هذه المادة منشورة في إطار سلسلة «منسيات»

عرفت مصر الصالونات الثقافية في القرن التاسع عشر، وقد لعبت دورًا كبيرًا حينذاك في تشكيل ثقافة ووعي المجتمع المصري، إذ كانت ملتقى الصفوة والنخبة، فيها تتبلور الأفكار وتتعمق النقاشات، فتتغير الرؤى وتتبدل النظرة الجامدة للأمور، كل ذلك كان ينقله المثقفون إلى الجمهور العادي إما من خلال كتاباتهم أو منابرهم، وبتتبع تاريخ الصالونات الثقافية في مصر، يبرز دور النساء ليس في التردد عليها أو تنظيمها مثلما فعلت «مي زيادة» فحسب، وإنما في تأسيسها، فأول صالون ثقافي بمفهومه الحديث في مصر، أسسته الأميرة «نازلي فاضل»، حفيدة «محمد علي» باشا، مؤسس الأسرة العلوية التي حكمت مصر لما يقترب من 150 عامًا، ويقول الدكتور «أحمد رجائي» في كتابه «1000 شخصية نسائية»: دشنت «فاضل» صالونًا ثقافيًا تحت عنوان «فيلا هنري»، وهو أحد أعلام الآثار، جمع الصالون شخصيات أصبحوا من أعلام الفكر والثقافة والسياسية في مصر، ومنهم؛ «سعد زغلول»، و«قاسم أمين»، والإمام «محمد عبده».

«نازلي فاضل».. عِظَم التأثير لم يعترف به المؤرخون

بخست المراجع التاريخية حق العديد من الرائدات، اللاتي ألقين الحجر في الماء الراكد، ومنهن «نازلي فاضل»، التي قلما يٌشار إلى تأثيرها العظيم في تشكيل رؤية وفكر «قاسم أمين» تجاه المرأة، على الرغم من أنها السبب الرئيس في تحول مواقفه من الرجعية إلى التحرر.

نبحث هنا في سيرة هذه السيدة، التي كسرت القواعد الملكية المحافظة، وتخطت حواجز الممنوع بسبب التقاليد، التي تحول دون انخراط النساء في المجال العام، ونشدد على عمق تأثيرها في بناء رؤية عدد من الرجال المناصرة لتحرير المرأة، في محاولة منا لرد الحق إلى أصحابه، لا سيما أن هذا الرجل نال لقب رائد حركة تحرير المرأة، وهو ما ينتقص من حق الرائدات الفعليات ومنهن «نازلي فاضل».

كيف نشأت رائدة التنوير؟

ولدت الأميرة «نازلي فاضل» في العام 1853، وهي ابنة الأمير «مصطفى فاضل» الأخ غير الشقيق للخديوي «إسماعيل»، ووالدتها هي «دل اَزاد هانم» إحدى زوجاته، اللاتي يصل عددهن إلى إحدى عشرة. غادرت أسرة الأمير «مصطفى فاضل» مصر، بعد صراع على السلطة بينه وبين «إسماعيل»، انتهى لصالح الأخير وعلى إثره سافر «فاضل» إلى فرنسا وانضم إلى معارضي السلطان العثماني «عبد العزيز»، الذي انحاز لـ«إسماعيل» ضده، ثم انتقل إلى تركيا وعاش هناك حتى وفاته، وبالتالي نشأت «نازلي» في أوروبا، وهو ما كان له جل الأثر على تربيتها الثقافية والفكرية، فأتقنت أربع لغات، وهي؛ العربية والفرنسية والإنجليزية والتركية، بالإضافة إلى الإلمام بالألمانية والإيطالية، وكانت مطلعة وقارئة للكتب.

بعد وفاة الأميرة «مصطفى فاضل» في اسطنبول في العام 1875، عادت أسرته إلى مصر، وأقامت في قصر بمنطقة العباسية كان يعرف باسم «سراي الحصوة»، بعد أمر من الخديوي «إسماعيل» بتخصيصه لهم.

لم تستمر إقامة الأميرة «نازلي» طويلًا في مصر، وعادت مرة أخرى إلى باريس في العام 1877، عندما عُيّن زوجها الأول «خليل باشا شريف» سفيرًا لمصر في العاصمة الفرنسية، وهناك تأثرت بالانفتاح الثقافي وحركة التنوير والنهضة الفكرية، فدأبت على القراءة والإطلاع، وأتاحت لها طبيعة المجتمع محاورة الرجال ومناقشتهم في شتى الأمور والقضايا الاجتماعية والثقافية والسياسية، وأضحت تتردد على الصالونات الأدبية، التي كانت ركيزة أساسية في الحركة الفكرية والأدبية والفلسفية في فرنسا في القرنين السابع والثامن عشر، وكان للنساء نصيب من تأسيس عدد من تلك الصالونات الأدبية في قصورهن. راقت الأجواء للأميرة وتكوّن لديها وعي بأهمية هذه الصالونات في النهوض بأفكار المجتمعات، فقررت بعد العودة إلى مصر، أن تؤسس صالونًا ثقافيًا على غرار صالونات باريس.

