أخضر يابس: انتفاضة متأخرة ضد تابو «العُذرية»
أن نثور ضد التابوهات الذكورية متأخرًا أفضل من ألا نثور أبدًا
بيت تهالكت جدرانه، لا تدخله الشمس إلا على استحياء، وفي شرفته، زهور الصبار تعكس جفاف المشاعر الذي يكسوه، وتكشف نافذته، المباني المتداعية حوله، فيما يمر قطار مترو الأنفاق مسرعًا أمامه، على عكس حالة البطء التي تعم جنباته، سواء من خلال الأحداث التي تجري داخله أو في وتيرة حياة من يعيشون فيه.
“أخضر يابس” هو أول فيلم روائي طويل للمخرج “محمد حماد”، وهو من الأفلام التي تنتمي إلى تيار السينما المستقلة، وعلى الرغم من إنتاجه في العام 2016، لم تجيز الرقابة عرضه تجاريًا إلا الشهر الجاري، ليبدأ عرضه في 25 أكتوبر في أربع قاعات سينمائية فقط.
تعيش الشقيقتان “إيمان” و”نهى” وحدهما في ذلك البيت، بعد أن توفي الأب والأم والأخ. يبدأ الفيلم بمشهد، تظهر فيه “إيمان” الشقيقة الأكبر مستلقيةً على سرير كشف طبي، وإلى جوارها جهاز فحص سونار، في إحدى المستشفيات الحكومية، حيث تجري فحوصات، على خلفية تأخر دورتها الشهرية لنحو الشهرين، وتتبعها بمجموعة من التحاليل بناءً على طلب الطبيب، ليبقى أمامها أسبوع لمعرفة السبب وراء هذا الأمر.
وتدور أحداث الفيلم خلال هذه الأيام القليلة، ونتعرف خلالها على جانب من حياة “إيمان”، التي تنتمي إلى الطبقة الفقيرة، في مدينة القاهرة، المثقلة بالهموم؛ هي امرأة منصاعة للأعراف الاجتماعية والتقاليد، ولذلك نجدها على الرغم من العلاقات شبه المنقطعة مع أعمامها، تحاول إقناع أي منهم بحضور الزيارة المرتقبة لشاب وأسرته، بغية طلب الزواج من شقيقتها الصغرى “نهى”، وذلك التزامًا منها بالعرف الذي يقضي بوجوب وجود “راجل العائلة” أمام “العريس وأهله”.
تبدو “إيمان” ملتزمة دينيًا – بالشكل النمطي – حتى إن كان حجابها هو سمة الطبقة التي تنتمي إليها، لكنها لا تنقطع عن الصلاة ومناجاة الله في سرها، فيما أشبه بالطقس الثابت.
نحن أمام امرأة، تتسم بالجمود؛ قليلة الكلام، وجهها شاحب، عيناها منكسرتان طوال الوقت، لم تمر على شفتيها ابتسامةٌ سوى مرة واحدة، وكانت مفتعلة أمام أحد زبائن محل الحلوى الذي تعمل فيه.
أيضــــــــــــــــــًا.. قراءة في وضعية المرأة في الأفيش السينمائي المصري (1930 – 2016)
على الرغم من لحظات الصمت الطويلة نسبيًا، ومحدودية الكلام، فقد لعب ذلك دورًا متميزًا في إظهار التيبُس الذي التهم روح “إيمان” ومن ثم جسدها، في كنف حياة بائسة، أيامها متشابهة، حتى الحدث المتغير فيها لا يقل بؤسًا عن البقية.
الفيلم من تأليف محمد حماد، ومن بطولة؛ هبة علي، وأسماء فوزي، وجون إكرام، وأحمد العايدي.
تتبع الكاميرا مشوار “إيمان” اليومي، بداية من غسل الوجه بالمياه، وكأنها تحاول أن تعيد الحياة للجسد الذي ذبل، ثم وقوفها أمام المراَة، تتصرف بشكل اَلي، وهي تغطي بالطرحة شعرها، المقبوض دائمًا في كعكة لا تتنفس الهواء ولا تخترقها أشعة الشمس، ثم خروجها من الشقة، ونزولها على الدرج اللولبي، في عقار يظل جوفه مظلمًا، حتى في وضح النهار.
تستقل “إيمان” قطار مترو مصر الجديدة يوميًا، إما للذهاب إلى محل الحلوى، أو للعودة إلى منزلها، وتمثل رحلة هذا القطار المتهالك المعادل الموضوعي لرحلتها الحياتية، يؤدي القطار رحلته اليومية ذهابًا وإيابًا بنفس البطء، حتى عبره الزمن، ولا يجوز له تغيير وجهته أو زيادة سرعته، طالما يقوده سائق ملتزم بقواعد المنظومة الهَرِمة.
