اغتصاب إرادة النساء، أمر تتأصل ممارسته في الثقافة الشعبية التي تتجذر فيها القيم الذكورية وتهودها الأبوية، وليس المال السبب وحده في إقدام الأسرة على تزويج بناتهن قسرًا، وإنما تتضافر عوامل أخرى، كالعادات والتقاليد وتشييء النساء، وقد يكون الزواج القسري وسيلة في يد الأسرة، لمعاقبة الفتاة والتخلص من نظرة المجتمع، إن أقدمت على كسر قواعد العائلة.

ألقت السينما المصرية الضوء على قضية الزواج القسري كثيرًا، كواحدة من أشكال العنف ضد النساء، التي لا تقتصر على طبقة دون غيرها أو على مرحلة زمنية بعينها، وفي السطور التالية، نستعرض معالجة ثلاثة أفلام لــ «الزواج القسري » وهي: «حتى لا تطفئ الشمس » من إخراج صلاح أبو سيف، و«حكاية بنت اسمها مرمر » من إخراج هنري بركات، و «إنذار بالطاعة » للمخرج عاطف الطيب.

حتى لا تطفئ الشمس: التحرر الزائف يخفي تحت سطحه الكثير من العنف

يستعرض الفيلم الصادر في العام 1961، عن رواية للأديب إحسان عبد القدوس، قصة أم وخمسة أبناء، ينتمون إلى الطبقة الأرستقراطية، وقد حاول المخرج صلاح أبو سيف، من خلال شخصيات الرواية ومشكلاتها وتطلعاتها، أن يقدم رؤية للواقع الاجتماعي والسياسي في مصر، في فترة الخمسينيات، وفي طيات ما تعرضه الرواية، تتبين وضعية المرأة في هذه الفترة، ومدى حرمانها من الكثير من الحقوق وانتهاك كثير غيرها.

وتظهر مشكلة الزواج القسري، من خلال شخصية ليلى، التي تؤدي دورها فاتن حمامة، وعلى الرغم من أن الأسرة أرستقراطية وتبدو على درجة من الانفتاح، لكن إرغامها على الزواج، كان الأداة التي لجأوا إليها، لوأد علاقتها بأستاذها ومعلمها المتزوج، خوفًا من الفضيحة التي قد تسببها لهم لو عُرِف أمر هذه العلاقة، وحينها يتخذ الخال والأخ الأكبر أحمد ويؤدي دوره شكري سرحان، قرارهما بتزويجها من ابن صديق للعائلة دون الرجوع إليها، وذلك بعد تعنيفها والاعتداء عليها، وحرمانها من الخروج من البيت، ليصبح منذ تلك اللحظة، الاعتداء البدني طقسًا في حياة ليلى، إذ يتكرر اعتداء زوجها عليها، ومع ذلك، يظل الخلاص منه ومن عنفه أمرًا صعبًا، لا سيما أن الطلاق ليس مُستساغًا لدى العائلة، ليُظهِر ذلك وجهًا اَخر من وجوه العنف التي تتعرض لها الفتيات، لا يتوقف عند حد حرمانها من حقها الشرعي في الطلاق، وإنما في حرمانها من الحياة بكرامة واَدمية، وحتى بعد أن تنصاع الأسرة لحتمية الطلاق، بعد أن عادت إليهن ليلى في إحدى المرات، وقد أصابها الاعتداء بجرح، تظل القيود تقيد حركتها وتضيق الخناق عليها، فيصبح خروجها من المنزل، محسوبًا وأسلوب حياتها تحت رقابة أشد، لأنها مطلقة وأي فعل سيحسب عليها، كما تقول أمها.

تتابع حلقات العنف في سلسلة ممتدة، ومن الزواج القسري، تبرز أشكال أخرى من العنف ضد المرأة في الفيلم، في مقدمتها فكرة الوصاية على المرأة جسدًا وعقلًا، فما زلت الفتيات تحت مقصلة التقاليد، رغم مظاهر التحرر الزائف، التي تبدو عليها النساء في تلك الفترة، سواء على صعيد المظهر العام، أو الدراسة والاختلاط بالجنس الاَخر، ويتطرق الفيلم إلى مسألة العلاقات قبل الزواج، وإزدواجية معايير التعامل معها، فالرجل يرى أنه يمتلك الحق الكامل في إقامة هذه العلاقات، بينما يُحرِّمها على المرأة إن كانت تربطها به صلة، كالأخت، أو الأم، أو الابنة، وهو ما يظهر مع نبيلة، الأخت الوسطى، التي تربطها علاقة عاطفية بزميلها في الجامعة، وعندما يعلم بها الأخ الأكبر أحمد يعنفها، رافضًا استمرار هذه العلاقة، في الوقت الذي يعطي لنفسه هذا الحق، ولا يجد غضاضة في علاقته بشهيرة، التي تعرف إليها في النادي.

