قبل نحو عام انطلق حِراك #Metoo، وتحديدًا في 15 أكتوبر من العام 2017 بعد أن غردت الممثلة الأمريكية إليسا ميلانو: «إذا كنتِ قد تعرضت للتحرش أو الاعتداء الجنسي.. اكتبي #أنا_أيضًا كرد على هذه التغريدة»، فانتشرت كلماتها وتلاحقت الردود عليها، وككرة الثلج أصبح وسم #MeToo أو #أنا_أيضًا هو أكثر الوسوم تداولًا حول العالم لعدة أيام، وحتى الاَن فهو الوسم الأكثر تأثيرًا خلال عام مضى.

يعود ظهور عبارة Me Too  في مواجهة العنف الجنسي، إلى الناشطة تارانا بورك التي أطلقتها في العام 2006، واستمرت حتى يومنا هذا في استخدامها كوسيلة لدعم الناجيات. لكن صدى تغريدة ميلانو كان الأقوى وهو الذي رسخ للكلمتين باعتبارهما عنوانًا لحركة المقاومة التي اتسع مداها حول العالم.

أول الغيث

جاءت تغريدة ميلانو على خلفية نشر جريدتي «نيويورك تايمز» و«نيويوركر» تقريرين يوثقان شهادات لنجمات في هوليوود، يكشفن تعرضهن لانتهاكات جنسية على يد المنتج الأمريكي هارفي واينستين.

وقد أظهر التقريران أن المنتج الأشهر في هوليوود تحرش واعتدى جنسيًا على 34 امرأة من بينهن أسماء لامعة في عالم السينما الأمريكية، مثل أنجلينا جولي، وجاسيكا بارث، جوينيث بالترو، وروز مكغوان، مما شجع أخريات من الممثلات والنجمات، مثل سلمى حايك وكيت بلانشيت، على الإعلان عن تعرضهن لاعتداءات جنسية على يد واينستين وحركت بعضهن دعاوى قضائية ضده مثل الممثلة جود اَشلى، ولا تزال الدعاوى منظورة أمام المحاكم.

نتيجة الضغط الهائل، اعترف المنتج الأمريكي هارفي واينستين بجرائمه، في أول حديث صحافي له بعد تجريده من مناصبه وأعماله في هيولوود، إذ نقلت صحيفة «سبكتيتور» الأمريكية قوله «نعم راودتُ كثيرات مقابل إعطائهن فرصًا في أفلامي التي أنتجها وأخرجها، وهو ما يفعله الجميع في هذه المهنة، ولكنني لم أجبر أي امرأة أن تفعل ما لا تريده.»

ما قاله واينستين في محاولة لتبرئة نفسه من تهمة الاعتداء جنسيًا على النساء، زاعمًا أن الطرف الاَخر كان «مُخيّرًا» ولم يكن مرغمًا على شيء وأن «القبول» كان الأساس، هو ذاته ما استخدمه العديد من الرجال الذين طالتهم نيران #MeToo لدرء التهم عنهم، ومع ذلك استمرت كثيرات في رفع النقاب عن ما تعرضن له من انتهاكات. وكما لو كان حجرًا وألقي في ماء راكد تتابعت الموجات الدائرية واتسعت، فوجدت الناجيات أصداءً لأصواتهن وبدأ المعتدون يتساقطون في الهوة.

وبحسب تحليل أجرته صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية ونشرته بتاريخ الـ 23 من أكتوبر الجاري، فإن حركة #MeToo أدت إلى الإطاحة بــ201 من الرجال ذوي المناصب العليا في الولايات المتحدة بسبب اتهامات بالتحرش والاعتداء الجنسي. كما أشار التحليل إلى أن ما يقترب من نصف من حلوا محل المُطاح بهم كانوا من النساء.

أول حكم قضائي لصالح ناجية من اعتداء جنسي بعد انطلاق #MeToo

زعم أغلب الرجال من الشخصيات العامة الذين طالتهم اتهامات الاعتداء الجنسي خلال العام الأول من عمر #MeToo أو حتى قبل ذلك، بأن هذه الإدعاءات لا تزيد عن كونها محاولات لتشويه السمعة والنيل منهم، لكن ما تغير بعد فضيحة هارفي واينستين هو أن كثيرًا من الناجيات تحررن من الخوف الذي عادةً ما كان مبعثه سلطة يمتلكها المعتدي، وتجاوز العديد منهن الاضطرار إلى السكوت عن ما حدث خشية رد فعل المجتمع المحيط، فضلًا عن أنهن وجدن في إعلانهن عن وقائع العنف دعمًا من ناجيات أخريات بما ساهم ويساهم في تهاوي جدار الصمت.