تذهب “إيمان” لأعمامها الثلاثة واحدًا تلو الاَخر، ولا تجد منهم إلا الخذلان، كما يتبين أن ابن أحدهم ويُدعى “أحمد”، كان مصدر خذلان اَخر في حياتها.
بدون تفاصيل مكتملة، ينكشف أن “إيمان” مرت بتجربة حب فاشلة، لكن بقايا هذا الحب ما زالت عالقة بقلبها، فهذه تجعلها لأول مرة تضع قليلًا من المساحيق على وجهها الشاحب قبل لقائه، وتدفعها أيضًا إلى الاحتفاظ بخاتم الخطوبة في علبة، تخفي فيها أشياءها الخاصة بين بكرات الخيوط. في المقابل، فإن ذلك المحبوب، تركها وتزوج بأخرى، ولم يستمر معها لأكثر من سنة، لأنها لم تُذعِن لأوامره بخدمة أبيه المريض، فيبقى وحيدًا إلى جوار والده الذي قد يرحل في أي لحظة، في حياة لا تختلف في رتابتها عن التي تعيشها “إيمان”.
يمكن النظر إلى شخصية “إيمان”، كونها امرأة لا يمكن لومها، لأنها مثل ملايين النساء المصريات، اللاتي تقتلع الظروف الاجتماعية والاقتصادية، أرواحهن وتُجمِّدها، وتسجن أجسادهن في قوالب تئد تمردهن، وتختزل أنوثتهن في خصوبتهن، وتحرمهن عنوةً من متاع الحياة وملاذها، وقد يدلل على ذلك، الدقائق القليلة التي اختلستها “إيمان” لتتحسس أنوثتها، بعد أن التقطت عيناها فستانًا وردي اللون على فراش شقيقتها، فترتديه وتتجه نحو المراَة، لتتأمل جسدها الذي يبدو ناضرًا لأول مرة، بعد أن تحرر من أردية تفرضها عليها المنظمومة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تعيش في إطارها.
في الوقت نفسه، يمكن النظر إليها، كشخصية سلبية، استسلمت لكل أشكال القهر طواعيةً، وتركت الحياة الروتينية تسرق أحلامها وعمرها أمام عينيها، ولم تتفكر في ذلك أو تتمرد عليه يومًا، حتى أضحت مثل السلحفاة التي تربيها، تتحرك في مجال محدود، بينما الزمن يمضي مسرعًا، حتى تيبست روحها داخل جسدها، الذي تيبس هو الاَخر بعد نفوق الأمل.
على الرغم من أن النفس تنوء بأعباء نفسية وجسدية كثيرة، لم تثور “إيمان” ضد الهيمنة الذكورية على جسدها، متمثلة في “عذريتها”، إلا عندما علمت بأنها واحدة من قلة يصيبهن انقطاع الطمث المبكر، ولم يعد هناك مجال للإنجاب.
أقدمت “إيمان” على فض غشاء بكارتها بإصبعها، في تحدٍ للأعراف والقواعد التي كفنت جسدها لأجلها، وقمعت حريته التزامًا بها، وأرغمته على انتظار الوهم، ومع ذلك جاء تمردها مبتورًا، فلم تتمرد الروح كما تمرد الجسد، وهذا ما تبوح به المشاهد الأخيرة، عندما تظهر “إيمان” في غرفتها، تغلق النافذة، ليخيم الظلام، ثم تغلق الباب، وإمارات الانكسار والكاَبة ترتسم على وجهها، في دلالة على أنه لا مناص من المصير القاتم، وحتى شقيقتها “نهى” التي ظهرت في الغرفة المجاورة، ونافذتها مفتوحة لتدخلها أشعة الشمس الدافئة، بينما تطلي أظافرها بالألوان، سرعان ما تُكرر ما فعلته “إيمان”، وكأن المصير نفسه في انتظارها، لا سيما أن الزياة المنتظرة، لم تحدث وربما لن تحدث.
وصل عدد المهرجانات التي شارك فيها “أخضر يابس” إلى 43 مهرجانًا دوليًا
التيبُس لم يتمكن من “إيمان” جسدًا وروحًا فقط، وإنما نال من كل شيء حولها، ماديًا كان أو معنويًا، كعلاقتها بشقيقتها، والمباني المحيطة بمنزلهما، وقطار المترو العتيق، وحتى الوجوه التي تطل لثوانٍ في بعض الكادرات.
ومن بين استعارات كثيرة اعتمد عليها المخرج “محمد حماد”، يأتي المسمار ليقول الكلمة الأخيرة، عندما تحاول “إيمان” دقه في الجدران لتعلق الستائر، حتى تخفي تصدعها أمام الزائرين المُنتَظرين، لكنها لا تفلح، فتصبح الحوائط مكشوفةً، بما فيها من ثقوب المسمار.