عنبرة سلام الخالدي: مناضلة قادها عقلها إلى التمرد..«تعليــم الفتاة» قضيتها الرئيسة.. والأدب معشوقها
على الرغم من مرور سنوات كثيرة على رحيلها إلا أن بصمتها في الثقافة العربية ونشاطها في إطار حركة تحرير المرأة خاصةً في الشام، دفعا بمحرك البحث «جوجل» قبل عدة أشهر إلى الاحتفال بالذكرى الـ 121 لميلادها، بما يفتح مجالًا للتعرف إلى سيرتها التي تعرضت للإهمال طويلًا.
ولدت عنبرة سلام الخالدي في العاصمة اللبنانية بيروت، في العام 1897، إبان الرعاية العثمانية على لبنان؛ ومثل كثيرات من رائدات الحركة المبكرة، فقد تمتعت عنبرة بقسط من التعليم بسبب نشأتها في كنف أسرة مطلّعة ومثقفة، وهو ما أهلها فيما بعد للتسلح بالقلم والكتابة في مواجهة الجهل والذكورية السائدين.
تعليم.. وحرب.. وأساتذة يزكون النضال
درست عنبرة في مدارس أهلية وأخرى أجنبية، مثل مدرسة مار يوسف ومدرسة المقاصد للبنات التي تتلمذت فيها على يد جوليا طعمة دمشقية؛ وهي تربوية وفي الوقت نفسه أديبة ورائدة من رائدات الحركة النسوية المبكرة، وقد تركت أثرًا عميقًا في تشكيل توجه عنبرة والانفتاح على الاَداب العربية والعالمية والإيمان العميق بضرورة تحرير المرأة العربية. إلا أن الحرب العالمية الأولى أرغمت عنبرة على ترك المدرسة والمكوث بالمنزل، ومع ذلك رفضت أسرتها أن تنصرف ابنتهن عن التعليم، ووفرت لها الفرصة لتلقي الدروس المنزلية على يد أشخاص مشهود لهم بالعلم والنبوغ، خاصة في اللغة العربية والشعر مثل؛ عبد الله البستاني والأديبة سلمى صائغ التي شاركتها لاحقًا وأخريات في تأسيس جمعية «النهضة النسائية» لتشجيع الصناعات الوطنية اللبنانية.
إلى جانب اللغة العربية، أتقنت عنبرة اللغة الفرنسية والعزف على البيانو، وإن كانت أسرتها قد اتسمت بالانفتاح على تعليم الفتاة، فإنها لم تكن كذلك في أمور أخرى، بل بدت شديدة التمسك والإذعان لأعراف المجتمع فيما يخص الحجاب، حيث فرضت والدتها عليها تغطية الرأس والوجه بما كان يُعرف بــ«الفيشة»، بعد إتمام عامها العاشر بقليل بما يتفق وطباع وتقاليد المجتمع البيروتي وقتذاك.
تعليم الفتيات وتثقيفهن على رأس أولوياتها
تمخضت هذه النشأة إلى جانب نشوب الحرب العالمية الأولى، عن انخراطها المبكر في المجال العام من خلال تأسيس الجمعيات النسائية، مثل جمعية «يقظة الفتاة العربية» التي دشنتها بالتعاون مع أخريات في العام 1914، وقمن من خلالها بالأعمال الخيرية بجانب إنشاء مدارس جديدة وإقامة حفلات شعرية وندوات تثقيفية، كما ترأست النادي الاجتماعي للفتيات المسلمات، ويأتي من بين أبرز انجازاتها خلال فترة رئاستها للنادي، إلحاق مدرسة به تختص بتعليم البنات والأولاد الذين ينتمون إلى أسر فقيرة، إلى جانب التكفل باحتياجاتهم المادية.
فضلًا عن ذلك، فقد كتبت عنبرة في الصحف تطالب بفتح أبواب التعليم أمام عموم الفتيات وإشراك النساء في الحياة السياسية، وقد بدأت الكتابة في عامها السادس عشر، ونشرت أولى مقالاتها في جريدة «المفيد» اليومية التي أسسها الصحافي اللبناني عبد الغني العريسي في العام 1909.
