يمكن النظر إليه كفيلم يتعمق في أزمة الوصم الاجتماعي، التي تلاحق الحاملين لفيروس نقص المناعة أو مرضى الإيدز، ويمكن أن يُرى كقصة لامرأة قوية صمدت أمام كل الإحباطات التي تعثَّر بها طريقها، وظلت تقاوم في مواجهة مجتمع ينظر إليها بعين الشك والريبة ويرفض تقبلها، لكن المؤكد أنه حكاية عن تبديد “الخوف”، الخوف من المرض والخوف من مواجهة المجتمع والخوف من الاَلم والخوف من الموت، دون الاعتماد على رسائل مباشرة وحوارات توجيهية، فهو فيلم إنساني يغوص في النفس وصراعاتها، ويدفع مشاهده إلى إعادة النظر إلى نفسه وأفكاره.

فيلم “أسماء” من تأليف وإخراج “عمرو سلامة”، ومن إنتاج العام 2011، واستقبلته دور العرض السينمائي في مصر في ديسمبر من العام 2011. تؤدي دور “أسماء”، الممثلة “هند صبري” وقد استوحى “سلامة” قصة الفيلم من شخصية حقيقية توفيت قبل أن يكتب قصته، وبحسب تصريحات صحافية له، فإن فكرة الفيلم تولدت لديه، عندما كان يصور فيلمًا وثائقيًا عن مرض الإيدز، والتقى بعدد من المرضى.

الخط الرئيس هو سعي “أسماء” المصابة بالتهاب المرارة ، إلى إجراء عملية استئصالها، بعد أن أصبح ذلك حتميًا، لكن إصابتها بالإيدز تحول دون موافقة الأطباء أو المستشفيات على ذلك، خشية نقل الفيروس إلى اَخرين، فتلجأ إلى الإعلام المرئي والظهور في أحد البرامج الحوارية لحل مشكلتها.  ومن هذا الخط تتفرع خطوط أخرى.

يربط الفيلم بين الحاضر والماضي، ويبدأ الأخير سعيدًا، حيث تعيش فتاة ريفية تملؤها الحيوية، قلما تفارق الابتسامة وجهها الصبوح، تتعلق بشاب يدعى  “مسعد”  – يؤدي دوره “هاني عادل – وتتزوجه، لكن سرعان ما تتبخر السعادة، وينال البؤس من حياتها، عندما يصفعها أحد الرجال في السوق، فيعتدي عليه “مُسعد” ويرديه قتيلًا، لينتهي به الحال في السجن، بينما تنتظره “أسماء” حتى يخرج ويعود إليها، معلقة بالأمل في أن تعود الحياة بينهما كما كانت.

يخرج الزوج وقد عزم على تطليق “أسماء”، بعد أن تأكد من إصابته بالإيدز داخل السجن، وعلى الرغم من رفضه الإفصاح عن السبب وراء إصابته، تتمسك به  وتصر على تقاسم المرض معه، حتى تحقق له حلمه بإنجاب صبي يرث أرضه، لكن الزوج يموت قبل أن تنجب، فيجبرها شقيقه على الرحيل عن بلدتهم، مشترطًا أن تترك لهم المولود إن كان ذكرًا، وإن جاءت بنتًا فلتأخذها معها.

“أسماء” في الوقت الحاضر، في الأربعينات من العمر، تعيش مع والدها وابنتها في القاهرة في أحد الأحياء الشعبية، تتخفى في خمار طويل، وقفازين يغطيان يديها باستمرار، ولم تعد الابتسامة ترتسم على وجهها إلا مفتعلة. تخفي حملها لفيروس نقص المناعة، عن المحيطين بها في العمل والحي السكني، وحتى ابنتها، فيما عدا والدها الذي يهرب من شعوره بالعجز أمام ما تعانيه ابنته بالسُكر، ليلًا نهارًا.

البطلة الحقيقية لهذة القصة توفيت قبل إجراء عملية المرارة ولم تظهر بوجهها على التلفاز، وظهر  في الفيلم عدد من حاملي فيروس نقص المناعة

ليس بالضرورة أن يكون الفيلم نسائي الصنع ليكون نسوي الهوى

على الرغم من أن العنصر النسائي في صناعة الفيلم يبقى محدودًا، فقد خرج الفيلم بطابع نسوي، ينتصر للنساء المتعايشات مع الإيدز اللاتي يعانين من نظرةٍ أشد قسوة من تلك التي يواجهها المصابون من الرجال، ويجابه الفيلم في ثناياه هذه النظرة وينتقد الأحكام المسبقة، فخلال ما يزيد عن الساعة والنصف بدقائق، تتجسد أمام المشاهدين صلابة امرأة ريفية، انتقلت من بنها إلى القاهرة، لتعيش بسر كبير في مجتمع يقسو على فقرائه، فمابالك إن كانوا فقراء وحاملين لمرض يصحبه الوصم، وحتى عندما كانت شابة يافعة، كانت متمردةً، وهي صاحب القرار في حياته؛ تشتغل مع أبيها في نسج السجاد يدويًا، وتنزل إلى السوق لتبيعه، بقوة وتمكن، وعندما أحبت  تمسكت باختيارها، وأصرت على البقاء إلى جانب زوجها حتى بعد علمها بإصابته بالإيدز، بل وتقرر أن تضحي بصحتها ونفسها وتشاركه مرضه مهما كانت العواقب، وعندما تصبح أمًا تتحمل المرض باَلامه وأوجاعه النفسية والجسدية، وتربي ابنتها وحيدةً.