الأمير «مصطفى فاضل»

أول صالون ثقافي في مصر الحديثة

عادت «فاضل» إلى مصر في ثمانينيات القرن التاسع عشر، وقد قررت أن تجعل مكان إقامتها مقرًا لصالونها الثقافي، فأقامت في قصر بالقرب من قصر عابدين، اسمته «فيلا هنري»، في إشارة إلى عالم الاَثار السير «هنري لايارد»، الذي تعرفت إليه أثناء إقامتها في الخارج، وكانت علاقته بها أشبه بالتبني الثقافي.

أصبح صالونها مقصدًا لكبار المفكرين في ذلك الوقت، مثل؛ جمال الدين الأفغاني، وعبد الرحمن الكواكبي، وإبراهيم المويلحي، وأحمد لطفي السيد وسعد زغلول وقاسم أمين، والإمام محمد عبده.

كان صالون «نازلي فاضل» بمثابة تحدٍ صريح للعادات والتقاليد السائدة في المجتمع حينذاك، وكانت هذه الخطوة سببًا في هجوم الكثيرين عليها وانتقادها، بعد أن استطاعت تحطيم الصورة النمطية عن الأميرات وسيدات القصر، ونجحت في تغيير أفكار رجال أضحوا أعلام الفكر ورواد حركة التنوير في مصر، بفضل النقاشات التي دارت واشتبكوا فيها داخل صالونها.

وفي كتابه «نساء رائدات» يقول الدكتور «طارق حجي»، إن «نازلي فاضل» لم تنل التقدير الذي تستحقه من قبل المؤرخين، باعتبارها الراعي الأول لجيل التنويرين، وأحد أسباب وجودهم.

تأثير «نازلي فاضل» على ثلاث من دعاة تحرير المرأة

الإمام محمد عبده

نشأت العلاقة بين الأميرة والإمام، بعد أن طلبت من الخديوي «توفيق» العفو عن «محمد عبده»، بعد نفيه خارج البلاد واستقراره في بيروت، إثر اشتراكه في الثورة العرابية ضد الاحتلال الانجليزي، فوافق الخديوي على طلبها، وبعد عودته إلى مصر -بشرط ألا يعمل بالسياسة – التقته الأميرة وشجعته على تعلم اللغة الفرنسية، لتساعده على الإطلاع على أفكار تقدمية، تساهم في تحرير العقل وعبور الماضي الذي ينغمس فيه المجتمع والقطاع الأوسع من نخبته، كما أصبح من المترددين بشكل دوري على صالونها الثقافي، وكان لذلك أثره على كتابات وأفكار الإمام فيما بعد، كما تشير عدد من المراجع إلى وقوفها وراء توليه منصب مفتي الديار المصرية.

يشكك البعض في تأثير الأميرة على أفكار الإمام، لكن علاقتهما الوطيدة تدحض هذه المزاعم، ولعل أبرز الدلائل عليها، هو ما أورده أحد تلاميذه، وهو «محمد رشيد رضا»، في كتابه «تاريخ الإمام»، وفيها يشير إلى أن «محمد عبده» كان يصفها بـ«حضرة البرنسيس التي لها من قلبي المنـزل الأبـهى، والمقام الأسمى»، بالإضافة إلى صورة نشرتها مجلة «الاثنين والدنيا» في العام 1942، باعتبارها صورة نادرة، تجمعهما والشاعر التركي «علي كمال» في باريس.

سعد زغلول

كان «سعد زغلول» واحدًا من أبرز المترددين على صالون «فاضل»، ومثلما أقنعت الإمام «محمد عبده» بتعلم الفرنسية أقنعته بالشيء نفسه، وبحسب بعض المراجع فإنها من كان وراء إقناع اللورد «كرومر»، المندوب السامي البريطاني، بتعيينه مستشارًا بمحكمة الاستئناف.

كانت قصة زواج «سعد زغلول» و«صفية مصطفى فهمي»، ابنة رئيس وزراء مصر التي أصبحت فيما بعد «صفية زغلول» الملقبة بـ«أم المصريين» حدثًا جللًا، لأن هذه الزيجة كانت انقلابًا على أعراف تمنع زواج أبناء الطبقة الفقيرة والفلاحين من بنات الطبقة الأرستقراطية، علاوة على كونه من مناصري الثورة العرابية بينما «صفية» ابنة رئيس وزراء مصر، وفي ذلك الوقت، تحدثت الصحف المصرية عن أن الأميرة هي السبب في إتمام الزيجة، بينما نفى المفكر والأديب «عباس محمود العقاد» في كتابه «سعد في بيته» أي دور لها في هذا الأمر، وأكد أنها لم تساعد في إتمام الزيجة، وهو ما اتفق فيه الصحافي «مصطفى أمين».

