عادةً ما يصاحب «هدى شعراوي» ورفيقاتها مثل «سيزا نبراوي» و«حواء إدريس» و«نبوية موسى» و«استر فهمي ويصا»، الوصف بأنهن الرعيل الأول من المدافعات عن حقوق النساء في العالم العربي، بما يمثل إجحافًا بحق أخريات سبقن هذا الجيل، في الدفاع عن حقوقهن، وإن كانت حقوقًا محدودة ولم تخرج عن حيز المطالبة بها عبر مقالات وكتابات أدبية. ربما يحدث هذا عن غير علم بتاريخ أولئك النساء، ومنهن؛ «ملك حفني ناصف»، و«نازلي فاضل»، و«لبيبة هاشم» و«زينب فواز»، و«عائشة تيمور»، بسبب ندرة الكتابة عنهن، وقد يكون عن علم وقصد، بناءً على رؤية معارضة لتوجهات هذا الجيل الإصلاحية، التي يغيب عنها التمرد والروح الثورية، التي اتسم بها جيل «شعراوي»، الذي ساهمت ثورة 1919 في بلورة رؤيته، لكن هذه القناعة – حتى إن صحّت – ليست مبررًا لبخس حق أولئك من التوثيق التاريخي، وتهميش دورهن وطمس حِراكهن الذي مهد الطريق لهؤلاء اللاتي لحقن بالركب، ولذلك نتناول هنا سيرة واحدة من هؤلاء المنسيات، ليبقى حقهن مذكورًا ومحفوظًا.

من الشام إلى مصر: الإسكندرية تحتضن «درة الشرق»

في البداية، لا بد من الإشارة إلى أن المعلومات المتوفرة عن «زينب فواز» محدودة، وتختلف الكثير من الروايات بشأن بعض المراحل في حياتها، وعلى سبيل المثال، فإنه من الصعب تحديد عام ميلادها، إذ تختلف بعض المصادر في هذا الأمر، البعض يزعم أنها ولدت في العام 1844، وأخرى تقول في العام 1846، ويرجح اَخرون أنها ولدت في العام 1866، بينما تتفق أغلب المصادر على أن الوفاة كانت في العام 1914.

ولدت «فواز» في قرية «تبنين» في الجنوب اللبناني، ثم هاجرت مع أسرتها إلى الإسكندرية، التي كانت تعد وجهةً للكثير من المهاجرين من الشام، فيما عُرِفَ بهجرة «الشوام إلى مصر»، خلال القرن التاسع عشر وبداية العشرين.

عندما انتقلت «فواز» إلى مصر، في منتصف القرن التاسع عشر أو بداية النصف الثاني منه، لم يكن تعليم الفتيات في مصر أمرًا معهودًا، ولم يكن متوفرًا إلا من خلال استجلاب معلمين إلى بيوت المنتمين إلى الطبقة الأرستقراطية، وكان تعليم الفتيات في هذه الحالة، يقتصر على القراءة والكتابة، إلى جانب التدريب على الخياطة وتطريز الملابس، والموسيقى أحيانًا.

درست النحو والإنشاء على يد الشيخ «محيي الدين النبهاني»، وكان من أعلام اللغة العربية وتدريسها في الإسكندرية، وتعلمت أيضًا قواعد اللغة العربية على يد الشيخ «محمد شلبي»، والشاعر «حسن حسني الطويراني»، أحد أهم شعراء الفصحى حينذاك ومؤسس «جريدة النيل»، وقد لعب الأخير دورًا كبيرًا في دخولها إلى عالم الكتابة، عندما مكنها من الكتابة في جريدته، مما ساهم في ذيوع صيتها، لا سيما أن انخراط النساء في عالم الكتابة، كان نادرًا في ذلك الوقت، وترفضه أغلب الأسر والعائلات.

رائدة من رائدات الكتابة «النسائية» وصاحبة أول رواية عربية

عندما دخلت «فواز» إلى عالم الصحافة، فتحت المجلات والصحف الأبواب أمامها، وذلك لم يكن بسبب انفتاح المجتمع المصري نفسه تجاه الأمر، وإنما يعود بشكل رئيس إلى أن أغلب الصحف والمجلات في نهاية القرن التاسع عشر، كانت مملوكة لشوام وأغلب العاملين فيها من لبنان وسوريا، فكانوا أكثر قبولًا لعمل النساء في الكتابة، لا سيما إن كن شاميات. وبالإضافة إلى مجلة «النيل»، كتبت في مجلات؛ «الأهالي» التي أصدرها اللبناني «جورجي زيدان» في العام 1892 من القاهرة، ومجلة «لسان الحال» اللبنانية التي تصدر في بيروت منذ العام 1877، بالإضافة إلى «المؤيد» التي أسسها الزعيم «مصطفى كامل» في العام 1889، و«اللواء» التي أصدرها أيضًا «كامل»، في العام 1900،  إلى جانب مجلتين نسائيتين، إحداهما كانت أول مجلة نسائية في المنطقة العربية وهي «الفتاة» التي أصدرتها «هند نوفل» في الإسكندرية في العام 1892، والأخرى هي «أنيس الجليس» التي صدرت في الإسكندرية أيضًا في العام 1897.