القائمون على العمل أغلبهم من الرجال، فالفيلم من تأليف وإخراج “عمرو سلامة” وإنتاج  شركة “فيلم كلينك”، لصاحبها “محمد حفظي”،  والمونتاج لـ”عمرو صلاح”  والمنتج الفني “أحمد بدوي”،  و الموسيقى التصويرية لـ”هاني عادل”، وتولى “أحمد جبر” إدارة التصوير.

أما الحضور النسائي، فقد انحصر في أدوار مثل؛ الإشراف العام على الإنتاج للممثلة “بشرى”، وتنفيذ الإنتاج لـ”رشا جودت”، وهندسة الديكور وقامت به “هند حيدر”، وتصميم الملابس لـ”مونيا عبد الفتاح”، وتنفيذ الملابس من نصيب “زينب طعيمة”، ويأتي اسم “رندا يسري” كمساعد ثاني في فريق الإخراج، وياسمين القاضي كتايليست، أي منسقة مظهر للشخصيات.

إلى جانب “أسماء” نرى نساء أخريات، قصصهن مبتورة، مثل ابنتها “حبيبة” وتؤدي دورها “فاطمة عادل”، التي يفصلها عن أمها حواجز نفسية، بسبب شعورها الدائم بأنها تخفي عنها أسرارًا وجوانب كثيرة في حياتها، بداية من والدها الذي تتجنب أن تحكي لها عنه أو عن سبب وفاته، وترغمها على العيش معها في عزلة اجتماعية، وأيضًا “فريدة ” وتؤدي دورها “ليلى عز العرب”، وهي واحدة من المصابين بالمرض، تلتقيها في جلسات الدعم النفسي التي تعقدها إحدى مؤسسات المجتمع المدني، وتعيش وحدها تمامًا، حيث يعيش ابنها في الخارج، لا يهاتفها إلا فيما ندر، ولا يأتي إلى زيارتها مع زوجته وأولاده، ربما خوفًا من مرضها أو خوفًا من أن يعرفوا بحقيقة مرضها،  أما “أيتن”، وتؤدي دورها “سامية أسعد”، المعدة في البرنامج الحواري “على صفيح ساخن”، الذي يقدمه مذيع يدعى “محسن السيسي”، ويؤدي دوره “ماجد الكدواني”، فتمثل صوت الضمير، الذي يحاول أن يقدم حالات تستحق الدعم المعنوي والمادي من خلال البرنامج، لرفع الظلم عنهم وكشف مفاسد المجتمع، وهو ما يخالف توجهات مقدم البرنامج، اللاهث وراء الإثارة وجذب المشاهدين، عبر المتاجرة بمثل هذه الحالات.

في ماضي “أسماء”، تظهر فتاة صغيرة، لا تعرف كم تبلغ من العمر، لكن بحسب زعم أمها فهي في الثامنة عشر، ومع ذلك هي الزوجة الثالثة لشقيق “مُسعد”، الذي يعاني من عدم القدرة على الإنجاب، وتكشف هذه الشخصية، حالة القهر التي تعيشها الفتيات اللاتي ينشأن في هذه البيئة الفقيرة التي يعمها الجهل، حيث لا يكترث الأهل إلى استخراج شهادات ميلاد تثبت وجودهن وتضمن حقوقهن، ولا يعنون بتعليمهن، ويزجون بهن في تهلكة الزواج المبكر، وهذه تزوجت برجل متزوج، والأسوأ أنها قد كُتِب عليها الزواج برجل عقيم، ولا يجوز لها أن تتمرد على تلك الزيجة، كما لم تتمرد زوجاته الأخريات، بينما يتزوج هو مرات، ليتأكد من أن عدم الإنجاب، هو السبب فيه وليس النساء اللاتي يتزوجهن واحدة تلو الأخرى.

