«ليالي أوچيني»: لمقاومتهن وجوه كثيرة.. والكلاسيكية الاَخاذة لم تكن يومًا أقوى من «الذهنية الذكورية»
في موسم محبط على مستويات عدة، حيث نمطية القصص قبل الشخصيات، وفجاجة الرسائل المباشرة، والمركزية الذكورية المتفشية، يخرج عن كل ذلك، مسلسل «ليالي أوچيني» ليكون الناجي بين مسلسلات رمضان 2018، التي عمد كثير منها إلى تقديم الشخصيات النسائية من زاوية واحدة ومسطحة.
يقدم «ليالي أوچيني» تنوعًا ثريًا في شخصياته، لا سيما النسائية منها، إذ ظهرت الشخصيات بأبعاد مختلفة وتشهد تطورات مستمرة، فضلًا عن أنه أحد أكثر المسلسلات المعروضة خلال هذا الموسم، التي يتوزع فيها الحضور النسائي بين عدد لافت من الشخصيات النسائية ضالعة في تحريك الأحداث دون تهميش.
الحضور النسائي خلف الشاشة
مثلما يبدو الحضور النسائي أمام الشاشة مثيرًا، فالحضور خلفها لافت أيضًا، لا سيما أن السناريو والحوار لكاتبتين شابتين وهما «سماء عبد الخالق» و«إنجي القاسم»، وقد استندتا في كتابة العمل إلى نسخة إسبانية باسم «أكاسيا»، كما تشغل «روزان قاسم» موقع مساعدة مخرج، و«ياسمين القاضي» موقع «مصمم الأزياء» و«رباب حسين» موقع الماكيير، و«نيفين حشاد» الـCreative Producer، وتنفذ مهمة التصميم الداخلي «لينا حلمي»، ويأتي اسم «سالي الشامي» كمساعدة أولى في هندسة الديكور، و«منة القاضي» كمساعدة مصممة أزياء، فضلًا عن «اَية العدل» لسكريبت الملابس، وسكريبت الحركة لـ«سارة رزيق شافع»، وإدارة المشروع لــ«هدى السراج» بينما إدارة الموقع لــ«سارة إبراهيم» وتشغل كل من «سارة نوح» موقع الـCasting Director، و«سارة قسطندي» موقع الــPost producer، وأخيرًا تغني «نسمة محجوب» أغنية التتر، الذي يعد واحدًا من أربعة تترات تغني لها أصوات نسائية في هذا الموسم.
يترك الماضي منغصاته للحاضر
تدور أحداث المسلسل في فترة الأربعينيات، في أعقاب الحرب العالمية الثانية وتحديدًا في العام 1946، ومع ذلك فإنه لا يتطرق إلى انعكاسات الحرب على حيوات الأفراد إلا من خلال شخصية «صوفيا» وهي امرأة إيطالية تملك محلًا لإعداد الحلوى، وتعاني كغيرها من الإيطاليين في مصر التي تقع تحت الاحتلال البريطاني الذي يعادي أبناء إيطاليا، جراء مشاركتها في الحرب العالمية في الجبهة المضادة للمملكة المتحدة.
تدور الأحداث في مدينة بورسعيد، التي تأتي إليها «كاريمان» وتؤدي دورها «أمينة خليل» هاربة بعد اعتداء زوجها عليها بالقول والفعل، مما أفضى إلى قتله دفاعًا عن نفسها. تدخل «كريمان» عالم أوچيني، وهو التياترو الذي يجمع في لياليه الساهرة، شخصيات مختلفة تعيش في نفس المدينة، ولكل منهم قصة تُجلي التشابك بين الخيار والإجبار، وبين ما يعتقد الفرد أنه اختياره وهو خيار اضطر للقبول به، ولكل منهم حكاية مع الفقد والحب، ورغم أنها أشياء مشتركة في حياة كل منهم، فإن لكل منها خصوصيته.
يمزج المسلسل بين الرومانسية الكلاسيكية الملائمة للفترة الزمنية التي تدور فيها الأحداث، والإطار الاجتماعي الذي يبدو أيضًا متسقًا مع طبيعة المجتمع في هذه الفترة، وإن كانت المشكلات والقصص تتشابه مع تلك التي نعيشها في وقتنا الحاضر، وخاصة العنف الذي تتعرض له النساء لا سيما العنف الأسري، بينما يظل الماضي مقتصرًا على جمال الشوارع والديكورات والملابس وحالة الرقي التي تكتسي جل تفاصيل الحياة حينذاك.
