تزيد في المجتمعات الذكورية حدة المعارك التي تخوضها النساء من أجل الحصول على حقوقهن المستحقة، ومن بينها التحاقهن ببعض الوظائف والأعمال والوصول إلى مناصب بعينها، كما تقل فرص الترقي، ويتسق ذلك والأفكار التي ما برحت تعشش في عقول كثيرة، تعتقد أن خروج النساء إلى العمل ومشاركتهن في الحياة العامة، منّة يتفضل بها الرجال عليهن، ولذلك ما زلنا نسمع ذلك السؤال الذكوري- الإقصائي، “هما الستات عايزين إيه تاني؟!”، وعادةً ما يُطلِقه مرددوه، عندما يتطرق الحديث إلى تمييز ضد النساء، لا سيما في الحياة العامة وبيئة العمل تحديدًا، وما يتعلق بالحيلولة دون ارتقائهن إلى مناصب بعينها، وحرمانهن من اقتحام بعض مجالات العمل، وعدم المساواة في الأجور.

في هذه المجتمعات تتحامل القوانين على النساء، مثلما تفعل الثقافة المجتمعية، فترتفع معدلات الفجوة في الأجور، ويقل وصول النساء إلى المناصب القيادية وحضورهن في مراكز صنع القرار، وهنا تصبح الأسئلة الملحة هي: ما الذي يدفع النساء للاستمرار في هذه البيئة التعسفية؟ وكيف يواجهن هذه المعوقات التي تعترض طريقهن منذ أن تطأ أقدامهن مقار العمل؟

“لا أخفي عليك سرًا. أنا فعليًا أفكر في الاستقالة كل يوم” بنرة يكسوها اليأس تبدأ سمر محمود البالغة من العمر 27 عامًا، حديثها لــ«ولها وجوه أخرى»، بشأن ما تتعرض له من تمييز  في العمل. تتقاضى محمود أجرًا أقل من زملائها الذكور الذين يعملون في نفس القسم الذي تعمل به، وتوضح أنها على الرغم من عملها في هذه المؤسسة (مؤسسة خاصة) منذ العام 2013، فإنها لا تتقاضى أجرًا مساويًا لما يتقاضاه الذكور العاملين في المكان نفسه، وربما أقل حتى ممن التحقوا بالعمل من بعدها، ويتقاضى هؤلاء أجورًا مرتفعة تحت مسميات وظيفية مثل مشرف عام أو قائم بأعمال، وتشير محمود إلى أن هؤلاء لا يقومون بما تتطلبه المسميات الوظيفية المسندة إليهم، من مهام بل يوكلونها إلى من هم تحت إدارتهم وهي من بينهم.

السنوات الخمس التي قضتها في هذه المؤسسة كعاملة في قسم الموارد البشرية لم تكن كافية لإقناع مديريها بأحقيتها في تولي إدارة القسم حين شغر المنصب، وتظن محمود أن ذلك سببه؛ إيمان من يتولون زمام الأمور بأن الرجال قوامون على النساء، أو أن وجود النساء في مجال العمل زينة أو حسنة يتفضلون بها عليهن، وليس أمرًا مصيريًا لا تقل أهميته لهن عن أهميتة للرجال.

خاضت محمود صراعات عديدة، تارة لإثبات أحقيتها في أمر ما وتارة أخرى لرد اعتبارها، خاصة أن بعض زملائها يتطاولون عليها، ولكن المُحبِط أنها لم تحقق انتصارًا في هذه المعارك على حد قولها.

كل هذه الأمور التي تصفها محمود بأنها ضاغطة وخانقة، لم تدفعها في النهاية إلى ترك العمل، وعن أسباب امتناعها عن الإقدام على اتخاذ هذه الخطوة، تقول “أؤمن بأن العمل هو الوسيلة الوحيدة، لحفظ وصون كرامة الإنسان، ومن ثم لا بديل عن هذا الطريق، وبالتالي لن أترك هذه الوظيفة إلا إذا وجدت أفضل منها.”

يشيع التمييز ضد النساء في العمل في المجتمعات العربية، بسبب الثقافة المهيمنة التي ترى أن العمل وإدارته حق ذكوري، بناءً على القوالب النمطية المترسبة عن الرجال والنساء، التي تقضي بالقول القائل “في الاَخر الست ملهاش غير بيتها وجوزها”، وإن اعترفنا ببعض التقدم سنجد القول قد تحول إلى “الستات من حقهم يشتغلوا، بس مينفعش يبقوا مديرين ولا محافظين ولا قضاة”، ولذلك تظل النساء في تحدٍ دائم من أجل إثبات حقهن في العمل، ثم الاستمرار فيه، ثم الترقي، وأحيانًا يناضلن على جبهة أخرى من أجل مساواتهن في الأجر مع الرجال العاملين في نفس المكان وعلى نفس الدرجة، فضلًا عن مواجهتهن للسخرية، والتقليل من الشأن، والتحرش الجنسي، الذي كشفت دراسة أجرتها سكرتارية المرأة العاملة بالاتحاد العام لعمال مصر، إن 30 في المئة من العاملات، يتعرضن للتحرش اللفظي داخل مواقع العمل (أغسطس 2014).