ولم يقتصر نشاط «فواز» على الكتابة في المجلات، وإنما امتد إلى تأليف الكتب، فصدر لها رواية «حسن العواقب» في العام 1899، وهي أول رواية عربية في الأدب الحديث، ومع ذلك فإن أغلب القراءات التاريخية العربية، تغفل هذا الحق وتهدره، وتنسب أول رواية عربية إلى الكاتب المصري «محمد حسين هيكل»، لروايته «زينب»، التي صدرت في العام 1914.

بعد «حسن العواقب»، كتبت مسرحية «الهوى والوفاء»، التي صدرت في العام 1893، ثم  ألفت رواية «كورش ملك فارس»، التي صدرت عن مطبعة هندية في العام 1905، ومن أهم مؤلفاتها كتاب «الدر المنثور في طبقات ربات الخدور»، الذي صدر عن المطبعة الأميرية الكبرى في مصر، في العام 1894، بعد أن استغرق العمل عليه من جانبها نحو ثلاث سنوات، وهو بمثابة بحث أو دراسة متعمقة في تاريخ وإنجازات المرأة سواء الشرقية أو الغربية، وأرخت فيه لـ456 شخصية.

وكتبت في مقدمته، مشيرةً إلى الجهود السابقة في التوثيق للشخصيات البارزة والمؤثرة في التاريخ «ولم أرَ في كل ذلك من تطرق وأفرد ليصف العالم الإنساني بابًا باللغة العربية، جمع فيه من اشتهر بالفضائل وتنزهنّ عن الرذائل، مع أنهن نبغ منهن جملة سيدات لهن المؤلفات التي حاكين بها أعاظم العلماء وعارضن فحول الشعراء، فلحقتني الحمية والغيرة النوعية على تأليف سفر يسفر عن محيا فضائل ذوات الفضائل من الآنسات والعقائل وجمع شتات تراجمهن بقدر ما يصل إليه الإمكان.»

ومن أبرز الوثائق التي ضمنتها «فواز» في كتابها، وثيقة لسجال بين الأديبة اللبنانية «مريم نمر مكاريوس»  والمفكر اللبناني «شبلي شميل»، نشرته مجلة «المقتطف» اللبنانية – المصرية، التي صدرت في العام 1877 في لبنان، ثم انتقل مؤسسوها إلى مصر، لتصدر بعد ذلك في القاهرة. وفي هذا السجال ترد «مكاريوس» على ما أثاره «شميل» في مقاله عن قوامة الرجال، وتدافع دفاعًا مطلقًا عن المساواة بين الرجل والمرأة.

عن الاتهام بالرجعية الذي يلاحقها

كانت «فواز» من أبناء الفكر الإصلاحي، وهو المنهج الذي تبنته غالبية الكاتبات اللاتي دافعن وطالبن بحقوق النساء في ذلك الوقت، وتحديدًا حتى نهاية العقد الأول من القرن العشرين، وينجلي ذلك في مقالاتها، إذ أكدت مرارًا على تمسكها بالتقاليد، لا سيما فيما يخص الحجاب والنقاب والمخالطة بالرجال، وفي كتاب «الرسائل الزينبية» الذي يضم مجموعة من مقالاتها وأشعارها، التي نشرتها في مجلات وصحف عديدة، تقول في الرسالة الثانية وعنوانها «تقدم المرأة»، إن حجاب المرأة لا يَحُول دون تعليمها فعلى المرأة أن تتعلم ولكن دون أن تتخلى عن التقاليد، وكتبت نصًا «وإن كان بيننا وبين نساء الغرب بَوْن بعيد من حيث الحجاب والمنعة، والبعد عن مخالطة الرجال بحكم الشرع، إلا أنه لا حجاب بيننا وبين درس العلم واكتساب المعارف، التي نرفع بواسطتها راية الفخر بأنفسنا إظهارًا لعلو منزلتنا.»

