عن الكاتبة

ميرنا أحمد: عضوة بمبادرة «براح اَمن» النسوية

كل يوم نذهب إلى العمل، نحاول جاهدات أن نتناسى ما نمر به من تحرش في الشوارع أو في المواصلات، بالإضافة لما نحاول تخطيه من مختلف أشكال العنف الذي تتعرض له معظمنا في البيوت، بدايةً من القمع و الترهيب مرورًا بالضرب و العنف الجسدي، فبمجرد وصولنا إلى أماكن العمل يبدأ نوع جديد من العنف بالتجسد في صورة لا نستطيع وضعها أمام المجتمع ليعترف بها وبأنها عنف مُمارَس على النساء، ألا وهو التحرش والاستغلال الجنسي في أماكن العمل الذي من الممكن أن يبدأ من أول مقابلة في العمل (Interview)، فلا تغيب عن ذاكرتي أول مقابلة عمل قمت بها مع رجل أعمال يمتلك شركة مقاولات هندسية، كنت حينها متقدمة لوظيفة مديرة مكتب، وكان المرتب مغري جدًا خاصةً أني حديثة التخرج. ذهبت إلى المقابلة وكان رجلًا خمسينيًا، بدأ المقابلة ببعض الأسئلة الشخصية مثل: هل أنتي مرتبطة، هل تتقبلين العلاقات المفتوحة؟، فتعجبت من هذه الأسئلة، فقد كنت استعد طوال الليل لنوع آخر من الأسئلة، مثل: خبراتي العملية، دراستي، وكم لغة أتحدث وغيره، إلى أن جاءت لحظة العرض المغري بالمرتب الكبير والسيارة التي ستوفرها لي الشركة بالسائق، عندها قاطعته بهدوء وسألت عن مهام العمل تحديدًا، فرد علي بسؤال باللغة إنجليزية في محاولة منه للتخفيف من وطأة الموقف “هل أنتِ عذراء؟”، فكانت إجابتي “لماذا تسأل؟”، فأجاب – باللغة الإنجليزية أيضًا – بأنه يحب أن تكون مديرة مكتبه مثل زوجته، لأن مديرة مكتبه تعرف كل أسرار عمله، فقمت من مكاني فزعةً وخرجت نحو الباب مسرعةً، وحتى يومنا هذا لا استطيع نسيان هذا الرجل حتى بعد مرور خمسة أعوام على هذه المقابلة.

لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، ولا يتوقف عند أول مقابلة فقط، فالعديد من أماكن العمل تمر فيها أول مقابلة في سلام، ويتم قبولنا للعمل في مؤسسات كبيرة من حيث الشكل والهيكل، ولكننا نواجه أنواعًا مختلفة من التمييز والعنف أحيانًا بداخلها، بعض أشكال التمييز داخل أماكن العمل والمبنية بالأساس على النوع الاجتماعي، حيث تتعرض لها النساء لكونهنّ نساء؛ التمييز في تولي المناصب حيث يسود تنميط يُرسخ إلى أن المناصب الكبرى التي تتطلب السفر دائمًا الأنسب لها هم الرجال، التمييز في الأعمال المختصة بالرجال فقط فما زالت هناك مجالات للرجال فقط، التمييز في نسب البدلات الخاصة بسفريات أو ساعات العمل الإضافية مدفوعة الأجر أيضًا، إذ يتم صرفها للرجال في أغلب الأحيان، كما توجد أشكال مختلفة من العنف كذلك، فتلك النظرة الخارقة لأجسادنا من الزميل أو المدير أو حتى قد تأتي تلك النظرات لمديرة من إحدى أعضاء فريق العمل معها، فلا يهم هنا المنصب، تلك النظرات التي نعرفها جيدًا،وتلك الكلمات التي تحمل إيحاءات وتخطيًا للحدود المتعارف عليها في أماكن العمل، وأحيانًا اللمسات غير اللائقة التي يتم التبرير لها بأنها حسنة النية. كلها يا عزيزاتي مواقف تتعرض لها معظمنا في أماكن العمل بمختلف وظائفنا، ومراكزنا، وبمختلف أعمارنا وحالاتنا الاجتماعية والاقتصادية، وبمختلف أشكالنا.

يظل المجتمع يتعامل مع التحرش في أماكن العمل بدونية ويطلق أحكامًا على النساء، فوحدنا من نتحمل مسؤولية هذه الجريمة، ودائمًا وأبداً تكون ردة فعل المجتمع عندما تبدأ النساء بالشكوى بإلقاء اللوم عليها، ونسمع العديد من التبريرات مثل “أكيد ليها يد في الموضوع – أو أكيد هي اللي أغوته – أو ملابسها غير مناسبة للعمل – أو بأنها من سمحت له بذلك عبر إعطائه المساحة ليتحرش بها.”

