من أشهر أغاني المهرجانات الصادرة حديثًا، يمكننا أن نتلمس حجم المبالغة في الاحتفاء بالذكورة والترويج للفحولة، بالتوازي مع تسليع متعمد للنساء والإساءة لهن، ومنها: مهرجان “أنا راجل كلمتي واحدة” وفيه يقول المغني “أنا راجل كلمتي واحدة وما تفرقش معايا ولا واحدة.. ده أنا يوم ما أغمز بعنيا يوقف حواليا مليون واحدة.”

وفي مهرجان “رب الكون” لمغنيه حمو بيكا الذي حقق شهرة واسعة خلال الشهور الأخيرة، يقول “رب الكون ميزنا بميزة.. الرجولة والنفس عزيزة علشان مشرف أرض الجيزة.. لينا وضع يا صاحبي وهيبه.. دي رجولتك هي كيانك.”

وللمغني نفسه مهرجان اَخر يقول فيه “في الحرب أنا بضرب عشرة والأنثى قدامي حشرة.”

علاوة على هذا المضمون الذكوري الفج، فإن النساء تغيب عن صناعة هذا النمط من الموسيقى، فلا يمكننا أن تجد مهرجانًا تغني كلماته فتاة أو مجموعة أصوات نسائية، وهو ما يطرح تساؤلًا بشأن من يصنعون هذا النوع من الموسيقى ومدى قناعتهم بأن الموسيقى والغناء فن ذكوري ليس للنساء مكان فيه، ومكانهن لا يتعدى حدود الوقوف بين صفوف اَلاف المستمعين والمرددين لما يصدح به الرجل.

في هذا السياق، تحيلنا الكاتبة والباحثة فرح برقاوي إلى حقيقة أن هذه الأغنيات التي تتسم بالذكورية المفرطة وترسخ لكون النسوة أدوات جنسية فقط، مصدرها الأساسي هو المناطق الأكثر فقرًا وتهميشًا، وهو ما يكشف أن الخطاب النسوي لم تعترف بها هذه الطبقات من الأساس أو لم يصل إليها مطلقًا، مشيرةً إلى أن العمل القاعدي الذي تقوم به المؤسسات سواء التنموية أو الحقوقية والنسوية لا يصل إلى جميع المناطق بالطبع، وحتى في حالة الوصول إلى بعض من هذه المناطق فهذا لا يعني أنه كان مؤثرًا بالدرجة الكافية لأسباب عدة، من بينها وصول الخطاب في غير اللحظة المناسبة، أو افتقار العمل للشكل التراكمي المطلوب والمسنود بتطورات اقتصادية وتعليمية تساعد على التغيير الفعلي من أجل تحقيق  العدالة الاجتماعية والمساواة الجندرية.

وتستطرد محررة مشروع ويكي الجندر محللةً الظاهرة من زاوية نسوية “هذه الطبقات أكثر اكتظاظًا بالسكان وأكثر تهميشًا من الناحية الاجتماعية والثقافية، وبالتالي تعبر هذه الأغنيات بصراحة عن واقعهم اليومي المعاش، وهو ما يعكس اتساقًا أكبر لدى هذه الطبقة عن الطبقات المتوسطة والمتوسطة العليا التي عادةً ما تدّعي التحضر والمدنية والمحافظة، لكنها في حقيقة الأمر تُمارس العنف الاقتصادي والنفسي والجسدي والجنسي ضد النساء وتنكره في كثير من خطاباتها اليومية ومواعظها.”

تتمتع أغاني المهرجانات بشعبية واسعة بين الطبقات المتوسطة والمتوسطة العليا، وكما يستمع إليها ويتفاعل معها أبناء هذه الطبقات من الذكور، تستمتع بها الإناث فيحفظن كلماتها ويرقصن على نغماتها وتثير البهجة في نفوسهن.

“هذه الفئة من النساء التي نلاحظها ونتساءل عن أسباب إعجابها بهذه الأغنيات، يدفعنا إلى هذه الحالة من الاستغراب تجاهها، انتظار وافتراض مغلوط منا بوعي هؤلاء النسوة بما تحويه هذه الأغنيات من كلمات وأفكار ذكورية، تدعو إلى العنف في كثير من الأحيان، وقد نلاحظ عدم اتساق لدى المتعلمات والناشطات اللاتي يرقصن ويرددن كلمات هذه الأغاني التي تتحدث عنهن بدونيّة وترسخ للتمييز ضدهن، ولا نستثني أنفسنا من هذه الدائرة التي تحضر الأعراس والحفلات وترقص على الموسيقى المطروحة،” تقول الباحثة النسوية الشابة.