وبغض النظر عن مدى صحة القصة، فإن «زغلول» يبدو مدينًا بالكثير للأميرة «نازلي فاضل»، ولم ينس الإشارة إليها في مذكراته، ووصفها بالمرأة المثقفة والوطنية التي دعمت ثورة «عرابي».

قاسم أمين

طرأت تغييرات كبيرة على أفكار القاضي «قاسم أمين»؛ من مدافع مستميت عن الحجاب وتعدد الزوجات، ورافض للاختلاط بين الجنسين في الدراسة والعمل كما هو الحال في فرنسا، إلى مهاجم ومعارض لاستمرار هذه الأفكار والتقاليد، داعيًا إلى خروج المراة إلى التعليم والعمل، وبينما يرجع كثيرون سبب هذا التغيير إلى دراسته للقانون في فرنسا وتأثره بالنهضة الثقافية والاجتماعية هناك، ويدعم اَخرون اعتقاد أن علاقته بـ«جمال الدين الأفعاني» و«محمد عبده» هي السبب في ذلك التحول، قلما يشير المؤرخون إلى علاقته بـالأميرة «نازلي فاضل» وتأثيرها، على الرغم من أنها من رعى صدور كتابة الأهم والأشهر «تحرير المرأة» في العام 1899.

أصدر «أمين» كتابه «المصريون» بالفرنسية في العام 1894، ردًا على كتاب فرنسي بعنوان «مصر والمصريون»، كتبه الدوق الفرنسي «داركور» ينتقد ما راَه رجعية وتخلف في مصر وقتها، فجاء رد «أمين» مدافعًا عن كل ما انتقده الدوق، مثل، الحجاب وتعدد الزوجات، وهاجم الاختلاط بين الجنسين في أماكن الدراسة والعمل في فرنسا.

مضى «أمين» في نفس الطريق لعدة سنوات من خلال مقالات نشرها في جريدة «المؤيد»، ولإطلاع «فاضل» المستمر ومتابعتها للحركة الثقافية والأدبية والصحافية في مصر، توقفت أمام ما يكتبه بعد أن أثار حفظيتها، خاصة بعد أن ظنّت أنه ينتقدها شخصيًا، لأنه لم يكن سواها في ذلك الوقت يجالس الرجال ويخالطهم في صالونها، فتوجهت إلى الإمام «محمد عبده» و«سعد زغلول»، تخبرهما باستيائها مما يكتبه «أمين»، فعملا على رأب الصدع وأحضراه إلى الصالون، لتبدأ علاقته بها ويصبح أحد أبرز المترددين على الصالون، ويبلغ التأثير حد إصداره كتابه الأهم «تحرير المرأة» في العام 1899، الذي يقال أنها من تحمل نفقاته.

وبحسب رواية «هدى شعراوي» في مذكراتها، فقد قال الشيخ «عبد العزيز البشري» في كلمة له خلال احتفال بالذكرى العشرين لرحيل «قاسم أمين»، أقيم في مايو من العام 1928، إن قاسمًا كان في مبدأ حياته من الرجعيين، حتى أنه عندما رد على الدوق داركور دافع عن الحجاب واستنكر السفور، فظنت الأميرة نازلي فاضل أنه يقصدها، فغضبت لذلك، ولكن سعدًا قدم صديقه إليها، ولما رأى شدة عقلها ورجاحة حلمها ووثاقة فضلها، انقلب عن رأيه، وأخذ يطالب بتحرير المرأة.

تأثيرها العابر للحدود: كيف لعبت دورًا في تعليم التونسيات؟

لم يكن أثر ما أحدثته «فاضل» من هزة في المجتمع قاصرًا على مصر، فقد ذاع صيتها في عدد من الدول العربية ومنها، تونس، التي كانت دائمة التردد عليها لزيارة أختها الأميرة رقية التي كانت تعيش هناك، فتشكلت لها شعبية، إذ كانت تحرص على التعرف إلى مثقفي البلد ومفكريه، فضلًا عن حرصها على زيارة المتاحف والأضرحة، إلى جانب تبرعاتها، فعُينت كرئيس شرفي لإحدى الجمعيات التونسيات الثقافية، التي كانت تستهدف النهوض بوضع المرأة وتعليمها وتثقيفها، لكن يبقى أهم ما نجحت في تحقيقه «فاضل» في تونس، هو إقناعها لـ«البشير صفر» أحد قادة حركة الإصلاح التونسية، بضرورة تعليم البنات، وكانت مصر قد سبقت تونس في هذا الصدد، فدعته إلى زيارة مصر، حتى يرى المدارس ويتعرف إلى ما وصلت إليه التجربة المصرية، فعاد إلى تونس وقد عقد العزم على تأسيس أول مدرسة للفتيات المسلمات.

عاشت الأميرة «نازلى فاضل» متنقلة بين مصر وتونس، بعد زواجها من القاضي التونسي «خليل بو حاجب» في العام 1900، وحتى توفيت في العام 1914 إثر أزمة قلبية.