تجربة أخرى تحمل عنوان التمييز ضد المرأة في العمل، تروي تفاصيلها إيزيس فؤاد، البالغة من العمر 25 عامًا، وتعمل في قسم المبيعات في إحدى الشركات الخاصة، التي تعتمد في تحديد المؤهلين للترقية على تقييم أداء العاملين بصفة شهرية، وعلى الرغم من حصول فؤاد على المركز الثاني في شتى التقييمات، فإن رئيس مجلس الإدارة رفض توليها منصب رئيس قسم التسويق الخارجي عندما شغر، لأنها امرأة وجميع العاملين بالقسم رجال.

تكشف فؤاد أنها حاولت طرح خطط للعمل في الموقع الذي من  المفترض أن تنتقل إليه، لكن المدير رفض حضور الاجتماع المقرر طرح الأفكار خلاله، وتقول “لقد أصبت بإجباط شديد، وتراجع أدائي في العمل بشكل ملحوظ، بسبب شعوري بالظلم، ومن ثم قررت ترك الوظيفة نهائيًا وانتقلت إلى العمل في شركة أخرى، كمديرة لقسم التسويق في إحدى الشركات التي تتحسس خطواتها الأولى.”

كان الدستور المعدل للعام 2014، قد نص في المادة رقم 53 على إنشاء ما يعرف بالمفوضية الوطنية لمكافحة التمييز بأشكاله كافة، ونصها ” ….تلتزم الدولة باتخاذ التدابير اللازمة للقضاء على جميع أشكال التمييز، وينظم القانون إنشاء مفوضية مستقلة لهذا الغرض”، وترى فؤاد أن خطوة تدشين المفوضية أمر في غاية الأهمية، ولكن مع ضرورة تفعيل نصوص القوانين.

لا يمكن القول إن التمييز ضد النساء ظاهرة محلية، فالأمر عالمي والنساء حول العالم يواجهن الأزمة نفسها، ويؤكد ذلك أرقام كالتي كشفها صندوق الأمم المتحدة للسكان، في تقرير صدر في العام 2017، تُظهِر أن النساء يحصلن على أجور تقدر بنحو 77 في المئة، مما يحصل عليه الرجل وسيستغرق الأمر أكثر من 70 سنة لإغلاق هذه الفجوة. علاوة على ذلك، فإن ثلاث من كل خمس نساء، لا ينلن حق إجازة الوضع/الأمومة، ومنهن من يتعرض لعقوبة إزاء الحمل والوضع، بفقدان الوظيفة كليةً. وفي العام نفسه، كشف المنتدى الاقتصادي العالمي أن النساء يتقاضين أجورًا أقل من الرجال، رغم أنهن يعملن سنويًا نحو 39 يومًا، أكثر من الرجال.

35 عامًا، هو عمر هناء كامل ومع هذا لم تكن هذه السنوات كافية لإقناع العاملين بوزارة الصحة بأنها مواطنة كاملة الأهلية، يمكنها اتخاذ أي قرار ولها الحرية في التحرك والتنقل دون قيد. وكانت كامل قد تقدمت بطلب إلى مديرية الصحة في محافظة الجيزة للموافقة على نقلها إلى محافظة جنوب سيناء، وحصلت على موافقة وكيل الوزارة في محافظة الجيزة، ونظيره في جنوب سيناء وتحديدًا مدينة الطور، ولكن هذه الموافقات لم تمنع العاملين في الإدارة من توجيه أسئلة استنكارية من عينة “أنت صغيرة؟” و”إزاي هتعيشي لوحدك؟” أو عبارات استهجان مثل “مينفعش من غير زوج معاك”.

كامل لا تنوي التخلي عن حقها في تقرير فعل ما تريد، وتؤكد أن هناك خيارات عديدة، من بينها، اللجوء إلى ساحات القضاء، لأن هذا التعسف يمثل مخالفة قانونية.

رغم إيمانها بصحة موقفها القانوني، يبقى الأمل لدى كامل محدودًا، خاصة أنها تعتقد أن العقول الرجعية لن تتغير، وتقول “فكررت مرارًا في تقديم استقالتي، ولكنني لم أعتد أن أكون حبيسة المنزل، فضلًا عن أن هذه الوظيفة تؤمن لي دخلًا ثابتًا، في ظل الظروف المعيشية الصعبة.”

لا تثق كامل كثيرًا في إمكانية المفوضية الوطنية لمكافحة التمييز في القضاء عليه، إلا إذا صاحبتها إجراءات رادعة، لافتةً إلى أنها تعتقد أن حقوق النساء في الدستور والقوانين مجرد حبر على ورق.