العنف يلاحقهن وأول القول «العنف الأسري»
في البداية نتعرف إلى «كاريمان» كامرأة تتعرض للاعتداء الجسدي على يد زوجها، تخفى اَثاره المطبوعة على جسدها والغائرة في نفسها عن القريبين منها، بما يشي أن ذلك بدافع الحفاظ على وجودها إلى جانب انبتها الصغيرة. يبدو الزوج متشككًا في سلوك زوجته، كما يحاول إرغامها على معاشرته جنسيًا، وعندما ترفض يعتبر ذلك إهانة لذكورته وتزيد شكوكه تجاهها، فيقرر معاقبتها بـحرمانها من ابنتها إلى الأبد. تنهار «كاريمان» أمام زوجها «إسماعيل» بعد أن أخبرها في ثبات واستعلاء بأنه قد أرسل ابنتهما إلى فرنسا لتعيش بعيدًا عنها، لظن داخله بأنها امرأة سيئة السير والسلوك، فيصبح الرجل في أوج عنجهيته وقد انكسرت أمامه أم تتحمل كل انتهاك يرتكبه بحقها من أجل طفلتها، وتنتشي ساديته عندما تنحني أمامه، تستجديه أن يعيد إليها ابنتها على أن تذعن له في كل ما يريد، لكنه يبطش بها ويعتدي عليها بالضرب والسب، وعندما تقاومه، تفاجأ بأنها قد أردته قتيلًا دون قصد، فتتحول «كاريمان» المعنفة إلى قاتلة، وتضطر للتخفي في شخصية فتاة أتت من القاهرة إلى بورسعيد هاربةً من زيجة يريد زوج أمها إجبارها عليها.
يتغير الحال، فلم تعد «كاريمان» التي أضحت «كريمة»، امرأة ميسورة الحال، وإنما فتاة هاربة تستضيفها مغنية مبتدئة تعمل في تياترو أوجيني تدعى «جليلة» وتؤدي دورها «أسماء أبو اليزيد»، فتعيش معها في شقة صغيرة في حي شعبي بالمدينة، وتضطر للخروج إلى العمل من أجل كسب قوت يومها، وحتى تجمع ما يكفي للسفر إلى فرنسا بحثًا عن ابنتها.
على الرغم من أن حياة «كريمة» قد تبدو أصعب من حياة «كاريمان» ظاهريًا، لكنها كانت بمثابة بوابة الخلاص والتحرر من حياة بائسة كانت أشبه بصندوق أغلقه عليها زوجها، وفيها تعيد اكتشاف نفسها، وتتبدل حالة الخضوع التي كانت عليها إلى مقاومة مستمرة في مواجهة تقلبات الظروف وتبدل الأحوال ومخاوف لا مفر منها.
أما «جليلة» التي استضافت «كاريمان» أو «كريمة» لتشاركها المعيش في شقتها الصغيرة، رغم ضيق حالها، فهي فتاة تشبه كثيرات في كل زمان ومكان، توقن في موهبتها في الغناء، وتسعى إلى تحقيق حلمها في أن تصبح نجمة في هذا المجال، ولا تستسلم لأي عقبات تعترض طريقها، سواء كانت الأسرة التي رفضت اشتغالها بالفن مثل أسر كثيرة ما زالت ترفض انخراط بناتها في المهن الإبداعية، وهو ما يدفعها إلى الاستقلال ماديًا ومعنويًا بعيدًا عن أسرتها من أجل مبتغاها، ولا تترك الحبيب عقبة توقفها، ولا الإحباطات الحياتية اليومية التي تواجهها فتاة تقاوم وحيدة تقاليد وأطماع واحتكار.
وعلى الرغم من القوة التي تتسم بها شخصية «جليلة» في مواجهة كل ذلك، لم يسقط صناع العمل في فخ الشخصية الجامدة، فهي فتاة رغم قوتها ورؤيتها الثاقبة، تتملكها الحيرة أحيانًا تجاه حب لم تتيقن منه، ويؤلمها بشدة فقد الأب إلى حد الشعور بالانكسار. تبدو «جليلة» مثل كثيرات من الفتيات المستقلات اللاتي يتمردن على السائد والمقبول، يتشبثن بأحلامهن، ويحاربن طواحين الهواء، مهما غالبهن الاَلم والقهر.