تلفت برقاوي نظرنا إلى أمر قد نغفله ونحن نسأل هذه الأسئلة “إذا ما نظرنا إلى حفلات الطبقة المتوسطة والمتوسطة العليا، سنلاحظ رقابة أعلى على جسد الرجل في الرقص تحديدًا، على عكس النساء اللاتي يرقصن بأريحية أكثر على الأغاني سواء كانت موسيقاها شرقية أو غربية أو حتى مهرجانات، ومع تكرر الرقص على نفس الأغنيات، فإن ذلك يؤدي بشكل تلقائي إلى حفظ الكلمات، وهو ما يعني أنهن لسن بالضرورة معجبات بكلمات الأغاني بشكل خاص ومنفصل عن النغمات والرقص، ولا يجب أن نغفل أن هذه الموسيقى تدعو إلى الرقص حقًا وتسمح به لمن لا يُجِدن الرقص الشرقي مضبوط الإيقاعات والحركات.”

الأغنية الذكورية تتصدر قائمة الأغنيات الأكثر استماعًا في العام 2018

أصدر محرك البحث “جوجل” تقريره السنوي، الذي يكشف أكثر عمليات البحث رواجًا للعام 2018، وتتضمن النتائج عمليات البحث الأكثر شيوعًا عن الأشخاص والأحداث والعروض والأغانى والبرامج التليفزيونية والمسلسلات في كل بلد، ويجري جمع البيانات من تريليونات عمليات البحث فى العالم أو الأسئلة على محرك البحث خلال العام.  وقد أبرز التقرير تصدر أغنية مهرجان “لأ لأ” لقائمة الأغاني الأكثر بحثًا في مصر خلال العام، كما ضمت القائمة أيضًا مهرجانات أخرى مثل: أنا جدع، وهات سيجارة والعب يلا.

ومن بين كلمات مهرجان لأ لأ “تلبس ضيق.. لأ لأ .. وأنا ركبي تزيق.. ومش قادر امشي .. وأصحابي تتريق” ، وفيها أيضًا يقول المغني “بنت مؤدبة ‏ لا ومتدربة.. وحافظة بتعمل ايه.. البنات تعمل حكايات .. ده لسه في اشتغالات .. جيا معاها حوارات كل البنات أشقية.”

من جانبها، تقول الكاتبة الصحافية والناشطة النسوية عفاف السيد إن أغنيات المهرجانات ليست وحدها التي تحمّل طابعًا ذكوريًا، لأن أغاني النخبة أو أغاني المطربين المشهورين تغلب عليها أيضًا الصبغة الذكورية وتعمد إلى تسليع المرأة، مشيرةً إلى أن الفرق يتمثل في أن أغاني المهرجانات واضحة وصريحة ومباشرة وتتحدث بلا مواربة.

فضلًا عن نشاطها النسوي، فإن عفاف السيد أديبة وروائية لها إسهامات أدبية مميزة، مثل رواية “السيقان الرفيعة للكذب”، ومجموعات قصصية من بينها “سعادات صغيرة”، و”بروفات” و”قدر من العشق”، وصدر لها مؤخرًا وبالتزامن مع الدورة الأخيرة لمعرض القاهرة  الدولي للكتاب “طراطيف الروح.. سرد بالعامية المصرية” عن دار روافد، كما تعمل حاليًا كمحاضر للأدب العربي بالمركز الثقافي الفرنسي في القاهرة.

ترى السيد أن المهمشين هم الأكثر استجابة وتفاعلًا مع كلمات أغاني المهرجانات، مشددةً على أن انتشارها وتأثيرها ليس حكرًا على طبقة اجتماعية بعينها.

وتردف قائلة “هذه الأغنيات تعبر عن الفردانية من خلال مفرداتها وألحانها، وبالتالي فإن صنّاعها غير متصلين بالجماعة المنتمين إليها، وتمثل هذه الأغنيات محاولاتهم للتواصل معها، ولهذا يغلب عليها البدائية والوحشية على عكس الأغنيات الشعبية التي تعبر عن فرد داخل جماعة.”

