وجوه تتثبت باتجاه زاوية محددة لمدة ساعتين تقريبًا، عيون تتحرك بين جنبات خشبة المسرح ولا تتعداها، ابتسامات تعلقت بالأفواه، تنمو إلى ضحكات بين الفينة والأخرى، وقد تكتسي الملامح بالانزعاج قليلًا، عندما يستعيد الذهن ذكرى مؤلمة، بسبب مشهد يناظر ما نعايشه قي الواقع المأزوم، هنا السخرية سلاح للمقاومة ويد ترفع اللثام عن العفن الذي يسكن العقول.

هذه هي الحالة التي على الأغلب ستصاحبك  أثناء مشاهدتك لمسرحية «حل الضفاير» التي عُرِضَت على مسرح الفلكي في منطقة وسط البلد، على مدار ثلاثة أيام 13، 14، 15 أكتوبر الجاري، ضمن عروض برنامج «العرض مستمر» الذي  تدعمه السفارة الأمريكية في القاهرة.

المسرحية من إخراج “محمد فؤاد”، الذي اشترك مع “سالي ذهني” في تأليفها، ومن بطولة؛ عليا أشرف، ونانسي علم الدين، وجانا صلاح، وهدير مدحت، ومحمد الدمراوي، ووليد الهندي، وإسماعيل السيد، ومعتز الشاذلي، ومحمد رمضان، وأحمد علاء، وعبد المنعم نصر، وحسن محمد، وديفيد عصام.

رغم العنوان الذي يبدو نسويًا بامتياز، إلا أن العرض لا ينطبق عليه هذا الوصف، وإنما هو أقرب لوصفه بعرض صنعه شباب من الجنسين، للتعبير عن مشكلات جيله، ولكنه أكثر ميلًا إلى استعراض مشاكل الإناث، ومعاناتهن تحت وطأة الهيمنة الذكورية.

تتكون المسرحية من خمسة اسكتشات، (الاسكتش: قطعة مسرحية قصيرة، ذات طابع هزلي)، ومن خلالها ينجلي حجم العنف الواقع على النساء في المجتمع، ويقودهن في النهاية إلى الانسلاخ من أنفسهن.

الشخصية الرئيسة تدعى “نور”، وهي طفلة تتركها شقيقتها في البيت وحيدة، حتى تذهب مع صديقاتها في رحلة لمدة يوم واحد، لتجد الصغيرة نفسها مع كتاب شقيقتها المعنون بــ«حل الضفاير»، ليرافقها ويؤنس وحدتها من خلال قصصه الخمس.

القصة الأولى التي تتعرف عليها “نور”، تغير نظرتها لفكرة الأشقاء الذكور، الذين تفتقد حضورهم في حياتها، وتظن أنهم قد يكونون  أكثر قربًا إليها من شقيقتها لو كانوا موجودين. تُبدد القصة هذه الصورة الحالمة، وتكشف لها أن العلاقة بين الأخوة الذكور وأختهم، يحكمها الرغبة في السيطرة والسطوة، فضلًا عن التعامل معها باعتبارها سلعة، يتبارون في اختيار مظهرها الأفضل، وفقًا لقناعاتهم الذكورية؛ فأحدهم يؤيد اختيارها لفستان أنثوي، ودافعه أن يساعدها ذلك في اجتذاب عريس، واَخر يرى الأفضل أن تتخفى في عباءة وطرحة سوداء، حتى لا يلاحقها أحد بنظراته، وذلك ليس خوفًا منه أن تتعرض للتحرش، وإنما لأنه يرى ذلك طعنًا في رجولته.

ويستمر الخلاف بين الأشقاء الذكور في تحديد مظهر شقيقتهم، حتى تقرر الفتاة أن ترتدي بدلة رجالية، بعد أن بدا واضحًا أن المشكلة الرئيسة بالنسبة لهم، تتمثل في كونها أنثى، يحاولون طمس ملامحها، ويتعمدون انتزاع حقها في الاختيار.

