ترافق فكرة الاضطرار إلى الصمت الحديث عن التحرش الجنسي، خاصةً عندما يقع داخل أماكن العمل وبالأخص إن كان مرتكبه هو المدير المباشر أو أحد أصحاب السلطة في مكان العمل.

عادةً ما يكون الخوف من الإساءة والتعقب اللفظي هو السبب في إيثار الصمت من جانب الناجيات من التحرش الجنسي في الأماكن العامة، وغالبًا ما يكون الخوف من تكذيب روايتهن هو السبب في إخفاء الواقعة إن كان مرتكبها هو أحد أفراد الأسرة. أما الخوف من الأمرين ومعهما فقدان الوظيفة يجتمع ليدفع بالمرأة إلى تفضيل الصمت عند تعرضها للتحرش الجنسي على يد رئيسها في العمل.

رضوى  (اسم مستعار) محامية عملت لفترة لدى أحد المراكز الحقوقية بعد استقلالها في القاهرة، وذلك بعد أن تعرفت إليه من خلال مشاركتها في واحدة من ورش العمل التي ينظمها.

تركت رضوى البالغة من العمر 26 عامًا محافظتها وقريتها الريفية، وانتقلت  إلى القاهرة بداية العام الجاري بحثًا عن عمل، وهو ما اعتبره أحد المحامين الحقوقيين العاملين بالمركز خطوة جريئة تثير فضوله لمعرفة الأسباب التي دفعتها إلى الإقدام على الاستقلال والتغييرات التي طرأت على حياتها قبله.

تقول رضوى إن هذا المحامي كان يستغل الأوقات التي يخلو فيها المكتب من العاملين ليختلق الأحاديث معها، وفي البداية كانت تظن ذلك في إطار قتل ملل اليوم وما هو إلا تسامُر معهود في أماكن العمل، حتى طلب منها أن يخرجا لقضاء بعض الوقت سويًا خارج حدود العمل، وعندها أجابته بالرفض.

تستطرد رضوى «لكنه لم يكف بل طوّر دعوته إلى السفر سويًا داخل وخارج مصر، وفي كل مرة يعرض هذا العرض أجيبه بالرفض، ومع ذلك لم ينصرف عني. يبدو أنه كان من هؤلاء الذين يعتقدون أن الفتيات القادمات من الريف يسهل الإيقاع بهن.»

لسوء الحظ تمت ترقية هذا الشخص ليصبح مديرها المباشر ويتسع المجال أمامه لمضايقتها، وتصبح أمام خيارين لا ثالث لهما إما أن تقبل بتحرشه وتلبي له ما يريد وإما أن تتعامل مع مضايقاته المستمرة وتشكيكه في قدرتها على أداء المهام.

مثل كثيرات اَثرت رضوى الصمت وعدم الإفصاح عن الأمر لأسباب شخصية بالدرجة الأولى، وفي مقدمتها الظروف المعيشية القاسية التي فرضت عليها العمل في أكثر من مكان بعد استقلالها، وهي الخطوة التي استغرقت نحو أربع سنوات لتقنع أسرتها بها «قاسيت كثيرًا من أجل الوصول إلى هذه النقطة مع أسرتي والعائلة بأكلمها، لذلك ليس من السهل أن أقرر الرحيل عن العمل أو العودة إلى قريتي  إذ تحرش شخص بي، وأنا حاليًا أبحث بشكل مكثف عن فرصة عمل أخرى لأضمن تدبير شؤون معيشتي.»

لم تُبلِغ رضوى القائمين على المركز  بالأمر، وذلك لكون هذا الشخص هو أحد المقربين إلى المسؤول الرئيس عن المركز، فضلًا عن أن عقد إيجار مقر العمل باسمه وجميع الملفات المالية ترتبط باسمه ومن ثم فالإدارة لن تقرر الاستغناء عنه لأي سبب، بالأخص في ظل شيوع صورة عن المراكز الحقوقية  تختلف كثيرًا عن ما قد يكشفه الاعتراف بشيء كهذا على حد قولها.

لا تستبعد رضوى أن تكشف عما تعرضت له في المستقبل «ما لا يعرفه كثيرون أن حالة الغضب التي تتملك الفتاة جراء تعرضها للتحرش لا تهدأ بالتقادم بل تشتعل أكثر مع كل حادث تحرش تتعرض له، ولذلك فربما اكشف يوم ما عن ما حدث وعن فاعله، مثلما تفعل كثيرات مؤخرًا.»