ويأتي اسم الممثل الكوميدي الشهير بيل كوسبي (81 عامًا)، كواحد من أبرز الذين حاولوا إشاعة أن اتهامه بالاغتصاب ما هو إلا افتراء يستهدف الإساءة إليه. وكان كوسبي قد سبق وتقدم بدعوى قضائية في نهاية العام 2015، ضد سبع نساء اتهمنه بالاعتداء عليهن جنسيًا، وذلك بعد نفيه بشكل مستمر ارتكاب ما أسماه «فعل خاطئ» بحق أي امرأة. لكن محكمة أمريكية قضت في سبتمبر الماضي بحبسه ما بين ثلاث إلى عشر سنوات بعد إدانته في إبريل الماضي، بتهمة الاعتداء جنسيًا في العام 2004 على مدربة كرة سلة سابقة في جامعة تمبل (جامعة بحثية عامة مقرها مدينة فيلادلفيا بولاية بنسلفانيا الأمريكية). وأدرجت المحكمة كوسبي تحت تصنيف «مفترس جنسي عنيف» وهو ما يلزمه بالخضوع إلى علاج نفسي مدى الحياة.

وعلاوة على ما يمثله الحكم من انتصار تحقق لناجيات من العنف الجنسي بعد سنوات من العناء، فإن محاكمة كوسبي تمثل انتصارًا اَخر لــــ#MeToo، إذ أنها من بين أولى المحاكمات التي انتهت بإدانة شخصية عامة في قضية اعتداء جنسي بعد انطلاق الحركة في أكتوبر من العام 2017، مما يزيد من جزع المعتدين.

مشاهير عرب متهمون بــ «الاعتداء الجنسي» أمام القضاء

في فرنسا تحديدًا أوقف عدد من المشاهير العرب على خلفية اتهامات بـ «الاعتداء الجنسي»، وأولهم المغني المغربي سعد لمجرد، 33 عامًا، الذي يواجه حاليًا اتهامًا للمرة الرابعة بالاغتصاب من قبل السلطات الفرنسية.

وكان لمجرد قد واجه اتهامًا باغتصاب فتاة أمريكية في العام 2010، إبان فترة إقامته في الولايات المتحدة، وفي أكتوبر من العام 2016 حققت معه السلطات الفرنسية في اتهام مشابه، وقضى على إثره عدة شهور موقوفًا حتى وافق القضاء على إطلاق سراحه بشكل مشروط مُلزِمًا إياه بارتداء سوار إلكتروني. وفي إبريل الماضي وجه القضاء الفرنسي إلى لمجرد تهمة اغتصاب أخرى بعد أن تقدمت شابة فرنسية-مغربية بدعوى تتهمه فيها بأنه اعتدى عليها جنسيًا وجسديًا في العام 2015، وبنفس الاتهام تقدمت فتاة فرنسية في أغسطس الماضي بدعوى جديدة تتهم فيها المغني المغربي الشاب بما يوصف بالاغتصاب، على حد ما أعلنته جهات التحقيق ليتعرض للإيقاف مجددًا.

ضربت رياح #MeToo العالم العربي أيضًا، فبرز التضامن النسوي في مواجهة المعتدين، مثلما حدث مع لمجرد الذي مُنِعَت أغانيه من البث عبر موجات عدد من الإذاعات المغربية استجابة لحملة نسوية إلكترونية انطلقت في سبتمبر الماضي تطالب بهذا من خلال وسمي #ماساكتاش و#لمجرد_آوت على خلفية الاتهامات الموجهة إليه، وهو ما دفع إذاعة «هيت راديو»، وهي الإذاعة الموسيقية الأشهر في المغرب، لاتخاذ قرار بحظر أغنيات لمجرد ومنع إذاعتها، ثم لحقت بها إذاعة «راديو 2 إم» المغربية، واللافت أن الاستجابة لم تقتصر على الإذاعات المحلية فحسب، إذ أصدرت إذاعة «موزاييك إف إم» التونسية، وهي الإذاعة الأكثر استماعًا في تونس، بيانًا رسميًا في الـ25 من سبتمبر الماضي، تعلن فيه وقف بث أغاني المغني المغربي.

