«اتفاقية اسطنبول»: أداة لمكافحة العنف الأسري تُفضِّل الدول العربية البقاء بعيدًا عنها
تشير التقديرات إلى أن 35 في المائة من النساء حول العالم قد تعرضن للعنف الجسدي أو الجنسي على يد شركائهن الحميمين أو تعرضن للعنف الجنسي على يد غير الشركاء، وعالميًا هناك ما يقرب من 750 مليون سيدة وفتاة تزوجن قبل إتمام عامهن الثامن عشر، فضلًا عن إخضاع ما لا يقل عن 200 مليون من النساء في 30 دولة لتشويه الأعضاء التناسلية أو ما يعرف بختان الإناث، كما تمثل النساء البالغات نحو 51 في المئة من إجمالي ضحايا الإتجار في البشر. هذه الأرقام تحتم على الدول اتخاذ الإجراءات والتدابير لحماية النساء من هذا العنف الممتد والمتشعب، ومن بينها التوقيع والتصديق على الاتفاقيات الدولية وربطها بالقوانين وتفعيلها.
وكانت الهيئة العامة للأمم المتحدة قد اعتمدت في العام 1979 «اتفاقية القضاء على جميع أشكال العنف ضد المرأة» المعروفة باسم السيداو، ومن ثم «إعلان القضاء على العنف ضد المرأة» في العام 1993، وبعد ذلك صدر «إعلان ومنهاج عمل بكين» عن المؤتمر العالمي الرابع للمرأة في العام 1995، لتأتي لاحقًا «اتفاقية المجلس الأوروبي بشأن منع ومحاربة العنف ضد المرأة والعنف الأسري» والمعروفة أيضًا بـاسم «اتفاقية اسطنبول»، التي صدرت في العام 2011.
هذه الأخيرة ما زالت حتى الاَن غير معروفة على نطاق واسع، لذلك نبحث في طياتها، لنتعرف أكثر إلى الاتفاقية الأحدث فيما يتعلق بالمساعي الدولية لتحجيم العنف ضد النساء.
اجتماع.. مباحثات.. اتفاقية
في صباح الأول من أغسطس في العام 2014، أصدرت منظمة العفو الدولية بيانًا تطالب فيه حكومات مختلف الدول الأوروبية والاتحاد الأوروبي بالتصديق على وجه السرعة على «اتفاقية اسطنبول»، التي تعد أداة جديدة لمنع ومكافحة العنف ضد النساء والفتيات وتحديدًا العنف الأسري، وذلك بالتزامن مع الإعلان عن بدء سريان مفعول المعاهدة.
قبل ذلك بعدة سنوات بدأت قصة الإعداد لهذه الاتفاقية، التي صدرت عن اجتماع شارك فيه ممثلون حكوميون لعدد من دول الاتحاد الأوروبي في مايو من العام 2011، وذلك على خلفية دعوة من الحكومة التركية للتباحث حول سبل إنهاء العنف ضد المرأة، وقد دار النقاش حول كيفية منع ومحاربة العنف الموجه ضد النساء عمومًا والعنف الأسري والمنزلي خصوصًا.
وتضمنت الاتفاقية 81 مادة تتوزع بين 12 فصلًا، تركز على أربعة أسس تشمل؛ المنع، والحماية، ودعم الضحايا، ومحاكمة المجرمين.
عودة إلى الوراء: ما قبل الاتفاقية
تعد «اتفاقية اسطنبول» أول اتفاقية أوروبية تستهدف القضاء على العنف ضد المرأة بكل أشكاله، وقد سبق صدورها مرحلة إعداد بدأت في العام 2008 وتحديدًا في شهر ديسمبر، عندما أنشأ المجلس الأوروبي المكون من 47 دولة أوروبية، لجنة خبراء مكونة من ممثلين حكوميين للدول الأعضاء في المجلس، مهمتها البحث في منع ومكافحة العنف ضد المرأة والعنف المنزلي.