وبالحديث عن التحرش في أماكن العمل، وما تتعرض له الناجيات من اللوم المجتمعي، فقد تابعنا في الآونة الأخيرة ما حدث مع الصحافية مي الشامي ومديرها دندراوي الهواري، عندما تحدثت عن واقعة تحرش حدثت لها في مكان العمل، حيث انهالت عليها الاتهامات بأنها من سمحت له بمثل هذه التصرفات بسبب أنها كانت تحكي له مشاكلها، فضلًا عن ما واجهته من ضغط مجتمعي وجه اللوم لها بدلًا من دعمها، وتزداد الأمور تعقيدًا إذا بدأ المتحرش في الإنكار وهذا ما يحدث في أغلب الأوقات، ويجزم ويحلف أنه لم يفعل هذا، وكيف تتهمه وهو يتعامل معها في إطار الأخوة والعشم، وإنها بالتأكيد مجنونة وأن ما يحدث هو نتاج خيالات وأوهام، أو الجملة الأكثر شيوعًا ” إنها غير جميلة ولا ملفتة وبالتأكيد أنها ترغب في تحرش أحد بها أو أن تلفت الأنظار إليها”، مما يجعل عبء الشكوى مضاعفًا على النساء الناجيات من مثل هذه الانتهاكات، حيث تبدأ إحدانا بالتفكير بأنها من الممكن أن تكون قد تصرفت تصرفًا ما قد يبدو غير مفهومًا جعل الرجل يتخطى حدوده، و تبدأ محاصرة نفسها بالأسئلة “هل يا ترى ملابسي غير لائقة حقاً،  هل يا ترى أنا من أعطيت له الفرصة؟”، و ينتهي الأمر غالبًا إما بالاستسلام ومحاولة تجنب هذا المتحرش أو ترك العمل نهائيًا، وهذا يحدث خاصة إذا كان المتحرش ذا منصب أو درجة أعلى في العمل.

أماكن العمل هي أرض خصبة للتحرش بالنساء، خاصة أن أغلب المتحرشين يكونون على قدر من الذكاء يجعلهم يضعون على وجوههم وجه البراءة و الأخوة والنبل والأخلاق، ومنهم من يدّعي احترامه و دفاعه عن حقوق النساء، بحيث يصبح من غير المعقول تصديق أي إدعاءات ضدهم، وفي أحسن السيناريوهات إذا استطاعت الناجية إثبات الإدعاء على المتحرش بعد التحقيق، يأتي المجتمع الوسطي الجميل ويدعم دور المتحرش ويجعل منه بريئًا مسكينًا وضعيف أمام جمال النساء وعبدًا لشهواته، لا يستطيع التحكم بها.

وهناك من يرى أن مجرد نزول النساء للعمل هو سبب ضمني بأنها لا تمانع، إذ أن المجال العام ليس ساحة للنساء – إلا إذا كان غرضه المساعدة في رفع مستوى المعيشة الاقتصادية للأسرة – وعندما تتعرض النساء لهذا النوع من الانتهاك يكون أول رد الفعل من أقرب ذكر في حياتها سواء كان زوجها أو أبيها أو أخيها، هو إرغامها على أن تترك العمل، ولا يأبه أحدهم إلى رغبتها في أن تأخذ حقها وترفع دعوى جنائية ضد المتحرش، ولا يأبه أحد بوضعها النفسي وهذا الخوف وتلك المشاعر.

التحرش هو جريمة طبقًا للمادة “306 أ مكرر” في الدستور المصري، التي تنص على أن يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن ستة أشهر وبغرامة لا تقل عن ثلاثة آلاف جنيه ولا تزيد على خمسة آلاف جنيه أو بإحدى هاتين العقوبتين كل من تعرض للغير فى مكان عام أو خاص أو مطروق بإتيان أمور أو إيحاءات أو تلميحات جنسية أو إباحية، سواء بالإشارة أو بالقول أو بالفعل بأى وسيلة بما فى ذلك وسائل الاتصالات السلكية أو اللاسلكية.

لذا نطالب بإدراج مفهوم التحرش والاستغلال الجنسي في أماكن العمل، ضمن اللوائح الداخلية للقطاع الخاص والعام، وضمان حق الناجيات في عدم تسريب بياناتهنّ لأي جهة غير منوطة بالتحقيق، وضمان عدم التعرض لهنّ، وعدم ابتزازهن في العمل، وأن يكون من ضمن جهات التحقيق في أماكن العمل، جهة مختصة بالتحقيق في مثل هذه الانتهاكات.

هذا المقال منشور في إطار حملة «حضور وانصراف»