الاسم الثاني هو إبراهيم معلوف عازف الترومبيت اللبناني، الذي اتُّهم بالتحرش الجنسي، بعد أن فتح القضاء الفرنسي تحقيقًا العام الماضي (2017) في واقعة تعود تفاصيلها إلى ديسمبر من العام 2013، عندما ذهبت إليه طفلة في الرابعة عشرة، للمشاركة في تدريب لمدة أسبوع في الاستديو الخاص به في بلدية إيفري سور سين الفرنسية، واستغل معلوف فرصة وجودهما وحدهما في إحدى المرات وقبّلها، كما أرسل إليها رسالة عبر هاتفها النقّال يطلب منها صورة وهي عارية، إلا أن والديها علما بالأمر واتصلا به وعنفاه، وحينها اعتذر معلوف وقد ظن أن القصة انتهت عند هذا الحد.

وبحسب ما أوردته بعض الصحف الفرنسية، فقد تقدم الوالدان ببلاغ ضد معلوف الحاصل على جائزة السيزر (جائزة فرنسية توازي جائزة أوسكار أفضل موسيقى تصويرية لفيلم)، بعد أن استمرت حالة الطفلة النفسية في التدهور.

ويشترك لمجرد ومعلوف في سعيهما إلى تصوير الاتهامات على أنها محاولات للنيل من سمعتهما، وفي حالة الأول جرى تناول الأمر من قبل قطاع من جمهوره باعتباره مؤامرة ضد فنان «مغربي»، والغرض منها تدمير سمعة أول فنان مغربي يبلغ هذا القدر من النجاح والشهرة غير المسبوقين، خاصة بعد أن حققت أغنيته «أنت معلم» نحو نصف مليار مشاهدة عبر موقع يوتيوب.

مؤامرة كبرى: الفرية التي يروج لها المعتدون

في جل الوقائع التي اتُّهم فيها رجال من الشخصيات العامة بالتعدي جنسيًا على نساء، أدعى هؤلاء الرجال أن الاتهامات لا تعدو كونها مؤامرة مدبرة ومعدة مُسبّقًا لا للنيل من فرد بعينه وإنما من التيار الذي ينتمي إليه.

وهذا ما تجسد بوضوح في الواقعة الخاصة بالقاضي الأمريكي بريت كافانو الذي رشحه الرئيس دونالد ترامب لرئاسة المحكمة العليا في الولايات المتحدة، وجرى التحقيق معه أمام مجلس الشيوخ الأمريكي بتهمة التحرش الجنسي بما شكل خطورة على تعيينه في المنصب المُرشح له، كما برزت نظرية المؤامرة بقوة في واقعة اتهام السويسري من أصل مصري طارق رمضان الذي يعد واحدًا من أشهر المفكرين الإسلاميين في أوروبا بارتكاب جريمة الاغتصاب. وقد عمد كل من كافانو ورمضان والمؤيدون لهما ومناصروهما إلى الترويج إلى أن الاتهامات التي طالتهما، هي نتاج مؤامرة نسج خيوطها المعارضون لهما ولأفكارهما وللتيارات التي يمثلها كل منهما.

في حالة طارق رمضان أستاذ الدراسات الإسلامية المعاصرة بجامعة أوكسفورد في بريطانيا، والذي تعرض للإيقاف من جانب السلطات الفرنسية على خلفية اتهامه باغتصاب امرأتين في عامي 2009 و2012، أثار مريدوه مزاعم بأن الاتهامات الموجهة إليه استهداف للمسلمين في أوروبا ولأفكاره الإسلامية في إطار ما يُعرف بــ«الإسلاموفوبيا»، فضلًا عن أن البعض اعتبر الدعاوى كيدية وسلاح في حرب تستهدف «الإخوان المسلمين»، بالنظر إلى أن رمضان هو حفيد مؤسس الجماعة حسن البنا.

وجدت هذه الإدعاءات أرضًا خصبة لدى أبناء هذا التيار، فضلًا عن وسائل إعلامية رجحتها في ظل إنكار مستمر من رمضان، حتى خرج محامي الأخير قبل أيام وتحديدًا في الـ23 من أكتوبر ليعلن أنه بالفعل أٌقام علاقة جنسية مع السيدتين ولكن بالتراضي، مستندًا إلى عدد من الرسائل النصية بينهما وبين موكله.