وبعد نقاشات واجتماعات استمرت لنحو سنتين، صدر نص مشروع «اتفاقية اسطنبول» في ديسمبر من العام 2010، ثم اعتمدته لجنة الوزراء في 7 إبريل من العام 2011، وفُتِحَ باب التوقيع على الاتفاقية في 11 مايو من العام 2011، لتستقبل 13 توقيعًا لكل من: تركيا وألمانيا وإسبانيا والنمسا وفنلندا وفرنسا واليونان وأيسلندا والبرتغال وهولندا والسويد وسلوفاكيا والجبل الأسود. وبعد ثلاث سنوات دخلت الاتفاقية حيز التنفيذ في الأول من أغسطس في العام 2014، ووقع الاتحاد الأوروبي بصفته في يونيو من العام 2017.
حتى الاَن، وقعت على الاتفاقية 45 دولة من دول المجلس الأوروبي بينما امتنعت عن التوقيع كل من روسيا وأذربيجان، وصدقت الدول الموقعة باستثناء 13 دولة، وهي؛ أرمينيا وبلغاريا وجمهورية التشيك والمجر وأيرلندا ولاتفيا وليتوانيا ولوكسمبورغ وليختنشتاين ومولدوفا وسلوفاكيا وأوكرانيا والمملكة المتحدة.
كما فتحت الاتفاقية باب التوقيع لدول غير أعضاء بالمجلس وهي دول شمال وجنوب البحر الأبيض المتوسط، وتضم دول شمال إفريقيا؛ مصر وتونس والمغرب وليبيا والجزائر بالإضافة إلى بلاد الشام؛ سوريا وفلسطين ولبنان وقبرص وقبرص الشمالية، إلا أن الدول العربية المذكورة لم يوقع أي منها على الاتفاقية.
الحماية.. أهم أهداف الاتفاقية
تهدف الاتفاقية إلي حماية المرأة من جميع أشكال العنف ضدها ومحاكمة مرتكبيه وتنفيذ العقوبات بحقهم بما يصب في اتجاه المنع، كما تعني الاتفاقية بالمساهمة في القضاء على التمييز المبني على النوع الاجتماعي من أجل النهوض بالمساواة الحقيقية بين الرجل والمرأة، وتمكين النساء في شتى نواحي الحياة، والتعاون بصورة فعالة بين الدول لمساعدة الناجيات من العنف، وأهم ما يميز «اتفاقية اسطنبول» هو اعترافها بالدور البارز الذي تلعبه المنظمات غير الحكومية في مواجهة العنف ضد المرأة، كما ترمي الاتفاقية إلى توفير مزيد من الدعم السياسي والمالي لعمل منظمات المجتمع المدني.
ويتعين على الدول التي أقرت الالتزام ببنود الاتفاقية أن تتخذ حزمة من الإجراءات، من بينها: تدريب مقدمي الخدمات للناجيات من العنف، وتنفيذ حملات توعية بشكل منتظم وثابت، واتخاذ خطوات لإدراج قضايا المساواة بين الجنسين في المناهج الدراسية، وتكثيف التعاون مع المنظمات غير الحكومية، وإشراك وسائل الإعلام والقطاع الخاص في القضاء على القوالب النمطية وتعزيز الاحترام المتبادل بين الجنسين.
وتقضي الاتفاقية بضرورة تزويد الناجيات والشهود بالحماية والدعم، وذلك من خلال الشرطة وتوفير البيوت الاَمنة وتوفير الخطوط الهاتفية المجانية لاستقبال البلاغات، بالإضافة إلى التأكد من أن مقدمي الخدمات يتفهمون طبيعة وظروف الناجيات، ويدعمونهن بناءً على احتياجاتهن النفسية والجسدية.
وتلزم المادة 11 الأطراف الموقعة على الاتفاقية بجمع البيانات والأرقام المتعلقة بظواهر العنف المشمولة في الاتفاقية على فترات منتظمة والإعلان عنها بصفة دورية، بالإضافة إلى دعم الأبحاث في مجال العنف ضد المرأة للوقوف على الأسباب الجذرية وراء انتشاره ودراسة الاَثار المترتبة عليه، وحصر الوقائع ومعدلات الإدانة، للتعرف إلى مدى فعالية التدابير المتخذة لتنفيذ الاتفاقية.
