مع تزايد استخدام مواقع التواصل الاجتماعي بما يجعلها أحد الطقوس اليومية الأساسية في حياة الأفراد، أضحى من اليسير أن يكتب أي شخص ما يريد بحرية مطلقة وأن يصل بما يكتبه  إلى أي شخص دون عوائق وإلى أكبر عدد ممكن من مستخدمي الفضاء الإلكتروني دون قيود، وفي ضوء ذلك لا يمكن لأحد أن يحدد معايير أو ضوابط لمحتوى ما يُكتَب، كما لا يملك أي شخص مُعتَدَى عليه لفظيًا من خلال أي منشور أن يحاسب كاتبه. وفي إطار هذا النمط الجديد الذي يتداخل فيه الافتراضي مع الواقعي، زاد الاهتمام الأكاديمي بما سمي بــالتنمر الإلكتروني – Cyber-bullying، في إشارة إلى استخدام التكنولوجيا في الإساءة والتندر بشكل متعمد ومتكرر ضد فرد أو مجموعة بأسلوب تهكمي وعدائي.

ويعد التنمر الإلكتروني امتدادًا لظاهرة التنمر الشائعة في سائر المجتمعات، ارتكازًا على النزعات الاجتماعية الخفية التي تؤهل لإصدار أحكام مسبقة وتعضد ممارسة التمييز، وعادةً ما يمارسها هؤلاء الذين يتمتعون بقوة ما في مجتمعهم، استنادًا إلى العرق الغالب أو الدين السائد أو الهوية الجنسانية المقبولة مجتمعيًا أو الجنس الأقوى.

وفي هذا السياق تقول ريم سعد الأخصائية النفسية، إن التنمر بشكل عام يصدر من أفراد تعرضوا له في مراحل مختلفة خلال حياتهم، مشيرةً إلى أن سلوك التنمر أشبه بدائرة العنف، فمن يتعرض له يمارسه بحق من هو أضعف منه وهكذا دَوالَيك.

وتضيف سعد في تصريحات لـــ«ولها وجوه أخرى» قائلة إن المجتمع المصري يمارس السلطة الأبوية والتنمر بشكل مستمر، «والأمر يشبه الحلقة المفرغة التي يدور فيها الجميع.»

ومما لا شك فيه أن الشبكات الاجتماعية وفرت مساحة لكل راغب في ممارسة التنمر تجاه أشخاص لا يمكنه ممارسته ضدهم بشكل مباشر وفي مقدمة هؤلاء السياسيين والرياضيين والفنانين، ويأخذ التنمر أشكالًا أكثر فجاجة بناءً على جنس الُمعتدَى عليه، خاصةً أن الصبغة الذكورية تطغى على التنمر في حالة استهداف النساء، سواء كان صادرًا من ذكور أو إناث. وهذا ما يمكن الاستدلال عليه إذا ما نظرنا إلى التعليقات التي انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي وتحديدًا فيسبوك، على الصور والمقاطع الخاصة بالفنانات المصريات والعربيات خلال الفعاليات الثقافية والفنية خلال السنوات القليلة الأخيرة، ولعل أبرزها حالة الهجوم الشرسة التي لاحقت الفنانات خلال فعاليات الدورة الثانية  لمهرجان الجونة السينمائي الدولي الذي انعقد نهاية سبتمبر الماضي.

التنمر طال نجمات بعينهن أكثر من غيرهن، لكن حالة السخرية والانتقاد طالت الجميع بسبب ملابسهن التي راَها الكثيرون لا تتفق وما يسمى بقيم المجتمع وبسبب انفتاحهن في التعامل مع الفنانين الذكور الحاضرين بالمهرجان، بما يغضب المحافظين الذين يعتقدون في خروج ذلك عن التقاليد المجتمعية.

الهجوم اللفظي على الفنانات تحديدًا ليس بالأمر الجديد في مصر، فدائمًا ما يعتقد الأفراد في أنفسهم بأنهم أدوات ضبط مجتمعي ويستخدمون التنمر وسيلة لتحقيق ذلك، إلا أن مواقع التواصل الاجتماعي رفعت من وتيرة استخدام هذه الوسيلة والأسوأ أن من يمارس هذا النوع من العنف أصبح بإمكانه الوصول إلى الأشخاص عبر حساباتهم الشخصية المفتوحة، ولم يعد الأمر يقتصر على التعليقات والمنشورات فمع تنامي التكنولوجيا وسهولة استخدام برامج إنشاء وتعديل الصور، صار من السهل على الغالبية من مستخدمي الإنترنت تعديل الصور لتحقيق غرض الإساءة والسخرية من صاحب أو صاحبة الصورة، وقد أقدم على ذلك كثيرون وعدلوا صور  الفنانات على السجادة الحمراء خلال مهرجان الجونة بدافع الوصاية الأخلاقية والدينية التي يمنحها الأفراد لأنفسهم، واللافت أن أشخاصًا خصصوا من وقتهم مساحة لتعديل صور الفنانات وتغطية الأجزاء المكشوفة من أجسادهن خلال استعراضهن للفساتين على السجادة الحمراء باستخدام الألوان، ومن ثم إعادة نشر الصور بتعليقات تهكمية تعكس رغبة دفينة في فرض كود أخلاقي.