النهاية كانت لصالح، تغير أحمد، وتحرره من قيوده، بعد تطوعه في الجيش من ناحية وحبه لشهيرة من ناحية أخرى، باعتبارهما تجربتين أذابا الثلج العالق بقلبه وأفكاره الجامدة، لكنها في الوقت ذاته رسخت لفكرة الحب والزواج كأولوية في حياة النساء، لتتلخص النهاية السعيدة في «رجل حسن الخلق».

حكاية بنت اسمها مرمر: الأسرة لا تمارس العنف ضد بناتها فقط وإنما تكفله كحق لـ«الرجال»

الفيلم الصادر في العام 1972، هو عن قصة للأديب محمد عفيفي، وكتب له السيناريو والحوار سيد خميس، والإخراج لهنري بركات، وإلى جانب تناول مشكلة الزواج القسري، فقد عالج الفيلم العديد من صور العنف ضد المرأة، من خلال الشخصية الرئيسة وهي مرمر التي تؤدي دورها سهير المرشدي، وهي فتاة ريفية، نشأت وتربت في بني سويف، وعاشت لا تملك حق الاختيار، تحت سطوة أسرتها وعائلتها ككل. القهر هو أنسب كلمة لتوصيف علاقة مرمر بأهلها، فأول ما ترسخ في العقل، هو أنها ملك لوالديها، يحق لهما تحريكها كعروس الماريونيت، ولا يمكن لها أن تناقش أو تعارض قراراتهما التي على إثرها تتشكل حياتها.

الوصاية على الجسد، وحرمان المرأة من حقها في التحكم فيه، توثقه جملة تقولها مرمر لأمها «من صغري وأنتِ محسساني أن أنا مش طبيعية. كل ما تبصي لصدري لإيدي، لرجلي، كأنك بتبصي لحاجة غريبة لغاية ما حسستيني أن جسمي ده مش ملكي مش بتاعي. أمانة شايلنها عندي لغاية ما يجي أول واحد يطلبها منكم وتسلمهاله.»

«أنا حياتي اترسملتي؛ قالولي اتجوزيه، اتجوزته .. قالولي اتنقلي مصر، اتنقلت.. ودلوقتي بيقولولي خلفي »

جسدها لا تملكه، ومستقبلها لا حق لها فيه، فحتى اختيار الدراسة والعمل، لم يكن لها يد فيه، فقد قرر الأهل، أن الأنسب لها هو الدراسة بكلية البنات، نظرًا لأنها تقتصر على بنات جنسها، ولا مجال للاختلاط بالذكور فيها، ليطيحوا بحلمها في الالتحاق بكلية الاَداب، وتذعن الفتاة لرغبتهم.

تحكم أسرتها في حياتها، يعضده قرار تزويجها قسرًا من رجل ثري يدعى محمود، ويؤدي دوره صلاح منصور، ولأنه رجل ذو صيت في بلدتها، يوافق الأب مباشرةً رغم فرق السن الكبير بينهما، وتوافق الأم بحجة تحقيق الستر لابنتهما، ولتتجاوز ما اعتبرته جرمًا، وهو حبها لابن خالتها أحمد، ويؤدي دوره محمود ياسين.

تتلاطم الأمواج في وجه مرمر، لتجد نفسها قد تزوجت رجلًا لا يرى فيها سوى الجسد الذي يستغله لإخماد شهوته الجنسية المشتعلة على طول الخط، وهذه نظرته للنساء عمومًا، التي يؤكدها انفضاح أمر زواجه بأخرى بعد مرمر، وتبريرها حينها لفعلته، بكلمتين هما «حقي الشرعي»، وعلاوة على ذلك، فإن نظرة الزوج للنساء كأوعية جنسية، جعلته يقدم على التحرش بصديقة مرمر في وجودها.