تعَّرض أحد الاسكتشات إلى ظاهرة التحرش الجنسي، والتناول الإعلامي لوقائعها، وكيف تذهب البرامج التلفزيونية إلى تحويل الواقعة إلى حدث يُتَاجر بتفاصيله وشخوصه، عبر الشاشات لاكتساب مزيد من المشاهدين وبالتالي اتساع المساحات الإعلانية. وقد عمد صناع المسرحية، إلى اختيار قالب البرامج الرياضية، إذ يتعامل مقدم البرنامج مع واقعة تحرش جنسي باعتبارها مباراة كرة قدم، يحللها مع أشخاص غير معنيين بالقضية ولا على دراية بها.

ويُظهِر الاسكتش جمهور المتابعين للبرنامج، يبررون التحرش ويُحمِّلون الناجية منه مسؤولية التعرض له، من منطلق “إيه اللي وداها هناك”،  الذي كان شعارًا قبل سنوات لإلقاء اللوم على الناجيات، حتى إن لم تردده الألسنة صراحةً، يبقى منطقه حاضرًا، كما يستعرض الاسكتش تعامل الإعلاميين مع المدافعين والمعنيين بقضايا النساء، فتصبح كلماتهم المحتجة عبثًا، والأرقام الموثقة التي يستندون إليها افتراءً، والواقع المؤسف إدعاءً كاذبًا.

أن تكونين امرأة ومتفوقة في مصر.. صعب بل إنه مستحيل، هذه المسألة تصبح أمرًا واقعًا من خلال قصة “إيمان” البطلة الرياضية التي فضلت البقاء في مصر على أمل التقدم في المراكز، والظفر ببطولات إقليمية ومن ثم دولية، بينما اختارت صديقتها، السفر إلى الخارج، إيمانًا بأن الفرص والتفوق لا مكان لهما في مصر خاصة لو كنتِ أنثى.

تصطدم “إيمان” في طريقها بعدة عوائق، تقتل أحلامها، وتدهس طموحاتها تحت أقدام الذكورية، بداية من خطيبها الذي تركها بسبب تمسكها بمشوارها الرياضي، وإصرارها على التقدم فيه وحصد البطولات وكسر الأرقام، ثم تعسف إتحاد اللعبة معها لا لسبب سوى لأنها أنثى، ومن ثم إرغامها من قبل والديها على الزواج والتخلي عن تطلعاتها، لينتهي بها الحال امرأة، لم تتعرف عليها صديقتها التي عادت إلى مصر بطلةً.

القضية نفسها، تناولها العرض مرة أخرى بشكل عابر من خلال كلمات قليلة على لسان “نور”، تحكي قصة أمها، التي كانت مغنية في دار الأوبرا، وبسبب غنائها، فُسِخت خطبتها مرتين، وعندما تزوجت انصاعت لقرار زوجها، وكفت عن الغناء.

العرض برمته اكتسته حالة من الوهج والألق، تعود إلى النص المكتوب بالتوازي مع رؤية المخرج، الذي أجاد بدرجة كبيرة في ضبط الإيقاع وتجنب الرسائل المباشرة، تحديدًا في معالجته لظاهرة التحرش الجنسي في الاسكتش الثالث، علاوةً على حضور لافت وأداء متميز للممثلات والممثلين في الأدوار المتنوعة التي قدموها.

ربما لم تنجح الفتيات في نقض الضفائر كليًا، لكنهن حاولن في كل قصة فكها، إلا أن المجتمع لم يكف عن نسجها ولا يبدو أنه سيفعل.

تبقى الفرصة سانحة أمام من يريد مشاهدة «حل الضفاير»، الذي يعود إلى مسرح الفلكي مجددًا  في الثالث من نوفمبر المقبل ليستمر حتى الثامن من الشهر نفسه.