النموذج النسائي الأكثر ثراءً في «ليالي أوجيني» هو «نعمات» التي تؤدي دورها «انتصار»، وهي امرأة تعرضت للعنف مرارًا من قبل زوجها السابق، الذي اعتاد إهانتها لأنها لم تنجب له طفلًا، وهو ما استخدمه مبررًا للزواج بأخرى، ويأتيها العنف أيضًا من أسرة كانت ترى أن عنف زوجها مقبول ومبرر، انطلاقًا من القول «ضل راجل ولا ضل حيطة»، لذلك عاندها أشقاؤها عندما سعت إلى الطلاق. «نعمات» امرأة معيلة، تساعد شقيقها في إعالة أسرته، وتنفق على ابنه الصغير حتى يواصل دراسته بالمدرسة، ومع ذلك فإن الأشقاء الذكور يتعاملون معها باعتبارها في درجة أدنى منهم، لأنها أنثى وفي نظرهم «لديها ظروف خاصة» نتيجة طلاقها وعدم إنجابها، ولا يحق لها تقرير الزواج مجددًا أو المواقفة على عريس، قبل أن يقرروا ويحددوا.
«نعمات» التي تنتمي إلى الطبقة الفقيرة، وتدرك الفجوة الطبقية الكبيرة بينها وبين «صدقي بيه» الذي أسره حبها ويريد الزواج منها، تظل أبية النفس، لا تقبل المساس بكرامتها، ولا ترضى بالتنازل أو جرح مشاعرها، من أجل الجاه أو الفوز برجل سيخلصها من نظرة المحيطين لها بعد الطلاق، ومثلما تبدو امرأة عاطفية شديدة العذوبة في بعض الأحيان، فهي امرأة صلبة وقوية لا تتهاون في حقها في أحيان أخرى.
بين الشخصيات النسائية، هناك امرأة إيطالية وأخرى لبنانية، من خلالهما تتجلى حالة التعايش بين الجنسيات المختلفة في مصر، التي تميزت بها تلك الفترة الزمنية، خاصة أن الأولى تتحدث المصرية بطلاقة وعفوية وكأنها ولدت لأب وأم مصريين. «صوفيا» التي تؤدي دورها «إنجي المقدم»، عاشت في بورسعيد حتى تزوجت وانتقلت مع زوجها خارج المدينة، لتعود إليها بعد وفاته، وتدير محل الحلوى الذي ورثته عن أبيها، والموجود في شارع يحمل اسم «أوچيني»، تدور فيه لقاءات وأحداث عديدة بين أبطال المسلسل.
تستقبل «صوفيا» زوارها بوجه صبوح وابتسامة تسر الناظرين، بينما تخفي أوجاع فقد الابن، الذي ترفض التسليم بأنه قد قضى نحبه في الحرب، وتعيش على أمل أن يعود إليها، فضلًا عن فقدها مرافقة حبيب ما زال حبها ساكنًا بداخله كما هو بداخلها.
تراوح «صوفيا» بين الأمل واليأس، بين المقاومة والإنهاك، دون أن تتكئ على أحد، رغم الإيذاء النفسي والمعنوي، سواء على مستوى ضيق في حدود مجتمعها الصغير وتحديدًا من قبل والدة «عزيز» الذي كانت تربطه علاقة عاطفية بها وما برح يحبها، أو على مستوى أوسع في ظل الاحتلال الإنجليزي الذي يستهدف الإيطاليين ويضيق الخناق عليهم، بعد انتصار دول الحلفاء ومن بينها بريطانيا على دول المحور ومن بينها إيطاليا في الحرب العالمية الثانية.
أما «عايدة » القادمة من لبنان إلى مصر، حيث عاشت مع زوجها الأول وهو شقيق البطل الرئيس «فريد» حتى توفي في حادث بينما كانت تحمل بين أحشائها ابنته. تحول وفاة الزوج دفة حياة «عايدة»، لتجد نفسها مرغمة على الانتقال إلى بورسعيد والزواج من شقيقه لضمان بقائها في كنف العائلة وحتى تكبر الصغيرة وسط أهل الأب، وهو شكل من أشكال العنف الذي تمارسه بعض الأسر بحق نسائها حتى يومنا هذا، حتى إن تناوله المسلسل بسلاسة وباعتباره أمرًا إنسانيًا ونوعًا من التكافل المقبول اجتماعيًا.