أيضـــــــــــــــــًا.. لبيبة هاشم.. فتاة الشرق التي نذرت قلمها للدفاع عن النساء ومناصرتهن

كانت هذه الاَراء سببًا في اتهامها بالرجعية، وأنها أخطأت أكثر مما أصابت، لكن هذه الرسائل أيضًا تثبت أنها كانت تنادي بالمساواة بين المرأة والرجل، لا سيما في التعليم والعمل، وجاء في الرسالة نفسها قولها: «اﻟﺴﻮاد اﻷﻋﻈﻢﻣﻦ رﺟﺎﻟﻨﺎ اﻟﴩﻗﻴين ﻳﻌﻠﻢ أن اﻷﻣﻢ اﻟﻐﺮﺑﻴﺔ ﻣﺎ ﻋﻘﺪت ﺧﻨﺎﴏﻫﺎ، واﺗﻔﻘﺖ آراؤﻫﺎ وﺧﻮاﻃﺮﻫﺎ ﻋﲆ وﺟﻮب اﺣﱰام المرأة، وإﻧﺰاﻟﻬﺎ المنزلة اﻟﺘﻲ ﺗﺠﺐ ﻟﻬﺎ إﻻ ﺑﻌﺪ أن ﺗﻴﻘﻨﻮا أﻧﻬﺎ اﻟﻌﻀﻮ المهم ﰲﺟﺴﻢ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻹﻧﺴﺎﻧﻲ. وما اشتهر به ﻣﻨﺸﺄ اﻟﻌﺎﻟﻢ اﻟﻐﺮﺑﻲ ﻏﻨﻲ ﻋﻦ أن  يذكر،  وشاهدنا على ذلك أيضًا ﻣﺎ ﺗﻨﺎﻗﻠﺘﻪ اﻟﺼﺤﻒ ﻋﻦ أﻋﻤﺎل اﻟﻨﺴﺎء ﰲ ﻣﻌﺮض ﺷﻴﻜﺎﻏﻮ، وﻋﻤﺎ أظهرته من حسن البناء، وما اشتهر به نساء روسيا، من إتقان صناعة الطب ومزاولته برخصة من مجلسها الطبي وهن يجرين العمل كالرجال، بحيث قرر مجلسها الشوري أن تُفتَح لهن جمعيات لهذا الخصوص…. والحاصل أنه ما من أمة انبعثت فيها أشعة التمدن في أي زمان كان إلا وكان للنساء اليد الطولى والفضل الأعظم.»

الدفاع عن حق المرأة في العمل السياسي

وانتقاد تعدد الزوجات والتحرش

قد تكون رؤية أفكار «فواز» رجعية ومحكومة بشيء من الذكورية، منطقية بالنظر إلى الأفكار التي تصدرت نقاشات تحرير المرأة فيما بعد، لكن إغفال الإطار الزمني، الذي جاءت فيه مطالبها يجعلها تبدو كذلك، فأن تنذر امرأة قلمها للدفاع عن حق المرأة في التعليم والعمل وتطلق كلمة المساواة في كتاباتها، خلال العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر والعقد الأول من القرن العشرين، فهو تحدٍ لكل ما كان سائدًا وراسخًا في الثقافة اَنذاك.

وفي الرسالة الثالثة، دافعت «فواز» عن حق المرأة في الاختيار بين العزوبية والزواج، وأقرت حقها في الطلاق، وفي رسالة أخرى بعنوان «مجمل حياة النساء»، انتقدت تعدد الزوجات. وفي الرسالة العشرين، تنتقد التحرش الجنسي اللفظي في ذلك الزمان، وتقول:  «وحين ﻳﺮون أي ﺳﻴﺪة ﻛﺎﻧﺖ ﻣﻦ اﻟﺴﻴﺪات المخدرات تمر، يرمونها بكلام تشمئز منه النفوس، ويأباه كل ذي ذوق سليم، مثل قولهم: «يا سلام يا سيدي»  «ما فيش كده أبدًا»  وما أشبه، فإذا كانت السيدة مارة أمام قهوة أو مجتمع وسمعت ذلك، يستولي عليها الخجل حتى تكاد تضطرب من شدة الحجاب والغيظ، من تعديات ذلك المتكلم.»

تضم الرسائل أيضًا ردًا منها على مقال بعنوان «المرأة والسياسة»، للكاتبة والخطيبة اللبنانية «هنا كوراني»، عندما كتبت تطالب بأن يبقى عمل المرأة في المنزل، وأن تترك الأعمال الأخرى للرجال وبالتحديد العمل في السياسة، وهو ما دفع «فواز» للكتابة تفند ما جاء في مقال الأولى، وموثقةً بالأسانيد قدرة النساء على الحكم والتشريع.

وفي شأن السياسة، فقد كان لـ«فواز» اَراء واضحة ومعادية للاستعمار، كما كانت من مؤيدي الزعيم «مصطفى كامل»، ومن أشد المؤمنين بأفكاره المناوئة للاحتلال الانجليزي، وكتبت مرارًا ضد الاحتلال ومؤيديه.

قبل سنوات قليلة من وفاتها في يناير من العام 1914، توقفت  «فواز» عن الكتابة في الصحف والمجلات بعد أن ألم بها المرض، ومن غير المعلوم، هل كان انقطاعها كليًا أم تركت كتابات أخرى حبيسة الأدراج؟