تخالف السيد هؤلاء الذين يدّعون أن هذه الأغاني لم تظهر إلا في أعقاب ثورة يناير باعتبارها أحد إفرازات المشهد السياسي وما خلفه من تغييرات اجتماعية وثقافية، وتلفت القاصة المصرية إلى أن المهرجانات كانت موجودة قبل الثورة بنحو 15 عامًا، إلا أنها شعبيتها اقتصرت وقتها على المناطق التي تنتجها، ولكن بعد انتشار التكنولوجيا وزيادة الإقبال على مواقع التواصل الاجتماعي بداية من العام 2011، خرجت هذه الأغنيات من مناطقها ووصلت عبر الفضاء الإلكتروني إلى الطبقات الأخرى وحققت الانتشار الذي بلغته الاَن.

تعتقد السيد في صحة الاعتقاد بوجود فجوة واسعة بين أبناء الطبقات المهمشة وهم القطاع الأعرض من جمهور المهرجانات من ناحية والخطاب النسوي من ناحية أخرى، وترجعه إلى أن صعوبة الوصول بالأفكار والمبادئ النسوية إلى مجتمعات موجودة في المراتب المتدنية من الهرم الثقافي، لأنها محكومة بالفكر الذكوري الجمعي، وتناظر السيد محتوى هذه الأغنيات بأغنيات الريف والصعيد التي تستخدم نفس اللغة الفجة، وتذكر الأعضاء التناسلية للمرأة وتصف العلاقة الجنسية بألفاظ صريحة، لكنها تؤكد أن الجدل لا يلاحق الأخيرة لأنها لم تنتشر عبر الشبكات الاجتماعية.

نلهث وراء البهجة فقط.. الجمهور لا يهتم بكلماتها

حسب الكاتب الصحافي والباحث في الشأن الموسيقي محمد الأسواني، فإن أغاني المهرجانات لا ينجح منها ما هو ذكوري فقط، وإنما القاسم المشترك هو الاعتزاز بالقوة والتفاخر سواء بالنوع (لذلك تعد ذكورية) أو بالقوة أو بالمال أو بالنجاح، مثل أغنية “مافيا” للممثل محمد رمضان، وأغنية “أنا جدع” وغيرهما.

لا ينفي الأسواني السطوة الذكورية على كلمات هذه الأغاني، لكنه يوقن بأن تقبلها يأتي من قناعة المغني والطبقة الموجه إليها هذه الأغاني وهي نفسها الطبقة التي ينتمي إليها صنّاع المهرجانات، بأن الأفكار الواردة في الأغنيات هي أمور مسلّم بها في مجتمعاتهم.

ويفسر الأسواني  إقبال النساء على هذه الأغنيات رغم كلماتها التي تبدو شديدة الذكورية بأن مثل هذه الكلمات تأتي كجزء من إيفيه في الأغنية، فضلًا عن أن المهرجانات لا ترتقي إلى التقييم الثقافي ولا حتى التدقيق في جملها، على خلاف رد الفعل في حالة تقديم مطرب معروف لأغنية ذكورية، لأنه يتعرض حتمًا للانتقاد مثلما حدث مع المغني رامي صبري عندما أصدر أغنية حملت اسم “الراجل”، وجاء من بين كلماتها “لما الراجل يتكلم الست متعندش معاه.. متقولوش حاضر في كلام يتقال..  تاني يوم تنساه.. تفهم وتقدر قيمته لو عايزة تكمل وياه.”

ويشدد الأسواني على أن التعلّق بهذه الأغاني أمر تلقائي لأن نغماتها مثيرة ومحفزة على الرقص، وهذا لا يعني بالضرورة أن الفتيات يصدّقن ويؤمنّ بما تحمله من معانٍ، “تعتمد المهرجانات بشكل أساسي على الإيقاع والرقص وليس الكلمات، لذلك ففرصة أن يسأل مستمعوها أنفسهم عن ما تقوله، أو عن ما ترسخه من أفكار ذكورية، أو عن مدى اتفاقها مع قناعتهم، تكاد تكون مستبعدة تمامًا.”