كما تقضي المادة 13 بحتمية تنفيذ الحكومات أو تشجيعها للحملات وبرامج التوعية، إلى جانب التعاون مع المؤسسات الوطنية لحقوق الانسان والهيئات المختصصة في مجال المساواة والمنظمات غير الحكومية لا سيما النسوية منها، بهدف زيادة الوعي والفهم بين عامة الناس بالمظاهر المختلفة لجميع أشكال العنف التي تغطيها الاتفاقية وعواقبها والحاجة إلى منعها.
وتنص المادة 27 على أن تتخذ الحكومات التدابير اللازمة لتشجيع أي شخص يشهد على ارتكاب أعمال العنف المشمولة في الاتفاقية أو من لديه أسباب كافية للاعتقاد في وقوع العنف أو أنه من المتوقع حدوثه مرة أخرى، للإبلاغ إلى المنظمات أو السلطات المختصة، وترسخ المادة 30 لحق الناجيات في المطالبة بتعويضات من مرتكبي أي جريمة عنف منصوص عليها في الاتفاقية.
أما عن الزواج بالاكراه فتنص المادة 37 على وجوب اتخاذ التدابير التشريعية أو غيرها من التدابير الضرورية لتجريم الإكراه على الزواج.
وتمنع المادة 42 التبرير غير المقبول للجرائم التي تسمى بجرائم الشرف، مع وجوب ضمان إلا يصدر حكم قضائي أو يُتخذ إجراء جنائي عقب ارتكاب أحد أعمال العنف المشمولة في الاتفاقية، باعتباره مبررًا بحكم الثقافة أو العرف أو الدين أو التقاليد.
الدول العربية: لم يوقع أحد!
تعتبر هذة الاتفاقية خطوة هامة في مجال محاربة العنف ضد المرأة، وعلى الرغم من أنها مفتوحة للتوقيع من قبل دول أخرى من غير الأعضاء بالمجلس الأوروبي، فإن حكومات الدول العربية لم تُقدم على التوقيع عليها حتى الاَن.
أما على صعيد المنظمات غير الحكومية في هذه الدول، فإن تونس والمغرب تشهدان حِراكًا لافتًا في هذا السياق للضغط من أجل التوقيع والمصادقة على الاتفاقية من جانب حكومتي البلدين، وفي أكتوبر من العام 2016، أطلقت الشبكة الأورو-متوسطية لحقوق الانسان في تونس حملة تهدف إلى التعبئة والحشد من أجل التأثير على صناع القرار والوصول إلى المصادقة على «اتفاقية اسطنبول»، بينما نظمت الجمعية الديمقراطية لنساء المغرب وبدعم من الشبكة الأورو-متوسطية لحقوق الانسان تدريبًا في العام نفسه، نتج عنه تشكيل ائتلاف من المنظمات في ديسمبر من العام 2017، بهدف القيام بأعمال مناصرة مشتركة من أجل انضمام المغرب إلى الاتفاقية.
في المقابل فإن مصر تبقى بعيدة عن هذه الاتفاقية على مستوى الحكومة أو منظمات المجتمع المدني، ومثلما تبدو متأخرة عن المغرب وتونس في عمليات الدفع باتجاه التوقيع والمصادقة على الاتفاقية، فقد سبقتها الدولتان في إقرار قانون لمناهضة للعنف ضد المرأة.
ويثير هذا التلكؤ الكثير من الاستغراب، خاصة أن معدلات العنف ضد النساء في مصر شديدة الارتفاع، حيث تشير الأرقام إلى خضوع 27.7 مليون امرأة في مصر لتشويه الأعضاء التناسلية أو ختان الإناث، وهو أكبر تجمع لنساء مختونات في بلد واحد، وبحسب دراسة للأمم المتحدة صدرت في العام 2013، فإن 99.3 في المئة من النساء المصريات تعرضن للتحرش الجنسي بمختلف صوره، وطبقًا لبيانات المسح الديموغرافي والصحي للعام 2014، فإن 47.4 في المئة من النساء المتزوجات تعرضن للعنف الجسدي في وقت ما من حياتهن وهن بالغات، و33 في المئة من النساء تعرضن فى وقت من الأوقات للضرب أو الصفع أو الركل أو أي شكل من أشكال العنف الجسدي على يد الزوج الحالي أو السابق.