«عايدة» امرأة تحلم بالأسرة والاستقرار والحياة الهادئة، تحاول أن تتأقلم مع أي ظروف تستجد في حياتها، وتحاول جاهدة أن تخلق حالة أسرية ودودة بينها وبين «فريد» وابنتها «نادية»، لكن القدر لا يساعدها في الوصول إلى ما ترنو إليه، لأن الحب يعرف طريقه إلى «فريد» على يد «كريمان». تعد «عايدة» أقل الشخصيات النسائية الرئيسية دينامكيةً، فأبعاد الشخصية منذ الحلقة الأولى وحتى العشرين هي ذاتها تقريبًا، فضلًا عن أنها في قصتها مفعول به، ويعود ذلك بدرجة كبيرة إلى تركيبتها المتعايشة مع أي متغيرات قد تطرأ على حياتها، فضلًا عن أنها لا تبدي بوضوح مواقف أو اتجاهات بعينها، فعلى سبيل المثال، لا يمكنك معرفة وجهة نظرها أو موقفها سواء كان مؤيدًا أو معارضًا أو مهادنًا، إزاء ما تفعله صديقتها «نبيلة» مع «نعمات» زوجة أبيها، فهي تكتفي بمجاراتها والإنصات لخططها التاَمرية.
على درب المقاومة يسرن
على الرغم من أن العنف معنويًا كان أو ماديًا، أمر مشترك في حياة الشخصيات النسائية في «ليالي أوجيني»، فإن المقاومة بأشكال متعددة هي سبيل كل منهن أيضًا، فتقاوم «كريمة» أو «كاريمان» شعور الفقد تجاه ابنتها، بكتابة الرسائل يوميًا إليها، وهو ذاته السبيل لإبقاء أمل اللقاء والاجتماع مجددًا حيًا. نظير الكتابة كمبعث للأمل في حياة «صوفيا» هو يوم الأربعاء، وموعد ذهابها إلى الميناء، وهي في كامل أناقتها، حيث تنتظر عودة ابنها على إحدى السفن القادمة، وفي كل مرة ترحل على أمل أن تكون عودته الأربعاء المقبل، في محاولة لتبديد شعور الفقد وتحويله إلى انتظار محتومة نهايته باللقاء، بينما تواجه «جليلة» شعور الوحدة الذي يوخز قلبها بين اَن والأخرى، بمزيد من الإيمان في أن حلمها سيتحقق وتقاومه بالصعود إلى المسرح، حيث تصدح بالغناء في محاولة لتجاوز مسببات الحزن والخذلان، وإنعاش الأمل.
أما «نعمات» فمقاومتها تتمثل في حكمة التصرف وعقلانية رد الفعل، تجاه كل ما يدور حولها بداية من ضيق الحال وحتى عجرفة «نبيلة» ابنة زوجها.
تحت سطح الكلاسيكية.. ذكورية متغلغلة
الألوان المبهجة والديكورات الأنيقة والإكسسورات البراقة قد تلهي البعض عن التمعن في بعض التفاصيل الحياتية القاتمة، التي تكشف بنية المجتمع الذكورية. الشخصيات النسائية متوزعة بين طبقتين، إحدهما الطبقة العليا، حيث تعيش النساء كربات منزل لا يخرجن إلى العمل، بينما النساء اللاتي يعملن، هن المنتميات إلى الطبقة الفقيرة، وهو أمر واقعي ووضع كان قائمًا بالفعل فقد كان عمل المرأة مقبولًا في ذلك الزمن، باعتباره اضطرارًا وضرورة مادية، ويتضح ذلك أكثر مع انتقال «نعمات» من كونها امرأة عاملة إلى ربة منزل بعد الزواج مع «صدقي بيه».
تتوقف أحلام الشابات الصغيرات المنتميات للطبقة العليا على الزواج والأسرة، وحلم الانتقال من بيت الأب إلى بيت الزوج، ويظهر ذلك من خلال شخصيتي «نبيلة» و«سارة»، وهو ما يعبر أيضًا عن طبيعة المجتمع اَنذاك، التي إن كانت أكثر رقيًا وفخامة، لا تخرج فيها النساء عن حدود المنزل إلا إن أجبرتها الظروف المادية أو لأنها خرجت عن التقاليد والأعراف.