يسترعي الانتباه أنه بعد سنة كاملة من النفي والتبرأ من ارتكاب الجرم، يحاول رمضان ومحاميه تحويل الموقف من انفضاح للكذب إلى بطولة في مواجهة متاَمرين، ويتخذها المحامي فرصة للي الحقائق، ويخرج إلى الإعلام مهددًا الشاكيتين بأنه سيتقدم بشكوى ضدهما، ليتهمهما بالإبلاغ الكيدي ضد موكله وتعمد التشهير به.

المؤامرة أيضًا كانت السبيل لينفي القاضي الأمريكي بريت كافانو (53 عامًا) عن نفسه تهم الاعتداء الجنسي المتلاحقة، إذ قال مرشح الرئيس الجمهوري لرئاسة المحكمة العليا، إن أعضاء في مجلس الشيوخ عن الحزب الديمقراطي يسعون إلى تدمير عائلته وسمعته الطيبة لأغراض سياسية.

وكانت كريستين بلاسي فورد، وهي أستاذ متخصص في علم النفس بجامعة بالو ألتو في ولاية كاليفورنيا، قد ذكرت أن كافانو تحرش بها جنسيًا قبل 36 عامًا، وبحسب شهادتها أمام لجنة العدل بمجلس الشيوخ في سبتمبر الماضي، فقد حبسها كافانو وصديق له في غرفة في منزل في إحدى ضواحي واشنطن في صيف 1982 أثناء حضورهم إلى حفل صغير، ثم حاول الأول تجريدها من ملابسها بعد أن ثبتها في الفراش وشرع في التحرش بها. وقالت فورد «هجوم بريت غير حياتي بصورة جذرية. وعلى مدى فترة طويلة، كنت أشعر بالخوف والعار أن أخبر أي شخص بالتفاصيل.»

لم يكن اتهام فورد هو الوحيد، فقد لحقت بها ثلاث نساء أخريات أقررن بارتكاب كافانو لأفعال مماثلة ضدهن، ومع ذلك لم يتخل القاضي الأمريكي عن وصف نفسه بضحية اغتيال معنوي دبّره أعضاء ديمقراطيون في مجلس الشيوخ.

موازين القوى داخل مجلس الشيوخ والتي تصب في صالح الجمهوريين، لعبت الدور المحوري في عبور كافانو إلى المحكمة العليا، ليقف الرئيس الأمريكي أثناء حفل تنصيبه في المحكمة العليا، ويعتذر له عن ما وصفه بــحملة أكاذيب.

ويأتي موقف ترامب المدافع عن كافانو والداعم له متسقًا مع كراهيته لحِراك #MeToo  الذي كان هو أحد المتضررين منه، بعد توالي اتهامات التحرش الجنسي الموجهة إليه منذ أن كان مرشحًا للرئاسة وحتى الاَن، وما زال يصفها بالأكاذيب كذلك.

الرئيس الذي صرح قبل أسابيع بأن #MeToo تضطهد الرجال الأمريكيين، سبق له أن ساند واَزر شخصية أخرى عامة واجهت اتهامات بالتحرش الجنسي، وهو المذيع بيل أوريلي، أحد أشهر مقدمي البرامج على شبكة «فوكس نيوز» الإخبارية، إذ أجاب ترامب عندما سُئِل عن أوريلي في مقابلة مع صحيفة «نيويورك تايمز» بأنه شخص جيد وأنه يعرفه جيدًا. لكن الرجل الجيد كما وصفه ترامب، قررت «فوكس نيوز» الاستغناء عنه بعد ثبوت صحة الاتهامات، وقالت الشركة المالكة للشبكة الإخبارية في بيان من جملة واحدة: «بعد مراجعة متأنية لتلك الاتهامات، لن يعود بيل أوريلي إلى العمل.»

وكان أوريلي قد انتهج الأسلوب الذي اتبعه غالبية المتهمون بارتكاب جرائم العنف الجنسي على اختلاف درجاتها، حيث نفى جميع الاتهامات الموجهة إليه مدعيًا أنها شائعات يروّج لها معادون لنجاحه، وقال عقب الاستغناء عنه «من المحبط بشدة الرحيل عن الشبكة بسبب مزاعم لا أساس لها من الصحة.»

أشياء كثيرة يمكن استخلاصها في نهاية العام الأول من عمر حِراك #MeToo ومن بينها أن التضامن يقود حتمًا إلى التحرر، وأن السبيل لدحر الظلم هو توحيد الأصوات في مواجهته، كما أن الصمت لن يؤدي إلا إلى عالم أكثر أمنًا للمعتدين.