التمرد على الحجاب وما فعله بالشارع البيروتي
في العام 1925، سافرت عنبرة إلى انجلترا بصحبة والدها، وبحسب ما أوردته في كتابها «جولة في الذكريات بين لبنان وفسطين»، فقد أثار تحرر الإنجليزيات بالمقارنة بالنساء العربيات، خاصة فيما يتعلق بالحجاب التساؤلات لديها، وتقول في كتابها أنها كانت تغبط الإنجليزيات على ما يملكن من حرية لا تملكها بنات العرب، وقد طلبت أكثر من مرة من والدها سليم علي سلام، الرجل الذي شغل منصب رئيس بلدية بيروت وعرف باستنارته، أن تخلع الحجاب أثناء تواجدها في ذلك البلد، فتقبل الأمر وبالفعل ارتدت القبعة مثل الإنجليزيات. وبعد عودتها إلى لبنان في العام 1927، شاركت في محاضرة في «نادي الأحد» في الجامعة الأميركية في بيروت، بعنوان «شرقية في إنجلترا»، تحدثت خلالها وهي كاشفة الوجه عن زيارتها إلى ذلك البلد وتجربتها الشخصية، مما أثار غضب المجتمع حينذاك كما حرك الماء الراكد في الوقت نفسه، إذ كتب لها الشاعر اللبناني عبد الرحيم قليلات قصيدة باسمها «عنبرة في سفورها وحجابها»، ويقول في جانب منها:
الله للعرب حسبي لطفه حسبي
في ما دهى العرب من كرب ومن خطب
كرب الجهالة أربى طينها بللاً
خطب السياسة في أهل وفي صب
أمرُ به العلم، لا رعد الحجاب ولا
برق السفور أمير العقل واللب
حُييت (عنبرة) الفصحى معطرة
روض النهوض بربا عرفك الرطب
تنشق القلب شاذي نفحه وكفى
ما العطر للعين إن العطر للقلب
في القدس: إنتاج ونضال كثيفان اصطدما بالنكبة
في العام 1929، تزوجت بأحمد سامح الخالدي مدير الكلية العربية في القدس والمسؤول الأول عن تعليم العرب في فلسطين؛ وانتقلت للعيش معه في القدس حتى العام 1948 عندما حلت النكبة.
وقد شاركت خلال هذه الفترة في الحِراك السياسي والنسوي في فلسطين، فألقت المحاضرات وعندما أنشئت دار الإذاعة في القدس في العام 1936، كانت من أوائل المدعوات لافتتاح الحديث النسائي فيها، كما تعاونت مع زوجها في خدمة القضية الفلسطينية، من خلال لقاءات مع اللجان الرسمية البريطانية والدولية والعديد من الصحافيين والكتاب الأجانب، الذين اعتادوا ارتياد منزلهما في القدس.
جاءت النكبة لتجبر عنبرة وأسرتها إلى ترك القدس والعودة إلى لبنان، بعد أن كانوا ممن هُجِّروا قسريًا وقتها، وكان لذلك أثره العميق في نفسها ونفس زوجها الراحل في العام 1951.
أنجزت عنبرة ترجمات لمجموعة من روائع الأدب الغربي مثل «الإلياذة» لهوميروس، التي تعد أهم ملحمة شعرية إغريقية وتحكي قصة حرب طروادة، وقد كتب المقدمة لترجمتها الأديب طه حسين، كما أصدرت ترجمت «الأودسيا»، وإن كان نشاطها قد تراجع بعد النكبة، إلا أنها أصدرت في العام 1979 كتابها «جولة في الذكريات بين لبنان وفلسطين»، الذي توثق من خلاله الواقع الاجتماعي والسياسي للبلدين من خلال رحلتها وخبرتها.
رحلت عنبرة في العام 1986، وبعد 30 عامًا وتحديدًا في إبريل من العام 2016، كرمّت ذكراها حفيدتها المخرجة عليه الخالدي من خلال عرض مسرحي اختارت له اسم «عنبرة»، قدمته على خشبة مسرح بابل في بيروت، وتروي من خلاله تفاصيل الثلاثين عامًا الأولى في حياة هذه السيدة التي تحدت التقاليد ودافعت عن حقوق النساء لا سيما في مجالي التعليم والسياسة.