كلنا في المعاناة شركاء: فايزة تأتي من “678” إلى “أسماء”

في أحد المشاهد ، تصعد “أسماء” إلى الأتوبيس، في اللحظة التي تنزل منه، شخصية “فايزة”  -تؤديها بشرى –  في فيلم “678”، من إنتاج 2010، الذي يتعرض لظاهرة التحرش الجنسي، وكيف يؤثر الفعل نفسه وقبول المجتمع له في نفوسهن، ويستكشف ما يواجهنه إذ قاومن ثقافة الصمت المجبرات على الالتزام بها، خوفًا من الوصم الذي يلاحق كل من تعلن عن تعرضها للتحرش الجنسي خاصة لو كان جسديًا، وهنا تتقاطع  معاناة “أسماء” مع “فايزة”، فكل منهما ينتمي إلى الطبقة الفقيرة المطحونة، ولا مفر من رحلة الأتوبيس اليومية، هما من أولئك المرغمات على الصمت، خوفًا من هذا المجتمع الذي يصمهن، إن فكرن في كسر الحظر المفروض على التألم المكتوم.

البداية: حيث يسكن الخوف

يبدأ الفيلم عندما تذهب “أسماء” الى المستشفى لإجراء عملية  استئصال المرارة، بالتوازي مع مشهد  تسرد فيه تفاصيل عن حياتها الشخصية  في أول مشاركة لها في جلسة دعم نفسي للمتعايشين مع الإيدز، يحذرها شخص ما في المستشفى، من إخبار الأطباء بإصابتها بالإيدز، ويطلب منها أن تدعى إصابتها بفيروس سي، حتى تتمكن من إجراء العملية، ولكن قبل تخديرها، تقرر الاعتراف قائلة  ” أنا عندي الإيدز”، لتبوح البداية بالكثير عن واقع المتعايشين مع هذا المرض تحديدًا.

في المجتمع الذكوري: النساء يتحملن مسؤولية إصابة الذكور بــ”الإيدز”

حتى الوصم الاجتماعي الذي يواجهه المصابون بالإيدز، بكل ما فيه من قُبح يزداد وحشية مع النساء منهم،  لما ينطوي عليه من تمييز ضدهن بسبب جنسهن، فهذا المجتمع ينظر للمتعايشات مع الإيدز أو متلازمة نقص المناعة المكتسبة، باعتبارهن ساقطات هذا المجتمع اللاتي نقلن المرض للرجال، فتبقى سهام الاتهام موجهة صوب “أسماء”، على لسان شقيق “مُسعد” وأهل البلدة، بزعم أنها من نقلت إليه الفيروس، وهو ما يجعلهم يمتنعون عن حضور عزائه، ولذلك تفرض على نفسها العزلة في القاهرة، حتى لا يعلم أحد بمرضها، فيطلق العنان لخياله، ويختلق حكايات تدور في فلك  الخطايا غير المغفورة بالطبع للنساء، بينما تنزل إلى درجة الخطأ أو اللهو بالنسبة للرجال.

علاوة على ذلك، ينجلي الجهل بالمرض ودواع انتقاله من شخص لاَخر، وهو ما يبرزه مشهد رفض زملاء “أسماء” استمرارها في العمل في المطار، خوفًا من أن تنقل إليهم الفيروس، ويتكرر عندما تلحق بها إحدى زميلاتها لتعطيها بعض المال لمساعدتها فتضع النقود على الأرض، حتى لا تلامس يدها.

مصدر الاَلم في الماضي مجهول

لم ينشغل “عمرو سلامة”  طوال الفيلم، أو يُشغل المشاهدين بالسبب وراء إصابة المتعايشين مع الإيدز، باستثناء “شفيق” الذي يريد الزواج بـ”أسماء”،  ليبتعد بذلك عن إصدار الأحكام الأخلاقية، حتى في حالة “أسماء”، فلم يتضح السبب في إصابة “مُسعد” الذي نقل إليها الفيروس، وإن كانت التلميحات البصرية في مشهد زيارتها له في السجن، عندما ظهرت عليه اَثار تعذيب  تقود إلى ما حدث، لكنه لم يركز على تلك التفصيلة، ليكون “الإيدز” واجهة لكشف الجهل الذي يغرق فيه المجتمع، والخوف الذي يتملك حاملو المرض، بسبب نظرة المجتمع وقسوته بحقهم، وتعد واحدة من أصدق الجمل التي تعبر عن هذه الحالة ، التي جاءت على لسانها “زمان كنت بخاف من الضلمة دلوقتى بخاف من النور .. سرسوب نور يخليني صاحية للصبح”.

وانتصرت “أسماء”

تغلبت “أسماء” على مخاوفها، عندما قررت أن تظهر بوجهها فى البرنامج مع المذيع “محسن السيسي”، لتؤكد أن المرض لا يسكن الجسد وإنما يقبع في العقول.

“أنا لما أموت مش هموت من المرض بتاعى .. انا لما أموت هموت من المرض اللى عندكم أنتوا”

ولأول مرة تخلع القفازين، وتزيل الحاجز الذي وضعته بينها وبين الاَخرين من خلالهما. أخيرًا تبتسم “أسماء” بصدق، وتسير منتصبة القامة، وتدخل إلى الشارع الذي تسكن فيه، بمنتهى القوة والتماسك، بينما يتعقبها السكان، وتترصدها عيون الجيران، وهي لا تكترث لأي منهم، معلنة انتصارها على مخاوفها.