أما منى (اسم مستعار) كانت تعمل كباحثة في أحد المراكز البحثية – الإعلامية إلى جانب عملها الأساسي، لتتمكن من توفير مصروفاتها الدراسية، وسرعان ما أصبحت هدفًا لشخص أوكلت له مسؤولية الإشراف على المهام المنوط بها تنفيذه، واستغل سلطته المهنية ليجبرها على الاستماع إليه والتحدث معه في موضوعات لا علاقة لها بالعمل، إلى حد سؤاله لها في إحدى المرات عن الأفلام الأجنبية التي تناقش موضوعات مرتبطة بالجنس، وعندها اضطرت للإجابة عن سؤاله بأنها لا تشاهد أفلامًا أجنبية مطلقًا – على خلاف الحقيقة – ثم استأذنته في الانصراف.

«قبل انقضاء المدة المحددة للعمل على مهمة محددة لي، وجدته يهاتفني ويطلب مني الحضور إلى اجتماع طارئ، وعندما وصلت إلى مقر العمل لم أجد أحدًا غيره. حاولت تهدئة نفسي وجلست ثم بدأت في سرد ما أنجزته حتى ذلك الوقت، ولكنه أوقفني قائلًا إن الاجتماع أُلغي، فطلبت منه أن يسمح لي إذًا بالرحيل إلا أنه عاد وسمح لي باستكمال عرضي لما أنجزته حتى أظل بالمكان.

«أثناء تقديمي لعرض مختصر عن ما فعلت وسأفعل، فوجئت به يقترب مني ويحوّل دفة الحديث إلى أمور شخصية كخلافاته مع زوجته، ثم طلب مني أن أجلس بجانبه. لم أرد – ربما من المفاجأة أو الصدمة – فإذا به يطلب مني أن يعانقني، فرفضت بشدة وانصرفت سريعًا من المكان»، تحكي منى تفاصيل التحرش بها على يد مديرها المباشر في العمل.

«تكاثرت الأسئلة في رأسي؛ هل أتحدث إلى صاحب العمل؟ ماذا أقول له؟ هل سأخسر إذا تحدثت؟ فاَثرت الصمت في النهاية»، وتستطرد «علمت لاحقًا أن الاجتماع كان وهميًا ولم يُعلَم أحد بموعده، كما قرر هذا الشخص التضييق علي في العمل كنوع من العقاب، فإذا به يرفض البحث الذي أعمل عليه واصفًا إياه بـ”غير المكتمل” دون أن يوضح مواطن القصور، وفي مرة أخرى يتعمد التقليل من شأني أمام زملائي، وبعد استهداف مستمر لا مناص منه، تركت العمل في هذا المركز.»

تقول منى إنها لم تبلغ أحدًا من بالمركز عن واقعة التحرش لكونها جديدة في المكان، فضلًا عن تخوفها من أن لا تؤخذ شهادتها بجدية نظرًا لطبيعتها المتحررة التي يستغلها المجتمع المحافظ والذكوري كذريعة لتكذيب صاحباتها، وتضيف «نحن بحاجة إلى أشخاص يصدقون النساء ويثقون في شهاداتهن، نحتاج مصادر حماية في الشوارع وفي أماكن العمل.»

إعلان على صفحة توظيف على موقع فيسبوك كان السبب في تجربة تعيسة مرت بها ليلى (اسم مستعار) وهي في عامها الثاني والعشرين، لتترك بداخلها ذكرى موجعة «بعد تخرجي، اشتركت في العديد من الصفحات والجروبات -على موقع فيسبوك-  التي تنشر فرصًا للتدريب والعمل، وكنت أرسل سيرتي الذاتية إلى البريد الإلكتروني المرفق مع أي إعلان لوظيفة في مجال التسويق أو العلاقات العامة، وبعد أسبوع تقريبًا اتصل بي أحد من شركة كنت قد أرسلت إليها سيرتي، وأخبرني بموعد مقابلة شخصية، فذهبت على أمل ألا أعود منكسة الرأس مثل مرات كثيرة سابقة بسبب انعدام الخبرة العملية. استقبلتني موظفة شؤون العاملين وسألتني الأسئلة المعتادة، ثم اقتحم مدير الشركة جلستي معها وطلب منها الخروج حتى يتحدث معي قليلًا.»

تتابع ليلى «كنت صغيرة السن والخبرة حينها ولذلك فربما قصد شيئًا لم أفهمه، أو قال كلمة ومن رهبتي لم التلفت إليها، أو نظراته كانت تشي بشيء  وتجاهلته دون قصد. كان شاغلي أنا أبدو المتقدمة المناسبة للوظيفة، فقد كنت أريد الحصول على عمل في أقرب وقت ممكن، بعد أن أمضيت نحو تسعة أشهر منذ تخرجني بدون وظيفة، وقال لي أبي صراحة إنني صرت عبئًا عليه “أنا ما علمتكيش عشان تقعديلي وأفضل أصرف عليكِ، أنزلي شوفيلك أي شغلانة”، لذلك لم أكن أفكر في شيء سوى الوظيفة.»