لكن الإعلامية والناشطة النسوية هانيا مهيب ترى الأمر من زاوية أخرى، وتقول إن التنمر ضد الفنانين سواء كانوا ذكورًا أو إناثًا  في المناسبات الفنية ومن بينها المهرجانات  له أكثر من بعد، وتتابع «هناك بُعد اجتماعي ثقافي واَخر له علاقة بالظروف الاقتصادية، وفيما يخص البعد الثاني تحديدًا، فإن هؤلاء الفنانات والفنانين ظهروا أمام الشاشات يتفاخرون بملابس وإكسسوارات بأسعار مرتفعة، كما لو كانوا يعيشون في واقع منفصل عن ذلك الذي يعيشه المصريين في ظل وضع اقتصادي شديد الصعوية، وبالتالي فالإعلام والفنانين يتحملون جانبًا من المسؤولية.»

عادةً ما تتسم التعليقات على أزياء الفنانات العرب في مثل هذه المناسبات بالأبوية والرغبة في ممارسة وصاية دينية، ولذلك تتكرر التعليقات التي تتضمن كلمات عن الحساب العسير الذي ينتظر هذه النجمة أو تلك في الاَخرة أو عِبارات تحذر وترهب من عذاب القبر الذي ينتظرهن، بينما تقل هذه النوعية من التعليقات على صور النجمات في العالم الغربي، وبالنظر إلى حفل توزيع جوائز الأوسكار ستأتي أغلب التعليقات على صور النجمات على السجادة الحمراء، في إطار الإطراء والمغازلة والغبطة، وهنا أيضًا قد تظهر تعليقات وصور مركبة للسخرية  من النجمات العربيات وصورهن على السجادة الحمراء.

وعن هذا الالتباس والتناقض، تقول مهيب «تسود مجتمعنا ثقافة محافظة سواء كانت إسلامية أو غير ذلك، ويصدر عن أصحابها ممارسات ترمي إلى فرض الوصاية الذكورية على جميع النساء اللاتي يعيشن في المجتمع نفسه، بينما هؤلاء أنفسهم يراعون اختلاف الثقافة ويقدِّرون انفتاحها، ويتجلى ذلك في رؤيتهم وتعليقاتهم على المشاهير في المجتمع الغربي.»

وتؤكد مهيب على أن القوى الرجعية دائمًا ما تسعى إلى فرض هيمنتها وخاصة المحافظة منها، بسبب احتياجها الدائم لإثبات صحة مبادئها.

وعن الأمر نفسه، تقول الأخصائية النفسية ريم سعد، إن ثمة أبحاث تثبت أن الشخصية الشرقية المحافظة إذا ما تواجدت في مجتمع منفتح، عادة ما يتخذ رد فعل من اثنين، إما أن تنخرط بشكل تام  وتتماهى مع قيم هذا المجتمع وإما أن تبتعد وتنعزل عنه، ويمكن تفسير الفرق بين رد الفعل تجاه هؤلاء وأولئك بأنه ممارسة سلطوية ومحاولة لفرض كود أخلاقي على النساء في المجتمع المصري، سواء اللاتي ينتمين إلى المجتمع الصغير بمعنى الأسرة أو الكبير بقصد المجتمع.

تظل أجساد النساء أكثر عرضة للهجوم في كل الأوقات، وفي حالة النجمات تكون هي الهدف الرئيس لكل متنمر ومتنمرة، بداية من السخرية  من شكل الجسد (بناءً على تصورات نمطية عن جسد الأنثى) مرورًا بالإساءة لهن بسبب شكل الفستان والمساحة التي يغطيها من الجسد وصولًا إلى التحرش اللفظي.

تعتقد مهيب في حالة تقليد أعمى تصاحب فعل التنمر «يمكننا أن نلاحظ تكرار التعليقات التي تسيء وتتهكم على شخصية بعينها دون وعي أو مراجعة.»

وهو ما يشترك فيه الرجال والنساء على حد سواء، وفي هذا الصدد توضح سعد أن الدافع ليس أخلاقيًا بقدر ما هو سلطوي، وتشير  المعالجة النفسية إلى أن هذه الدائرة تؤثر على المستهدفات بشكل سلبي، وقد يؤدي الأمر إلى حالة من الاكتئاب، خاصةً إن كن يفتقدن إلى متانة نفسية قوية.