تعدد الزوجات يبدو عاديًا، فالأم لم تنزعج ولم تغضب مما فعله زوج ابنته، بل نصحتها بالاحتمال والعودة إلى زوجها، ومع ذلك ورغم كل الطرق المسدودة في وجه مرمر، تقدم الرواية نهاية مغايرة، لتجعل بيدها أخيرًا حق الاختيار، وذلك بعد حادثة كادت أن تودي بمستقبلها كليًا، لكن تتبدل الظروف وتتخلص من ذلك الزوج، وتقرر أيضًا عن اقتناع تام أن تلقي ماضيها خلف ظهرها، بما فيه من اعتقدت أنها تحبه، لتبدأ حياة جديدة، هي وحده من يحركها، ويعد أفضل ما تقدمه هذه النهاية وإن بدت للبعض غير واقعية بالقدر الكافي بالنسبة لخط سير الأحداث، هو فكرة الإتكاء على الذات، والتحرر من أي سلطة بيد الرجل، سواء كان الأب أو الزوج أو الحبيب.

إنذار بالطاعة: الرومانسية سبيل للتسامح مع الذكورية وقبحها!

صدر الفيلم الذي كتب له القصة والسناريو والحوار خالد البنا في العام 1993، بتوقيع المخرج عاطف الطيب، الذي عُرِف بكونه رائد تيار الواقعية الجديدة، الذي عرف طريقه إلى السينما المصرية مع نهاية السبعينيات وأوائل الثمانينيات، وعلى الرغم من أن الفيلم حاول الالتزام بالقالب الواقعي لأعمال الطيب، سواء على صعيد المعاناة التي تفرضها الضغوط المادية والمجتمعية على الأفراد، فقد جمّل الفيلم العنف الذكوري ضد المرأة وأعطاه صبغة رومانسية، لتخفف من وطأته.

يعالج الفيلم مشكلة الزواج القسري، من خلال البطلة وهي أمينة، ابنة لأسرة فقيرة، تجمع بين الدراسة في الجامعة والعمل في أحد محال الملابس، حتى تساعد نفسها وأسرتها، تربطها علاقة عاطفية- جنسية بشاب يدعى إبراهيم، ينتمي إلى نفس الطبقة الاجتماعية، وهو ما يحول دون زواجهما، حيث تفضل الأم رجلًا اَخر يدعى صلاح، لأنه ميسور الحال، وكما تكشف الأم، فإن سبب إصرارها على تزويج أمينة به، هو تعاملها معها كوسيلة للخلاص من الفقر الذي عاشت فيه طوال عمرها.

في فلك هذه القصة، تتشابك العديد من القضايا الإشكالية، كمسألة العذرية، وما قد يتسبب فيه فقدان غشاء البكارة، من ذعر لدى صاحبته، إلى جانب العلاقات الجنسية وما تُحدثه من اَثار على سمعة الفتاة، وإمكانية استغلالها كسلاح للضغط على النساء، وعلى الرغم من أن الفيلم حاول أن يكشف من خلال أمينة، حجم العنف الذي قد تتعرض له المرأة من جانب الأطراف كافة، سواء الأسرة أو المجتمع أو القانون وحتى الحبيب، لكنه قدم نهاية تتسامح مع العنف الذكوري، بغلاف رومانسي، لم ير سواه كثير من مشاهدي الفيلم. بعد أن استغل إبراهيم علاقته الجنسية بأمينة، لتكون وسيلة لإثبات زواجه بها أمام المحكمة، حتى يمنع زواجها من صلاح الذي وافقت عليه، خوفًا من أسرتها، وحتى يكون ذلك سبيله لطلبها في بيت الطاعة، ليستأثر بها لنفسه، تأتي النهاية لصالح انتصار الحب الذي جمعهما ويتحقق حلم الزواج رغمًا عن الأم، في محاولة لتقديم كل ما فعله إبراهيم بحقها، بما فيه اعتدائه عليها بالضرب، باعتباره ناتجًا طبيعيًا لعشقه لها، فيتحول الأذى النفسي والمعنوي بحق المرأة على الشاشة إلى شيء مقبول ومبرر، ويستقبله كثيرون بأريحية، بوصفه أمرًا واقعيًا.

هذا التقرير منشور في إطار سلسلة «تنويعات على وتر الذكورية»

التقرير الأول:

تنويعات على وتر الذكورية: السينما والعذرية.. الموت مصير محتوم لكل عابثة بــ«الشرف»

التقرير الثاني:

تنويعات على وتر الذكورية: السينما وخذلان الرجال.. المجتمع وأفكاره أهم وأبقى من الحب