بعد يومين أبلِغَت ليلى بقبولها، إلا أنها عندما ذهبت إلى الشركة اكتشفت أن الوظيفة ليست تلك التي تقدمت إليها وأنها ستشغل موقع سكرتيرة المدير، ومع ذلك لم تنشغل كثيرًا بالأمر ووافقت على الفور فرحًا بحصولها على وظيفة بعد انتظار وشعور باليأس، «اعتبرتها فرصة مؤقتة، وقلت لنفسي ما كنت أسمعه من الجميع: لن نصل إلى الوظيفة التي نتمناها ولا بد أن نتنازل ونقبل بالمتاح حتى نصل إلى ما نريد أو نطمح إليه.»

تتذكر ليلى أن الأيام الأولى في العمل كانت جيدة، فلم تستشعر شيئًا مريبًا أو غريبًا في تعامل المدير معها، حتى قرر زيادة ساعات عملها اليومي، لتعكف على ترجمة أوراق وملفات في الساعات الزائدة.

«كان أغلب الموظفين ينهون مهامهم ما بين الخامسة والسادسة مساءً، بينما أظل حتى الساعة الثامنة، وكان الوضع طبيعيًا في البداية، حتى بدأ يطلب مني الجلوس معه في المكتب خلال هذه الساعات.»

بحسب ليلى فقد كان مديرها يتعمد الحديث عن حياته الشخصية من حين لاَخر ويخبرها بأمور من عينة أنه لا يحبذ الزواج ويفضل العلاقات السرية أو البعيدة عن “كلام الناس” على حد قوله.

«عندما بدأ يتحدث بهذه الطريقة وعن هذه الأمور انتابني شعور بالقلق، وبدأت أتشكك في مسألة زيادة ساعات العمل، وقررت أن استمر لنهاية الشهر ثم أرحل عن هذا المكان، لكنه لم يمهلني حتى فرصة الاستمرار لنهاية الشهر.»

بقليل من التفاصيل تروي ليلى كيف انتهز مديرها فرصة وجودهما وحدهما في أحد الأيام، وطلب منها أن تدخل إلى مكتبه لتُحضر له بعض الأوراق من إحدى الخزانات، لتفاجأ به يطوقها بذراعيه من الخلف ويهمس في أذنها بأنها «تعجبه منذ أن راَها أول مرة».

«كنت في حالة ذعر شديدة، كنت أصرخ لعل أحدًا يسمع وينقذني، حاول تكميم فمي لكنني دفعته بعيدًا، هرعت إلى الباب إلا أنه تمكن من عرقلتي وأحكم قبضته علي، فلم أكف عن مقاومته، وعلى غير توقع أرخى يديه وترك لي المجال للفرار دون أن ينطق بكلمة. خرجت من المكتب أركض ومن شدة الفزع لم أتوقف لأخذ حقيبتي وحمدًا لله كنت احتفظ ببعض النقود في جيب بنطالي ساعدتني على العودة إلى المنزل.

مكثت ليلى في البيت أسبوعين بعد أن أخبرت أهلها أن الشركة فصلتها وموظفين اَخرين بسبب الخسارات التي لحقت بها، مما اضطر أصحابها إلى الاستغناء عن عدد من العاملين وبالأخص الجدد. وأدعت أن انعزالها وبكائها المستمر سببه حزنها على ضياع العمل.

«فتحت هاتفي النقّال بعد أيام من الانعزال التام فتلقيت اتصالًا من إحدى زميلاتي في الشركة، سألتني عن حالي وعن سبب غيابي كل هذه الفترة. فكرت في أن أخبرها لكنني تراجعت خشية أن يعرف أنني حكيت ما حدث ويتخذ رد فعل لا يحمد عقباه، فقلت إن ظروفًا جديدة طرأت على بيتي ولن تمكنني من العمل ربما لسنة أو أكثر.»

بعد خمس سنوات، تشعر ليلى أنها تجاوزت اَثار ذلك اليوم واستعادت ثقتها في نفسها ومن حولها، وإن كان تذكر أحداثه ما زال يؤلمها إلا أنه لم يعد يخيفها كما كان من قبل.

«فضلت الصمت خوفًا من هذا الرجل فهو في موقف أقوى لأسباب كثيرة كسلطته وغياب شهود على ما حدث، كما فكّرت في رد أسرتي، وأيقنت أنني لن أجد بينهم سندًا. أكاد أجزم بأن أمي كانت ستطالبني بإخفاء الأمر ولو علم أبي كان سيبقيني في غرفتي محبوسة بعد أن يبرحني ضربًا.» تقول ليلى

سردت ليلى تفاصيل هذه الواقعة عبر حسابها على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، قبل عام تقريبًا، مذيلةً الرواية بوسم #MeToo، «بعد أن نشرتها على حسابي شعرت بشيء من الانتصار حتى وإن لم يكن كذلك، لكنني نجحت أخيرًا في أن أحكي ما كنت أخجل منه لسنوات دون خوف.»